عندما طُلب من الحكيم اليوناني “صولون” أن يستلم السلطة في (أثينا) كي يُصلح أمور البلاد بعد أن سادتها الفوضى والتناقضات والصراعات الطبقيّة والاجتماعيّة, وافق على طلبهم, واستطاع أن يقود أثينا بمجتمعها إلى الاستقرار والأمان. وعندما انتهت مدة حكمه, طالبه الشعب أن يحكم مدى حياته قال لمطالبيه: (إن الدكتاتوريّة مقام جميل, ولكن طريق النزول منه غير معروف).
لا شك أن لتجارب التاريخ دوراً كبيراً في تعلم الدروس لمن يريد أن يتعلم منها, وأول تجربة من تجاربه, هي أن التاريخ لا يعيد نفسه, ولكنه قادر بتجاربه أن يعلمنا أين وقع الآخرون قبلنا في الأخطاء وأين أصابوا عبر مسيرتهم التاريخيّة إن أردنا أن نتعلم, وبالتالي كيف نستطيع نحن أن نستفيد من تجاربهم, عندما نتجنب الخطأ ونستمد من الصواب ما يخدم دولنا وشعوبنا, والمرحلة التاريخيّة التي نعيشها.
ففي السياسة التي تشكل الظاهرة الأهم في تاريخ الشعوب, والتي على أساسها أقيمت دول وانهارت أخرى, فمن هذه الظاهرة السياسية انبثقت أو تشكلت أنظمة حكم ودُونت دساتير وشُرعت قوانيين, وأُلفت كتب في طبيعتها وحواملها الاجتماعيّة وأهدافها وآليّة عملها, بغية تحقيق العدل والمساواة, أو نفي ممارسة الظلم والاستبداد عبرها. فكل ما مرت به الشعوب من تجارب, يشكل لنا اليوم دروساً تاريخيّة عميقة ستعلمنا إذا ما نظرنا فيها كيف تُساس البلاد والعباد بالعدل والمساوة, فتسموا الشعوب وترقى, وكيف تساس البلاد وشعوبها أيضاً بالظلم والاستبداد فتنحط وتنهار وتنزل إلى الدرك الأسفل من التخلف والانحطاط.
أمام ما جئنا إليه أعلاه, وانطلاقاً من كل ما جلبته لنا أنظمة القهر والظلم والاستبداد في عالمنا العربيّ من دمار وفساد وتخلف خلال تلك السنين الطويلة, والتي رحنا نحصد نتائجها المفجعة تحت راية ما سمي اليوم بثورات الربيع العربيّ, يظل السؤال المشروع يطرح نفسه علينا هنا وهو:
ترى هل نتعلم ويتعلم حكامنا من تجارب التاريخ, ونعيد حساباتنا من جديد من أجل أن نتجاوز مأساتنا وما نحن فيه من جهل وقهر وظلم وتخلف وفساد ويباس في الروح والفكر والعقل, وكره لكل ما ننتمي إليه نحن اليوم وفي مقدمته الوطن ذاته؟.
أعتقد أن الاجابة مرهونة أولاً وقبل أي شيء آخر في القوى التي لم تزل تسيطر على دفة الحكم في بلادنا العربية, بغض النظر عن طبيعتها ومرجعياتها شرعيّة كانت أم غير شرعيّة, طبقيّة كانت أم غير طبقيّة, حزبيّة كانت أم غير حزبيّة, عشائريّة أو قبليّة أو طائفيّة كانت أو غير ذلك … الخ. مثلما هي الاجابة ذاتها مرهونة بالمعارضة أيضاً التي تطمح في الوصول إلى السلطة. وكلاهما – المعارضة والحكومة – عليهما أن يتعلما من تجارب التاريخ, وبخاصة تجاربنا الماضية, أو تجاربنا المريرة المعاصرة في الحكم والمعارضة معاً, التي أودت بنا إلى ما نحن عليه اليوم. هذا ويأتي في مقدمة ما علينا جميعاً التعلم منه هو: كيف نستطيع أن نتخلى عن أنانيتنا ومصالحنا الخاصة جداً.؟. وكيف نعمل من أجل مصلحة الوطن والمواطن والمواطنة؟. والأهم أن نتعلم بأن الوطن لنا نحن, ونحن وحدنا من يحق له أن يقوده حتى ولو اختلفنا, وأن لا نلجأ لأية قوى خارجية نستقوي بها كي نصل إلى السلطة أو نحافظ عليها, وبالتالي نترك هذه القوى تتحكم بنا وبقرارنا؟.
أجزم هنا بأن أحكام القيمة المجردة لا تحرك أصغر نبته في الأرض. وأن مشاريع فضيلة القائمة على الأخلاق والوعظ والتسويق الشعاري فقط, دون الممارسة, لن تحقق لنا ما نريد, إذا لم نبحث عن القوانين التي تتحكم بظروفنا الموضوعيّة والذاتيّة التي تعمل على إنتاج أحكام القيمة ذاتها أو تحدد طبيعتها. فالمجتمعات لكي تحقق أمنها واستقرارها, عليها أن لا تتحرك بعفويّة, ولا بدوافع غريزيّة, أو أهواء شخصيّة تحددها المصالح الخاصة فحسب, بل إن كل هذه الدوافع والأهواء والمصالح محكومة بشروطها وعلاقاتها الاجتماعيّة, أي بالوجود الاجتماعيّ, وطبيعة نمط الإنتاج السائد في مرحلة تاريخيّة محددةً. وبالتالي علينا بداية أن ننظر إذن في العوامل الأساسيّة التي تتحكم في سيرورة وصيرورة حياة الناس. أي بتعبير آخر, النظر في طبيعة قوى وعلاقات الانتاج السائدة ودرجة تطورها وما تفرضه درجة التطور هذه من علاقات اجتماعيّة وسياسيّة واقتصاديّة وثقافيّة في حياتنا. فمع معرفتنا العلميّة العقلانيّة بطبيعة هذه العوامل الأساسيّة, نستطيع عند ذاك أن نقرر طبيعة وشكل وآليّة عمل الأنظمة السياسيّة وحواملها الاجتماعيّة التي يعوّل عليها المشروع النهضويّ المراد تحقيقه في مجتمعاتنا. ونظراً لتعدد العوامل التي تساهم في تحقيق تقدم الدول والمجتمعات, والموزعة ما بين الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة والثقافيّة والأخلاقيّة, وما تتضمنه من تفريعات متشابكة ومعقدة, سنقتصر في هذه الدراسة على مسألة أساسيّة هنا تتعلق في الجانب السياسيّ, وهي ” الديمقراطيّة” لما لها من أهمية في ضبط وتوجه آلية عمل السلطة, وحواملها الذان يعوّل عليهما تحقيق النهضة والتقدم للشعوب في أي مرحلة من مراحل التاريخ, وبخاصة المرحلة التاريخيّة المعاصرة. فالذي لا يمكن أن يتحقق بالدين, يتحقق بالسياسة على حد مقولة عثمان بن عفان” (ما لا يزع بالقرآن يزع بالسلطان).
على العموم تظل مسألة كيفيّة الوصول إلى السلطة, وممارسة الحق الانتخابيّ أو السياسيّ عبر الطريق الديمقراطيّ, هي العامل الأكثر قوة في إدارة شؤون الدولة والمجتمع, وبالتالي لا يمكن اعتبار أي حق انتخابيّ أو سياسيّ حائزاً على صفته الايجابيّة, إذا ظل يستخدم الخرائط المجردة أو التجريديّة, أو المصلحيّة والتسوياتيّة للمساواة وغيرها من التعابير الفضفاضة والمثاليّة للديمقراطيّة, بالرغم من أهمية المعرفة النظريّة لهذه الديمقراطيّة وكيف ظهرت ومورست مع قيام الثورة الصناعيّة ونمو الطبقة البرجوازيّة ذاتها صاحبة المشروع الديمقراطيّ الليبراليّ الكلاسيكي, وطرح نفسها لقيادة الدولة والمجتمع أمام سلطة الملك ولكنيسة والنبلاء الاستبداديّة. فهذه المعرفة ذاتها بالنسبة لشعوب وقيادات عالمنا العربيّ السياسيّة, أمراً على غاية من الأهمية إذا ما أرادت هذه القيادات أن تمارس فعلاً سياسيّاً إيجابيّاً في دولنا ومجتمعاتنا العربيّة, سياسة تصب في مصلحة الشعب بكل مكوناته, وليس في مصلحة العشيرة والقبيلة والطائفة والأسرة والحزب الحاكم.
إن الحق الانتخابيّ أو السياسيّ الايجابيّ يجب أن ينطلق من العلاقات الاجتماعيّة السائدة وطبيعة مكوناتها أولاً, وليس من العلاقات الاقتصاديّة والسياسيّة التي خُلِقَ هذا الحق الانتخابيّ من أجلها في الأنظمة الاستبداديّة, أي الحق الذي تحدده القوى الحاكمة والمالكة المستغلة خدمة لمصالحها بعد وصولها إلى السلطة, فأي حق انتخابيّ معزول عن الواقع الاجتماعيّ, ولا يصب في مصلحة المجتمع بكل مكوناته الدينيّة والعرقيّة والسياسيّة, وبخاصة القوى الاجتماعيّة المستَغَلة والمضطَهدة, ما هو في الحقيقة إلا وجه من أوجه العدالة الشكليّة, وبالتالي لا يمكن لهذا الحق الانتخابيّ في بعده (السياسيّ) أن يكون أداة حيويّة بيد قوى الشعب العاملة. إن هذا ما هو إلا موقفاً افتراضيّاً ومصادرة للوضع الحقوقيّ لدولة القانون ومجتمعها المدني, ومحاولة ملاءمته مع الوضع الاقتصاديّ المتشكل أو القائم الخادم للقوى المالكة الحاكمة, على حساب تحقيق المجتمع العادل, أو الدولة العادلة.
إن حجب الحقوق كقاعدة عامة ولزمن طويل عن مجموعات كبيرة من المكونات الاجتماعيّة وخاصة المعبرة عن القوى الاجتماعيّة العاملة ومنها البرجوازيّة الصغيرة وبعض شرائح الملكيّة الخاصة غير المستغِلة, دون الأخذ بالحسبان الوقت والهدف المعين لهذا الحجب, هو ارتجال غير قادر على استمراريّة الحياة .
إن الديمقراطية كوجه من أوجه الحريّة, وخاصة السياسيّة منها, بالرغم من أهمية الوجه الاجتماعي والاقتصادي منها أيضاً, هي تمثل بهذا الشكل أو ذاك في جانبها السياسيّ حريّة المعارضة أيضاً, لذلك لا يمكننا أن نعتبر شكل الحريّة في شقها الديمقراطيّ الذي يعطى لأنصار الحكومة مهما يكن شكلها أو طبيعة نظامها, أو لأعضاء الحزب الواحد مهما كان يشكل هذا الحزب عدديّاً, حريّة حقيقيّة أو ديمقراطيّة حقيقيّة. ومن هذا المنطلق نقول بالنسبة للأنظمة التي تريد تطبيق أهداف العدالة والتنمية من الأعلى, أي وفقاً لما يرتأيه الحاكم, لا يمكن أن يعتبر التحقق العملي لهذه الأهداف في هذه الدول أو المجتمعات عبر تجميع جملة من المقترحات الجاهزة للتطبيق قد أقرتها مؤتمرات الحزب ومنظماته, أو مجالس تشريعيّة صوريّة عينها هذا الملك أو الأمير أو الحزب الحاكم, من منطلق أنها أنظمة اقتصاديّة واجتماعيّة وحقوقيّة تمثل مصالح قوى الشعب بكل فئاته, وأنها وحدها القادرة على وضع أهداف التنمية للدولة والمجتمع. بل أن هذا الأنظمة في مثل هذا الموقف الفكريّ والعمليّ ستقع كاملا في مضمار الوصايّة على الدولة والجماهير معاً.
إن أي برنامج, أو أي كتاب تعليميّ لأي حزب أو أيّة قوى سياسيّة داخل السلطة أو خارجها, لا تقدم توضيحات كاملة لألاف الحلول العمليّة كبيرها وصغيرها التي يجب استخدامها عند كل خطوة لتحقيق مبادئ أو أهداف التنمية والنهضة وتحقيق العدالة والمساواة داخل الدولة والمجتمع, في الاقتصاد, والحقوق والسياسة والأخلاق وفي العلاقات الاجتماعيّة, هي شكل من أشكال الثمار غير الناضجة … لذلك يجب على القوى السياسيّة في أي نظام الاجتماعيّ, أو في الدولة التي هي هنا بالضرورة عبارة عن ثمرة تاريخيّة تنضج ثمارها في مدرسة الخبرة الخاصة لهذا المجتمع أو ذاك بكل مكوناته, إن أرادت هذه القوى السياسيّة بشقيها, المعارضة والحكومة أن يصبح لمجتمعاتها أو دولها, تاريخاً حياً أو يقترب من الطبيعة الحيّة الذي هو جزء منها, وأن يمتلك هذا التاريخ خصالاً تتناغم مع الاحتياجات الاجتماعيّة الحقيقيّة ووسائل إرضائها. وإذا كان الأمر غير ذلك, فلا يمكن السير نحو صناعة التاريخ الحي لمجتمعاتها ودولها عن طريق المراسيم من الأعلى أو الأوامر أو الوصاية على الشعب. مع تأكيدنا بطبيعة الحال أن هذا لا يعفي من حتمية أو ضرورة استخدام أو ممارسة بعض الأساليب الجبريّة أو القسريّة “العنف المعقلن” ضد القوى الاجتماعيّة التي تريد عرقلة هذه المهمة التاريخيّة العقلانيّة التي يسعى إلى تحقيقها المجتمع بكل مكوناته والقوى الحاكمة الممثلة لتطلعاته, وهي هنا القوى الرجعيّة المستغلة ومن يساندها من رجال دين أو مثقفي السلطة – أية سلطة – الذين يبيعون أنفسهم للشيطان دائماً, أو قوى طائفيّة أو مذهبيّة أو عرقيّة انفصاليّة.
نستطيع القول إذاً: إننا لا يمكن إشادة أي بناء إيجابيّ في الدولة والمجتمع على مثل هذا الطريق السلبي في البناء, أي عن طريق المراسيم والأوامريّة والوصاية. إننا هنا نحتاج إلى تجربة وخبرة الشعوب والدول التي تخلى فيها حكامها ومعارضتها عن شهوة السلطة والمنافع الشخصيّة الضيقة, هذه الخبرة التي تجلب لنا دائما تصحيحات وطرق جديدة وفق الحياة الهائجة بالأشكال الجديدة في بناء دولة العدالة والمساواة والقانون, دولة الديمقراطيّة والحريّة والتعدديّة السياسيّة وتداول السلطة, أي الدولة العلمانيّة, أو الدولة المدنيّة. وليس عيباً أن نقع أحياناً في بعض الأخطاء عند اعتمادنا أو استفادتنا من هذه التجارب بما تحمله بعضها من ارتجال لم يراع خصوصيات العصر والمرحلة المعيوشة, إلا أن هذا الارتجال الذي أستطيع أن أعطيه الصفة “الثوريّة”, يمتلك قوة إبداعيّة, وليس من العيب بشيء عندما نقوم بالتراجع عن خطوات أثبت الزمان والمكان خطأها, وكلف الدول وشعوبها الكثير من المعاناة.
نعم…عندما لا تقوم الحكومة بتجديد الحريات, أي بتوسيع مجال نشاطها اجتماعيّاً وسياسيّاً واقتصاديّاً وثقافيّاً, وتظل تتمسك بطرفيّ سلسلة معادلة الحريّة والديمقراطيّة من باب الوصايّة على الجماهر والدولة معاً, ستصبح الحياة الجماهيريّة مملة ومزيفة, وعديمة الثمار. وعندما تُقهر الديمقراطيّة أو تسيس وترسم خرائط تطبيقاتها وفقاً لمصلحة القوى الحاكمة فقط, سوف تغلق بذلك الحياة عن مصادرها الخاصة التي تقوم بكل غنى روحيّ وتقدميّ وإبداعيّ. لذلك يجب فتح الباب أمام المشاركة الجماهيريّة في الجانب السياسيّ, وبغير ذلك ستصبح السياسة ذاتها كأنها تملى وترسم من قبل شلة من المحترفين السياسيين الجالسين خلف مناضدهم الذين غالباً ما تسيرهم مصالحهم الأنانية الضيقة أكثر من مصالح الجماهير.
إن الرقابة الجماهيريّة ضرورية جداً وبدونها يصبح تبادل الخبرات محصوراً ضمن حلقة مغلقة من موظفي الحكومة المهيمنة على السلطة, الذين غالباً ما يأتون إلى مناصبهم بقرارات من قبل أصحاب الأمر والنهي, وبناءً على ذلك يصبح الانحلال أو التفسخ والفساد في الدولة والمجتمع محتملًا, لأن من جاء إلى المسؤوليّة عن طريق هذا المسؤول الكبير أو ذاك, لا يهمه إرضاء الجماهير بقدر ما يهمه إرضاء من جاء به إلى منصبه, وعلى هذا الأساس ستتشكل مافيات مرتبطة ببعضها كل واحد يعمل لمصلحة من هو أعلى منه. وهنا تغيب المحاسبة والمراقبة معاً. وحتى عندما يريد أصحاب القرار السياسيّ محاربة الفساد وإصلاح الحال بعد أن يستشري أمره ويصبح طافياً على السطح, تصبح وسائل المحاسبة وطريقة عملها التي تمارس عديمة الفائدة, لأن الحكومة ذاتها مشاركة في صنع هذا التفسخ والفساد, وهذا ما سيؤدي إلى تعميق الأخطاء وتحول الفساد ذاته إلى سرطان لم يعد من السهل القضاء عليه.
إن الدواء الشافي لذلك هو: المراقبة والمحاسبة الجماهيريّة عبر مؤسساتها الاعلاميّة والتنظيميّة والقضائيّة الفاعلة, وعبر واقعيّة النشاط الجماهيريّ الاجتماعيّ (مؤسسات المجتمع المدني والمنظمات الشعبيّة) والحريّة السياسيّة المشروطة بمصالح المجموع والدفاع عن هذه المصالح ضد أعداء الداخل والخارج. أي المشروطة بحدود مصلحة الوطن والمواطن التي يقررها الشعب, وفي مقدمته القوى الاجتماعيّة صاحبة المصلحة الحقيقيّة في النهضة والتقدم.
إن الوصول إلى تحقيق الدولة العادلة, دولة الحريّة والعدالة والمساواة والقانون, يحتاج إلى انقلاب مؤسساتي, في الدولة وآليّة عملها وضبطه عن طريق المراقبة والمحاسبة. كما يحتاج إلى انقلاب قيمي في الأخلاق والتفكير العقلانيّ عند الجماهير ومن يمثلها فعلاً, التي عاشت قروناً طويلة مُجَهَلَةً تحت هيمنة القوى المستغِلة الحاكمة بأمرها. كما يتطلب أيضاً غرائز اجتماعيّة ذات جوهر إنسانيّ تحل محل غرائز الأنانيّة والحقد والتزلف والرياء والكذب والمسكنة وحب التسلط, مثلما تتطلب مبادرات جماهيريّة خلاقة محل الجمود والاستسلام والامتثال والوصاية.
إن الطريق الأمثل برأيي للبعث والتجديد, هو مدرسة الحياة الاجتماعيّة نفسها عبر ممارسة العلمانيّة والديمقراطيّة الواسعة المشروطة حتما بالوعي والمسؤوليّة تجاه الفرد والمجتمع والدولة. فهيمنة الارهاب والقمع والتخوين وتخويف الناس وعدم احترام الرأي والرأي الاخر ومصادرته, هي فساد أخلاقيّ, وبالتالي, هي دمار للفرد والمجتمع والدولة, وما أفرزته ثورات الربيع العربي يؤكد ذلك.
إن تجاوز المؤسسات التمثيليّة النزيهة للجماهير, وخلق مؤسسات على قياس القوى الحاكمة, مع إبعاد للحريّة الكاملة للصحافة والاعلام والاجتماعات والصراع الحر للأفكار, ستبقى البيروقراطيّة هي العنصر الوحيد المهيمن على حياة الدولة والمجتمع, وسوف تغفو الحياة الاجتماعيّة بالتدريج وتعيش بطاقة ضعيفة غير قادرة على النهوض والرقي, وسوف تهيمن المثاليّة والشعاريّه اللامحدودة بقيادة نخبة من السياسيين, وشلة من العقول الذكيّة وغالباً الانتهازيّة, الذين هم تحتهم في المرتبة. والأمر الطريف في الأمر هنا, يجري بين فترة وأخرى استدعاء هذه النخب المختارة بعناية وتبديلها من قبل أولي الأمر رئيساً كان أو ملكاً أو أميراً أو حزباً, وعلى هذه النخب في مناسبات أو لقاءات واجتماعات دورية تصغي فيها هذه النخب إلى خطابات القادة لتؤكد بالإجماع القرارات أو الإملاءات المقترحة. وبهذا تدار الأمور من قبل قلة من المحترفين السياسيين… إنها الديكتاتوريّة بحد ذاتها, دكتاتوريّة الدولة الشموليّة وصفوتها من السياسيين وعلى رأسهم شخصيات كاريزميّة لا يأتيها الباطل من بين يديها أو من خلفها.
لا شك أن المهمة التاريخيّة للجماهير وفي مقدمتها قوى الشعب العاملة تنحصر عند وصولها إلى السلطة في خلق الديمقراطيّة الحقيقيّة, وليست أي ديمقراطيّة أخرى تصنعها هذه القوى السياسيّة أو تلك, أو هذا الحاكم أو ذاك على مقاس استمرارها في السلطة, إنها الديمقراطيّة التي تبدأ على التوازي مع تدمير الطبقة المستغِلة للسلطة من أي شكل كانت, وبأي صيغة تمارس عبرها استغلالها.
إن هذه الديموقراطية يجب أن تنطلق من الشعب وقواه المضطهدة ومن حاجاتهم للعدالة والمساوة والمشاركة في بناء مستقبلهم ومستقبل الأجيال القادمة, وليس من أقلية حزبيّة أو صفوة حاكمة, أو زعيم أوحد, ملك كان أو رئيساً أو أميراً. أي يجب أن تنطلق في كل خطوة تخطوها من المشاركة الفعالة للجماهير ومؤسساتها التشريعيّة والتنفيذيّة والقضائيّة والشعبيّة, وأن تقع تحت التأثير المباشر لها, وأن تخضع لمراقبة ومحاسبة كاملة للمجتمع, معتمدة في ذلك القيم السياسيّة المضطردة الازهار لجماهير الشعب.
كاتب وباحث من سورية