في كل مرة أتناول فيها علاقة المغرب بفرنسا، خاصة مع الأزمات الأخيرة، التي شهدتها العلاقة بين البلدين، إلا وأُرفق فرنسا الحالية بتوصيف «فرنسا ماكرون»، بسبب الوضع الذي توجد عليه اليوم في علاقتها بالمغرب، وهو الوضع الذي لم يسبق أن عاشته منذ ميتران، شيراك وجوسبان إلى فرنسوا هولاند… إلى مختلف الرؤساء الذين تناوبوا على حكم فرنسا من اليسار واليمين، فرغم اختلاف اللون السياسي كانت العلاقة الديبلوماسية بين البلدين تعكس حجم الشراكة، التي تجمعهما، وكان فيها الكثير من الاحترام المتبادل، والتعامل الندي واحترام ثوابت البلدين، وهو ما يجعل من إرفاق فرنسا باسم رئيسها الحالي دلالة على هذا الاستثناء في العلاقة التي ظلت تجمعهما وكانت فيها فرنسا، سابقاً، قبلة المغرب نحو أوروبا كما كان المغرب وجهة فرنسا نحو إفريقيا وشمالها.
هذا الوضع الحالي بات يشهد أزمات متتالية، قد تكون صامتة غير معلنة، لم تصل لحد القطيعة، لكن ذلك لم يمنع من الحديث عن وجودها بسبب حالة الفتور التي تشهدها الديبلوماسيتان.
خلفيات الأزمة:
أولى خلفيات الأزمة الحالية أن فرنسا ماكرون لم تقتنع بعد بأن المغرب، في ما يتعلق بالقضية الوطنية، بات اليوم أكثر أريحية في تدبير هذا الملف من الناحية السياسية، إذ أصبحت الأمم المتحدة تعتبر الحكم الذاتي الحل الوحيد لطي هذا النزاع، كما أن العديد من الدول الأوروبية، التي كانت لها مواقف متذبذبة من الملف، أصبحت أكثر دعما لوحدة المغرب وللحل السياسي الذي طرحه على طاولة المفاوضات مع النظام الجزائري، باعتبار هذا الأخير هو الطرف الأساسي في الملف، وصاحب المصلحة الأولى في استمراره، وقد كان لموقف إسبانيا من مغربية الصحراء، وقبلها الولايات المتحدة الأمريكية، الأثر الكبير في مختلف التحولات التي بات يشهدها الملف إقليميا وأمميا.
توالي هذه المواقف السياسية يبدو أنها أشعرت الرئيس الفرنسي الحالي بأن الوضع يتجاوزه من الناحية السياسية، سواء في العلاقة مع المغرب أو في المنطقة، ولذلك اختار أن يعاند منطق التاريخ وصيرورته التصاعدية المتجهة نحو طي ملف الصحراء، وتحوله لملف غير مُرتهن بالتقلبات السياسية التي قد تحدث في أوروبا أو الغرب عموما، بل أصبح موقف كل هذه الأطراف ثابتا من ثوابت سياستها الخارجية وغير مقتصر على هذه الحكومة أو تلك، ويبدو أن ماكرون أراد أن يُخرج الرئاسة الفرنسية من هذه المعادلة، رغم أن تاريخ فرنسا، سواء مع اليسار أو اليمين، كان تاريخ الشراكة ودعم المغرب سياسيا واقتصاديا، وشكلت فرنسا سابقا ورقة ضغط إيجابية في ملف الصحراء، على صعيد الأمم المتحدة، إلا أنه في الفترة الحالية أراد ماكرون أن يخرج عن هذه القاعدة في العلاقة بين البلدين، بأن يكون غير واضح في موقف بلده من السيادة المغربية على الصحراء، هذه السيادة التي يمارسها المغرب ولا ينتظر إذن أي طرف لتجسيدها على كامل ترابه.
فماكرون اختار أن يخرج عن قواعد العلاقة الدبلوماسية التي ظلت تحكم البلدين، وبدل أن يقوم بتوضيح موقفه والتقدم خطوة نحو المستقبل المشترك لتنضم فرنسا لإسبانيا والولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا وغيرها من الدول العربية والإفريقية واللاتينية، التي تدعم الوحدة الترابية والسيادة الكاملة، وانتقلت من مستوى دعم مبادرة الحكم الذاتي كحل سياسي إلى مستوى آخر من الدعم الواضح للسيادة الكاملة للمغرب على ترابه، مازال يختار التموقع في منطقة رمادية، وهو ما لم يقبله المغرب وعبر عنه العاهل المغربي بوضوح في خطاب العرش وخطاب المسيرة الخضراء.
زيارة وزيرة الخارجية الفرنسية، الخيبة:
لقد كان الجميع ينتظر أن تكون زيارة وزيرة الخارجية الفرنسية للمغرب مناسبة أو مقدمة لتقريب وجهات النظر وجعلها أكثر تطابقا في العديد من القضايا، أولها قضية الصحراء، لكن تصريحاتها في الندوة الصحفية كانت مخيبة للآمال بالنسبة لكل المتابعين لهذه الزيارة، إذ أن موقفها وإن حاولت أن تظهره وكأنه دعم للمغرب لكن بالعودة لمضمونه فهو موقف أقل ما يمكن أن يوصف به أنه موقف تقليدي كلاسيكي، لم يتجاوز المواقف التي ظلت تعلنها فرنسا منذ سنة 2007، وهي مواقف تعلن من خلالها عن دعم مبادرة الحكم الذاتي كإطار سياسي للحل، في حين أن المغرب كان ينتظر في هذه الندوة الصحفية أكثر من تكرار هذا الموقف.
المغرب كان ينتظر أن تكون تصريحاتها مقدمة للإعلان عن دعم واعتراف واضح وصريح بالسيادة الكاملة للمغرب على جل ترابه، وبأن يصاحب هذا الموقف الإعلان عن خطوات دبلوماسية ميدانية، وهو ما لم تقم به وزيرة الخارجية الفرنسية في الندوة الصحفية عندما تناولت قضية الصحراء مما جعل من تصريحاتها مؤشرا عن عدم رغبة فرنسا-ماكرون في المضي قدما في العلاقة مع المغرب، كبلدين جارين لهما مصالح متبادلة وجب حمايتها بشجاعة دبلوماسية ووضوح سياسي لا بالتلاعب بالكلمات والمفردات!
مازاد من حجم الاستغراب في تصريحاتها هو إعلانها أن أزمة « التأشيرات» قد انتهت، في تصريح رسمي من طرفها بشكل يوحي أن المغرب هو من سعى لحل هذا الإشكال، في حين أن تدبير تأشيرة الدخول هو أمر سيادي للدول، وفرنسا لها سيادتها لمنح التأشيرة من عدمها، لكن بتصريحها هذا يتأكد أن فرنسا ماكرون استعملت التأشيرات للضغط على المغرب، وابتزاز مواطنيه… مع العلم أن الأمر يسائل فرنسا ماكرون نفسها من الناحية الأخلاقية، كيف سمحت بأداء المواطنين المغاربة لمبالغ مهمة استفادت منها خزينة الدولة الفرنسية، وهي تعلم أنها سترفض التأشيرات لأسباب سياسية؟ كيف يمكن وصف هذا السلوك لدولة يُفترض أنها عاشت ثورة حقوق الإنسان في القرن 18، أليس في الأمر مساسا بكل القيم التي ظلت مقرونة بفرنسا؟! كيف يمكن أن نسمي حرمان طلبة من حقهم في متابعة دراستهم بفرنسا، وحرمان مرضى من حقهم في العلاج وحرمان عمال من حقهم في العمل… بسبب رفض منحهم التأشيرة لأسباب سياسية!
ما يجب أن تعلمه فرنسا ماكرون:
فرنسا ماكرون يجب عليها أن تعلم أن ملف الصحراء لم يعد موضوع ابتزاز للدولة المغربية، ولا للمساومة، أو المقايضة أو للمفاضلة بينه وبين الجزائر أو جعل قضية الصحراء نقطة في جدول أعمال العلاقة الفرنسية الجزائرية، المغرب لن يسمح بأن يُلعب به كورقة إقليمية، وهي مسألة إجماع لدى المغاربة، فالموقف الرافض لعدم الوضوح في مسألة الصحراء هو موقف دولة وشعب، يعبر عنه الملك وتمارسه الدبلوماسية الرسمية ويدعمه الشعب، ويحب على الدولة الفرنسية أن تكون ذكية جدا لتقرأ خطوتها المتعلقة بمحاولة الضغط على المغرب برفض منح التأشيرات، فلا أحد ممن رُفضت تأشيرته طالب الدولة المغربية بتغيير موقفها، بل الجميع يقف خطا واحدا مع الدولة في ما يتعلق بهذا الملف، فالجميع يريد ويطالب الدول التي تصنف نفسها بشريك للمغرب وتصف نفسها بالصديق… أن تكون مواقفها داعمة لوحدة المغرب الترابية، وأن تكون مواقف هذا الشريك واضحة من ملف الصحراء، فالمغرب ملكا وشعبا، لم يعد يرى العالم الخارجي إلا بمنظار القضية الوطنية، وبموقف الدول من الوحدة الترابية للمغرب … وهذا ما يبدو أن فرنسا ماكرون لم تفهمه بعد !!
عن جريدة الاتحاد الاشتراكي
الكاتب : نوفل البعمري – بتاريخ :الثلاثاء 27/دجنبر /.2022.