الهوية من الغلبة إلى الأمة
الهوية مفهوم تاريخي، بمعنى خضوعها لقوانين التطور، ولأنها لا تتأسس نتيجة الرغبة في العيش والبناء المشترك، ولكن نتيجة للعيش في ظل وضع أنشأه التاريخ، ولوجود عوامل موضوعية عديدة سابقة تفرض نفسها على الرغبة في العيش المشترك. وهي من غير شك تأتي بخطوط مختلفة، إلا أن ذلك لا يلغي الفهم العام لها، باعتبارها بصمة خاصة تميز بين الأفراد أو المجموعات. تسع دائرة الهوية لدى أصغر وحدة في المجتمع، من المنزل، إلى الحي فالمدينة والمقاطعة ثم البلد بأسره، في الدول الحديثة، أو من الفرد فالعائلة ومن ثم العشيرة والقبيلة، أو أتباع الدين والطائفة، في مجتمعات ما قبل الدولة المدنية.
وبقدر تطور المجتمع ونموه، تتشكل هويات بمعاني جديدة، معبرة عن هذا التطور. تتشكل هويات على أساس انتماءات دينية أو طائفية أو إثنية. كما تشكل الأنشطة الاجتماعية، فنية أو رياضية أو ثقافية هويات خاصة، فيصنف الناس على أساس انتماءاتهم أو تبعيتهم لها.. وليس في ذلك ضير، مادامت هذه التصنيفات لا تشكل عبئا على وحدة المجتمع، وأمنه واستقراره ورخائه.
الهويات الصغرى هي نتاج للاجتماع الإنساني، وهي انعكاس للوظائف والمعتقدات والثقافات واللغات والأعراق، ووجودها لا يقتصر على مجتمع بعينه. ومن هنا تكتسب هذه الهويات صفة العالمية. وبروزها في كثير من الحالات، هو عمل دفاعي. فبتحديد التمايز، تخلق متاريس تحول دون اختراقها من قبل أي وافد من خارجها. ومؤسسات المجتمع المدني، في العصر الحديث، اتحادات وجمعيات ونقابات وأحزاب هي من أبرز وسائل الدفاع عن مصالح قوى المجتمع التي تمثلها، في مواجهة جهات أقوى منها.
الهوية الوطنية، هي نتاج التطور من الأشكال القديمة للحكم المستندة على مفهوم الغلبة، إلى بزوغ مفهوم الأمة المرتبط بالدولة المدنية، القائمة على العلاقات التعاقدية بين الحكام والمحكومين. وقبل هذه المرحلة، لم يكن هناك وجود للأمة بشكلها المعاصر، الشكل الذي برز مع تأسيس الدولة المدنية.
قبل تأسس الدولة/ الأمة دولة المواطنة ساد مفهوم الغلبة، وهو مفهوم واسع ومتشعب، وموجه نحو الداخل والخارج معا، من غير تمييز. في الداخل، وبخاصة في أوروبا العصر الوسيط، طغت هيمنة الكنيسة، بادعاء تمثيلها للمسيح على الأرض. وبرزت الصورة الكاريكاتورية لهذا التمثيل في توزيع صكوك الغفران، واحتكار لغة الإنجيل والحق في تفسيره. وعلى صعيد الخارج، استمدت الكنيسة شرعيتها في احتلال أمم الأرض، وبسط هيمنتها على شعوب العالم، بذريعة رسالتها العالمية، وأنها تمثل إرادة المطلق والسلام. وبلغت هذه الحروب قمة ضراوتها، ضد العرب والمسلمين، في الحروب الصليبية، أثناء سيطرة الحكم العثماني، وكانت مواجهة صلاح الدين الأيوبي للاحتلال الصليبي لفلسطين صفحة ناصعة في التاريخ العربي.
مع انتهاء الحرب الكونية الأولى، وشيوع مبادئ الرئيس الأمريكي ويلسون الأربعة عشر، اتفقت عصبة الأمم على إلغاء حق الفتح، وإعلاء مفهوم المواطنة، واعتبار مبدأ تقرير المصير، حقا لا يجوز المساس به. والمعنى المتضمن في هذه المبادئ هو رفض الاستعمار والاستعباد، بشكليهما الخارجي والداخلي. فالاستعمار أضحى شيئا مقيتا، وشيئا من إرث ما قبل قيام الدولة المدنية، دولة العدل والقانون. والدولة المدنية، باعتمادها على القوانين الوضعية، أصبحت في خندق معاد للاحتلال، المتلفع بالرسالة العالمية، بمعنى رفض الذرائع التي استخدمتها الكنسية في الحروب الصليبية.
ولا شك أن الأمة العربية، هي من أكثر المستفيدين من هذا التطور. فإنهاء حق الفتح وإقرار حق تقرير المصير، ورفض ذريعة حق الفتح، كلها تعنى أن يصبح العرب أحرارا، فتنتهي تبعيتهم للحكم العثماني. وكان ذلك تطورا مهما في الوعي السياسي لشعوب هذه المنطقة، رغم أن الاستعمارين الفرنسي والبريطاني، وجدوا مخارج قانونية، مغلفة بالأخذ بشعوبنا نحو الرقي والتقدم، فاستحدثت مفردات الحماية والوصاية والانتداب لاستمرار هيمنة الغرب التقليدي على مقدراتنا، لكن ذلك حمل في طياته اعترافا صريحا بإدانة الاستعمار.
الظروف الموضوعية التي أسعفت الغرب للانتقال من هيمنة الكنيسة والإقطاع للدولة المدنية، لم تسعفنا في هذه المنطقة. والأسباب كثيرة، الأهم بينها هو تعطل النمو السياسي والاقتصادي في مجتمعاتنا العربية، وضعف الهياكل الاجتماعية. لكن ذلك لا يلغي أهمية الفعل الإرادي الإنساني لخلق الظروف الموضوعية لإعلاء شأن دولة المواطنة.
دولة المواطنة، تتطلب انتقالا سريعا من الغلبة، إلى الدولة الأمة. وأساسها صياغة الهياكل على قاعدة المساواة، والاعتراف بحق كل المواطنين في الاستخدام الإيجابي لمقدرات وثروات بلدانهم من غير تمييز.
وكهذا توجه، ليس من السهل الانتقال به من التنظير إلى الواقع. ولعل أهم معوق له هو طغيان الهويات الجزئية على هوية المواطنة. وليس من شك في أن الحد من تغول الهويات الصغرى يتطلب ثقافة جديدة، وإقرارا بالتعددية والتنوع، حالنا في ذلك حال المجتمعات الإنسانية الأخرى.
ففي حضن وطننا العربي، هناك أعراق عاشت معنا آلاف السنين، ولها عاداتها وثقافاتها وصبواتها. وبيننا أيضا من لا ينتمي إلى الإسلام في عدد كبير من الأقطار العربية: مصر والعراق ولبنان وسوريا والأردن وفلسطين والسودان والمغرب… ويضم الوطن العربي طوائف دينية، تختلف في نظرتها للتاريخ، وفي قراءتها للفقه. لن يكون بالإمكان، في عصرنا الكوني هذا، استعارة قوانين وأعراف ما قبل الدولة المدنية، وتطبيقها على المواطنين، من القوميات والديانات والطوائف، التي تمثل أقليات في الأقطار العربية، لأن ذلك إضافة إلى أنه تعد على الحقوق، فإنه خدش لمفهوم المواطنة.
في هذا المنعطف من التاريخ، حيث تنوء الأمة بصراعات اجتماعية مريرة، مهددة وحدة الشعوب والأوطان، لا مناص من استعادة روح دولة المواطنة، وإعلاء الهوية الوطنية، وتجريم الانتماء السياسي لغير الوطن، واعتبار التنوع عامل تخصيب وإثراء للثقافة العربية، وترسيخا لمبدأ المساواة في الحقوق دون تمييز، والامتناع عن التدخل في الشؤون الداخلية للبلدان الأخرى، وإعادة الاعتبار لرفض مبدأ حق الفتح، حتى وهو يتذرع مجددا بالرسالة العالمية، مع اختلاف العناوين. قدر مجتمعاتنا العربية، أن تتعايش مع بعض وأن يسود السلم الأهلي بينها، فتقبل بالتمايز والاختلاف، وتعلي من شأن الوطن، وتسد ذرائع العدوان، ولن يتحقق ذلك إلا بتراجع دور الهويات الصغرى لصالح الهوية الوطنية، وتراجع قانون الغلبة لصالح مفهوم الأمة.
عن موقع جريدة التجديد العربي