9 – الجزائر والمغرب وموريتانيا في مواجهة المخطط الأسباني في الصحراء
لكل نزاع إقليمي مرجعيته وإحالاته التاريخية والقانونية والسياسية، ولكل نزاع إقليمي أيضا بهاراته الخاصة. وتشريح أسس أي نزاع لن يستقيم دون وضع كل مكوناته على طاولة التحليل، بيد أن نزاعات القارة الإفريقية وصمت بالفعل الاستعماري، الذي مزق القارة بمقص ترك آثاره في النسيج الإثني إلى يومنا هذا في عدد من المناطق، وانعكس ذلك في خريطة النزاعات اٌلإقليمية، الشيء الذي جعل « الوحدة الوطنية» عرضة لكل الحسابات الإقليمية والدولية. ولنزاع الصحراء نكهته الخاصة، إذ ربط بين 3 أبعاد إقليمية:
المطلب المغربي في وحدته الترابية والوطنية، وهو عامل شيد ما عرف في تاريخ المغرب الراهن ب»الإجماع الوطني»، الذي لعب دورا كبيرا في تلاحم المؤسسات المغربية، وتخفيف التناقضات السياسية الداخلية ، مع مد وجزر بين الفينة والأخرى، وشكل الموقف الوطني المغربي الموحد تجاه نزاع الصحراء ورقة سياسية، تأخذ بعين الاعتبار في تقييم الدول لمواقفها في نزاع الصحراء.
إشكال بناء الدولة المدنية في الجزائر والفشل في انتقال مؤسسات الدولة من نظام عسكري مشبع بالفكر الاستعماري الفرنسي، وبواجهات سياسية واقتصادية «متحورة»، إلى دولة مدنية تستند إلى السلم والأمن وبناء الطمأنينة والسلم تجاه الشعب الجزائري، وأيضا مع دول الجوار الست، حيث حولت الحدود إلى مناطق عسكرية خالصة، وأصبح النظام العسكري امتدادا للنظام الاستعماري الفرنسي في المنطقة. والشعارات التي يرفعها الشعب الجزائري في مظاهرات الجمعة والثلاثاء ضد «الدولة العسكرية»، واضحة بما فيه الكفاية لإدراك أزمات شمال غرب إفريقيا.
الموقف الموريتاني تجاه نزاع الصحراء من حيث التقاطع معه ترابيا وسياسيا واستراتيجيا، فتضارب الموقف الرسمي تجاه نزاع الصحراء منذ الستينات إلى يومنا هذا، وإعلان موقف مناقض للواقع السياسي في المنطقة من حيث الاحتماء بالحياد. ترابيا، هناك رغبة في إبقاء الوضع على ما هو عليه ، فوضع المنطقة الممتدة من الكركرات إلى الكويرة، يشكل إحراجا في علاقات الدولة الموريتانية بالنزاع الإقليمي. وأبانت أحداث الكركرات الأخيرة، ودور الموقعين الموريتانيين الزويرات وبولنوار كقاعدتين خلفيتتين للبوليزاريو حساسية الموقف الموريتاني في نزاع الصحراء،وتحاول بعض المواقف الدبلوماسية القفز على هذا الواقع من حين لآخر.
في هذه المقالات، التي تشكل فصولا من كتاب قيد الإعداد، نحاول الإمساك بالبعد اٌلإقليمي لنزاع الصحراء انطلاقا من وثائق الأمم المتحدة ومنظمة الوحدة الإفريقية والجامعة العربية المستندات الرسمية للمملكة المغربية، ووثائق رسمية للدولتين الجزائرية والموريتانية، إضافة إلى وثائق الاتحاد الوطني للقوات الشعبية ومنظمة إلى الأمام وجبهة البوليزاريو.
في ظل فترات الانفتاح بين دول المغرب الكبير، وفي الفترة الممتدة من 1969 إلى 1973، تحركت دول المغرب وموريتانيا والجزائر لمواجهة مخططات الاستعمار الاسباني في الصحراء، امتدادا لموقف المغرب خاصة، وتجاه الانتصار لإجلاء الاستعمار عن «الصحراء الإسبانية» بصفة عامة. واعتبر المغرب حينها وبعد أن ظل الوحيد الذي طرح لأول مرة في الأمم المحتدة مسألة استعمار اسبانيا للصحراء وفي سياق استعادته للمنطقة الخليفية في شمال المغرب، ثم طرفاية (1958) وسيدي إفني (1969)، وبعد اعترافه بموريتانيا في نفس العام، جند المغرب كل قوته لطرح قضية الصحراء في إطار إقليمي. في هذا السياق انعقدت قمة بين المغرب وموريتانيا والجزائر في مدينة نواذيبو بموريتانيا في 14 شتنبر 1970. يحيل البلاغ المشترك إلى روح» اجتماعات واتفاقات ومعاهدات إفران وتلمسان والدار البيضاء..» وبالتأكيد على «العلاقات الأخوية» القائمة بين البلدان الثلاث، التأمت القمة للدراسة المستفيضة «للحالة السائدة في الصحراء الواقعة تحت السيطرة الاسبانية، وتقرر» مضاعفة التعاون الوثيق القائم بينهم للتعجيل بإنهاء استعمار المنطقة، وذلك عملا بقرارات الأمم المتحدة المتصلة بالموضوع». من قرارات هذه القمة إنشاء لجنة تنسيق ثلاثية مهمتها متابعة، على الصعيد السياسي والدبلوماسي، عملية إنهاء استعمار الصحراء. وبرز من خلال هذه القمة ضرورة «الاستكثار» من الاتصالات على جميع المستويات بين الدول الثلاث، وتنسيق السياسات إن على المستوى الإقليمي أو الدولي. ويؤشر البلاغ في خاتمته إلى “الاتفاق التام في وجهات النظر، قرر رؤساء الدول الثلاث الاجتماع مرة أخرى لتقييم تطورات الحالة في المنطقة“.
تعتبر قمة نواذيبو أول لقاء مشترك جدي في مواجهة أسبانيا، علما أن هذه الأخيرة كانت لها علاقات متميزة مع الدول العربية لموقفها المنتصر للقضية الفلسطينية، وأعقب القمة تأسيس لجنة وزارية ثلاثية مكونة من وزراء الخارجية.
اجتمعت هذه اللجنة الوزارية بعد 15 عشر شهرا تقريبا من زمن انعقاد قمة نواذيبو، في الجزائر العاصمة بتاريخ 4 و5 يناير1972. وحضر الاجتماع عبد اللطيف الفلالي، وزير خارجية المغرب، وعبد العزيز بوتفليقة، وزير خارجية الجزائر، وحمدي ولد مكناس، وزير خارجية موريتانيا. في البلاغ الصادر عن القمة الوزارية تم الترحيب ب «إيجابية تطور العلاقات القائمة بين بلدانهم على المستويين الثنائي والإقليمي»، وب «ارتياح كبير الاتفاق التام في وجهات النظر الذي تميزت به المناقشات التي جرت بينهم…» وتم التنصيص على سياسة الأخوة وحسن الجوار وروح التضامن …» دون نسيان «المصير المشترك»، مصطلحات ومضامين ستجل الاستثناء في تاريخ الدول المشترك خاصة بين الجزائر والمغرب. كان بيت القصيد من اجتماع اللجنة الوزارية في هذا التاريخ بالذات هو ملف الصحراء، إذ تسارعت الأحداث على صعيد المنطقة خاصة من لدن إسبانيا في محاولة لاستباق الأمور ووضع الاختيارات الاسبانية كواقع مفروض. من هذا المنطلق نص بيان القمة الوزارية في الجزائر على الحاجة الى تقوية جبهة الدول الثلاث : لدراسة المشاكل ذات الأهمية المشتركة، وبالأخص المشاكل المتعلقة بإنهاء استعمار الصحراء لتي لا تزال واقعة تحت السيطرة الاسبانية». ونص البلاغ المشترك على «تنسيق ومواصلة الجهود» للتعجيل بتحرير الصحراء. مع الإشارة إلى العلاقات الخاصة التي تربطهم باسبانيا من «القضاء على جميع عوامل التوتر الذي قد يعرض للخطر الوفاق والاستقرار والأمن في المنطقة“.
في هذه القمة أيضا تم الاتفاق على برنامج عمل كان من المفروض أن يعرض على رؤساء البلدان الثلاث في الاجتماع الذي تم تحديد زمنه في النصف الثاني من مارس 1972.
كان هذا آخر اجتماع وفاق بين الدول الثلاث مشتركة، فلم تلتئم القمة في مارس 1972، وجرت أحداث كثيرة في المغرب في هذه السنة، وكان المغرب منشغلا بترتيب بيته الداخلي في العام 1972، لكن محادثات جرت بين الدول الثلاث في يونيو 1972.
القمة الوزارية المغاربية 9 ماي 1973
عادت اللجنة الوزارية للدول المغاربية الثلاث للاجتماع مرة أخرى في تاريخ 9 ماي 1973، في سياقات جديدة أبرزت التباعد بين المغرب وموريتانيا من جهة والجزائر من جهة أخرى، في حين كانت اسبانيا تحاول الركوب على الاختلافات القائمة بين الدول المغاربية بغية توجيه المسار السياسي والتاريخي للمنطقة في اتجاه حضور دائم في الصحراء، وذلك عن طريق خلق دولة جديدة في المنطقة. في نفس الزمن بدا للدولة الجزائرية مسار آخر باللعب على تناقضات داخلية في الصحراء، ومحاولة كسب امتدادات داخل النسيج السياسي والمجتمعي داخل الصحراء، وباختيار نظام بومدين الفرصة لسحب ملف الصحراء من المغرب، مع تبني خطابا وحدويا حول الموضوع.
كل المصلحات والكلمات التي أثث بيان 9 ماي 1973، تظهر دون لف أو دوران أن التصدع بدأ يظهر في مواقف الدول المعنية، ولذا ذكر هذا البيان، أن كل وزير أعرب في «جو من الصراحة والصدق والوضوح» عن وجهة نظره فيما يتعلق بتطور جميع مشاكل المنطقة..» وأن النقاش بين الوزراء الثلاث انصب على «تطور الحالة في الصحراء التي لا تزال تحت السيطرة الاسبانية، وأعربوا عن قلقهم بشأن مواقف ونوايا الحكومة الاسبانية من إنهاء استعمارها» للمنطقة. كما أعرب الوزراء الثلاث عن «شجبهم للمناورات التسويفية التي تعتمد إليها الحكومة الاسبانية للتهرب من الالتزامات الملقاة على عاتقها ومن قرارات المراجع الدولية ذات الصلة بالموضوع» ويضيف البلاغ: «كما يؤكدون من جديد عزم حكوماتهم على تضافر ومضاعفة الجهود الرامية لإحباط مناورات الحكومة الاسبانية، وتعجيل إنهاء استعمار الصحراء إنهاءا حقيقيا، وتنفيذ المبادئ التوجيهية التي قررها رؤساء دولهم انسجاما مع روح الاجتماعات المنعقدة في انواذيبو في شتنبر 1970، والمحادثات التي دارت في الرباط في يونيو 1972“.
وتقرر في هذه القمة الوزارية البقاء على اتصال دائم فيما بينهم لمتابعة الوضع في الصحراء. كما نبهوا إلى ضرورة انعقاد قمة لرؤساء الدول الثلاث « لرسم خطة للعمل في ضوء الحالة الجديدة التي خلقتها اسبانيا من طرف واحد، وأنه سيتم تحديد زمن هذه القمة الذي تقرر عقدها في الرباط“.
كان لابد من صياغة دبلوماسية للتعبير على أن الاختلاف في وجهات النظر حول الصحراء لا يعني أن القضية أصبحت خلافا بينهم، ولذلك ختم وزراء الخارجية بلاغهم بالتأكيد على « جو الصراحة» الذي أتاح توضيح المواقف و» تصحيح جميع ما تروجه بعض الدوائر عن عمد من تفسيرات خبيثة لموقف كل من البلدان الثلاث من الصحراء». بيد أن هذه الصيغة وما ورد قبلا، يؤكد أن التصدع واختلاف السيناريوهات نحو خلق مرحلة جديدة ستؤسس لزمن ما سيأتي؟
القمة المغاربية بآكادير يوليوز 1973
انعقدت هذه القمة في آكادير، وبدعوة من الملك الحسن الثاني، يومي 23 و 24 يوليوز 1973، وحضرها الرئيسان ولد داداه وبومدين. وتضمن البيان ما ينبئ عن الإحساس بالمنعطف التي تمر منه المنطقة، فأكد على «الروابط الأخوية وعلاقات الصداقة والتعاون وحسن الجوار التي تميز العلاقات القائمة بين البلدان الأشقاء الثلاث» و«ترسيخ التعاون الراهن مع توسيع آفاقه في جميع المجالات“.
وإذا كانت الجزائر والمغرب « توحدان صفوفهما من أجل مواجهة المخطط الاسباني، بحسابات مختلفة، بخلق دولة في المنطقة»، فإن موريتانيا انخرطت في هذه القمة بإعلان سياسي من لدن ولد داداه بانخراطه في بناء «المغرب العربي»، وهذا ما تضمنه بيان آكادير، إذ رحب الملك الحسن الثاني والرئيس بومدين «ترحيبا كبيرا بالرغبة التي أبداها في هذا الاجتماع صاحب الفخامة الرئيس مختار ولد داداه في أن يرى بلده مندمجا في المغرب العربي ويسهم في بنائه صرحه ويقوي أسس منظماته..» إنه رسالة إلى اسبانيا بأن الدول الثلاث لها اهتمام خاص بما يجري في المنطقة، وأن موريتانيا جزء من مستقبلها، وجاءت الفقرة الموالية في البيان حول ما يجري في الصحراء كبيت القصيد في هذا البيان وسبب اجتماع آكادير، فقد أكد البيان على إعطاء اهتمام خاص لتطور مسألة الصحراء التي ما زالت «تحت سيطرة الاستعمار الاسباني، و «أكدوا من جديد تمسكهم الذي لا يتزعزع بمبدإ تقرير المصير وحرصهم على ضمان تنفيذ هذا المبدإ في إطار يكفل إتاحة الفرصة لسكان الصحراء للتعبير عن إرادتهم تعبيرا حرا وحقيقيا، عملا بقرارات الأمم المتحدة الخاصة بهذه المسألة“
في هذا البيان على الأقل نرى فكرة جعل الصحراء نواة لبناء كيان مغاربي كبير، والتنصيص، على رغبة موريتانيا في الاندماج داخله دليلا على الأولويات للدول الثلاث كي لا تسقط الصحراء إلى الأبد في يد اسبانيا، لكن كان لكل دولة حسابات خاصة. اقترحت القمة فكرة تحويل الصحراء إلى نواة الاندماج الجهوي، وفي هذا السياق قرر رؤساء الدول الثلاث إنشاء طريق رئيسي بين آكادير وتندوف وأطار. هذا يعني جغرافيا إدماج الصحراء في هذا المشروع.
نلاحظ أيضا غياب مصطلح «الشعب الصحراوي» في كل بيانات رؤساء الدول الثلاث، وأن تقرير المصير « لسكان الصحراء» كانت الورقة الأساسية التي أشهرها المغرب منذ الستينات، بل كان المغرب من المدافعين على هذا المبدإ في مواجهة الخطط الاسبانية، وسيفسر الملك الحسن الثاني لبعثة الجمعية العامة لتقصي الوضعية في الصحراء، مفهوم تقرير المصير. ومع ذلك كله، كان الملك الحسن الثاني منفتحا نحو الاندماج الجهوي عبر بوابة الصحراء من أجل «تحقيق التشابك بين مصالح المناطق الإفريقية» وتقوية علاقات التعاون الإقليمي. بل إن بيان آكادير يتحدث عن ربط غرب القارة الإفريقية بمنطقة المغرب الكبير. هذه أهم نقاط لقاء آكادير، والبيان في عمقه، ورغم الاختلاف الخفي في مواقف الدول الثلاث، دعوة إلى مواجهة المشروع الاستعماري الاسباني في الصحراء. وعلى هامش انعقاد هذه القمة قام رؤساء الدول الثلاث بافتتاح سد يوسف بن تاشفين، ولاختيار اسم مؤسس الدولة المرابطية مغزى كبير في هذا الحدث.
لا يمكن أن نغفل في هذا السياق التاريخي حدث تأسيس «جبهة تحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب» ولاختيار هذا الاسم معنى ودلالة واضحة في انسجام الجبهة مع توجهات الدول الثلاث في طرد الاستعمار الاسباني من الصحراء.
تصدع جبهة دول المغرب الكبير
بين يوليوز 1973، ويونيو 1975، جرت أحداث كثيفة كشفت أن الدولة الجزائرية تخطط لتنفيذ ما عجزت عنه اسبانيا في الصحراء، فمع ولادة جبهة البوليزاريو في ماي 1973، تكفل النظام الجزائري بهذه الحركة ليعزلها عن أي اتصال مع النظام الليبي، ثم لتوظيفها في سياق «عقدة الدولة المحورية» لفرض الأمر الواقع على المغرب وموريتانيا واسبانيا.
: 10 – السياق السياسي المغربي والبؤرة الثورية
لكل نزاع إقليمي مرجعيته وإحالاته التاريخية والقانونية والسياسية، ولكل نزاع إقليمي أيضا بهاراته الخاصة. وتشريح أسس أي نزاع لن يستقيم دون وضع كل مكوناته على طاولة التحليل، بيد أن نزاعات القارة الإفريقية وصمت بالفعل الاستعماري، الذي مزق القارة بمقص ترك آثاره في النسيج الإثني إلى يومنا هذا في عدد من المناطق، وانعكس ذلك في خريطة النزاعات اٌلإقليمية، الشيء الذي جعل « الوحدة الوطنية» عرضة لكل الحسابات الإقليمية والدولية. ولنزاع الصحراء نكهته الخاصة، إذ ربط بين 3 أبعاد إقليمية:
المطلب المغربي في وحدته الترابية والوطنية، وهو عامل شيد ما عرف في تاريخ المغرب الراهن ب»الإجماع الوطني»، الذي لعب دورا كبيرا في تلاحم المؤسسات المغربية، وتخفيف التناقضات السياسية الداخلية ، مع مد وجزر بين الفينة والأخرى، وشكل الموقف الوطني المغربي الموحد تجاه نزاع الصحراء ورقة سياسية، تأخذ بعين الاعتبار في تقييم الدول لمواقفها في نزاع الصحراء.
إشكال بناء الدولة المدنية في الجزائر والفشل في انتقال مؤسسات الدولة من نظام عسكري مشبع بالفكر الاستعماري الفرنسي، وبواجهات سياسية واقتصادية «متحورة»، إلى دولة مدنية تستند إلى السلم والأمن وبناء الطمأنينة والسلم تجاه الشعب الجزائري، وأيضا مع دول الجوار الست، حيث حولت الحدود إلى مناطق عسكرية خالصة، وأصبح النظام العسكري امتدادا للنظام الاستعماري الفرنسي في المنطقة. والشعارات التي يرفعها الشعب الجزائري في مظاهرات الجمعة والثلاثاء ضد «الدولة العسكرية»، واضحة بما فيه الكفاية لإدراك أزمات شمال غرب إفريقيا.
الموقف الموريتاني تجاه نزاع الصحراء من حيث التقاطع معه ترابيا وسياسيا واستراتيجيا، فتضارب الموقف الرسمي تجاه نزاع الصحراء منذ الستينات إلى يومنا هذا، وإعلان موقف مناقض للواقع السياسي في المنطقة من حيث الاحتماء بالحياد. ترابيا، هناك رغبة في إبقاء الوضع على ما هو عليه ، فوضع المنطقة الممتدة من الكركرات إلى الكويرة، يشكل إحراجا في علاقات الدولة الموريتانية بالنزاع الإقليمي. وأبانت أحداث الكركرات الأخيرة، ودور الموقعين الموريتانيين الزويرات وبولنوار كقاعدتين خلفيتتين للبوليزاريو حساسية الموقف الموريتاني في نزاع الصحراء،وتحاول بعض المواقف الدبلوماسية القفز على هذا الواقع من حين لآخر.
في هذه المقالات، التي تشكل فصولا من كتاب قيد الإعداد، نحاول الإمساك بالبعد اٌلإقليمي لنزاع الصحراء انطلاقا من وثائق الأمم المتحدة ومنظمة الوحدة الإفريقية والجامعة العربية المستندات الرسمية للمملكة المغربية، ووثائق رسمية للدولتين الجزائرية والموريتانية، إضافة إلى وثائق الاتحاد الوطني للقوات الشعبية ومنظمة إلى الأمام وجبهة البوليزاريو.
عبر المغرب في الفترة الممتدة من 1969 إلى 1973 توترا تجسد في محاولات التنظيم السري المرتبط بالاتحاد الوطني للقوات الشعبية ل «إشعال ثورة شعبية» عن طريق العمل المسلح، وظهور تيارات اليسار الماركسي في سياق ما عرفه العالم آنذاك من تمرد الشباب على المجتمعات التقليدية، وأنظمة الحكم بشتى أشكالها. لم تكن الجزائر وليبيا بعيدة كل البعد عن التأثير بشكل مباشر وغير مباشر، وفي حكي ووثائق مكتوبة لكثير من الفاعلين في هذه المرحلة تفاصيل عن التوظيف السياسي لما كان يجري في المغرب من لدن الأجهزة الأمنية الجزائرية والليبية..
وعرف نفس السياق التاريخي السياسي ذاته في تعاقب الأزمات، محاولتين للانقلاب العسكري، مع بروز الحركات الماركسية، خاصة فصيلي» إلى الإمام» المنحدر من حزب «التحرر والاشتراكية»، و»23 مارس» من الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، متأثرة بمظاهرات الدار البيضاء في مارس 1965 ، وهزيمة العرب في 1967، وانتفاضة الطلبة في فرنسا في سنة 1968، وازدهار الفكر الماركسي في العالم، فنشأت مجموعات يسارية في الجامعة والثانويات، في جو شجع على ظهور «التطرف السياسي»، الذي شكل وعاء التحرك لهذه المجموعات من خلال الاتحاد الوطني لطلبة المغرب والنقابة الوطنية للتلاميذ. وانتهت الأمور بانفرادها بقيادة الاتحاد الوطني لطلبة المغرب في المؤتمر 15 في العام 1972.
كان طموحها هذه المجموعات اليسارية تأسيس حزب ثوري يقود الطبقة العاملة والفلاحين نحو الثورة، في ظل اعتقاد أن هذه الجماهير تجاوزت «إفلاس الأحزاب»، وأن دورها هو «بناء الجبهة المتحدة» لإنجاز الثورة» من خلال «قواعد متحركة» و « قواعد حمراء ثابتة“.
موازاة مع ذلك هدفت العمليات المسلحة بين 1969 و1973 للجناح المسلح داخل الاتحاد الوطني للقوات الشعبية إلى إقامة جمهورية عن طريق ثورة شعبية. في هذا المخاض احتلت قضية الصحراء مكانة مركزية في هذه الديناميات، فالفصيل المسلح داخل الاتحاد الوطني ربط علاقات بالخصوص مع مصطفى الوالي في تندوف على أساس ربط العمل المسلح في الصحراء «الاسبانية»، وفي المدن الكبرى، وفي الأطلس المتوسط. بيد أن فصيل إلى الأمام انفرد في ما بعد برفع شعار تقرير المصير، وأصبحت قضية الصحراء ورقة للطعن في نضالية الأحزاب الوطنية واتهامها بالعمالة والذيلية للحكم، لتتطور الأمور فيما بعد إلى تبني استراتيجية ارتكزت على «نظرية الثورة في المغرب العربي»، تحتل فيها مسألة قيام «الجمهورية الصحراوية» موقعا محوريا داخل هذه النظرية، والتركيز على العمل السياسي والتنظيمي في مناطق التماس مع الصحراء «الاسبانية»، تحضيرا لمباشرة العمل المسلح «لضرب القواعد الخلفية للنظام» والمساهمة في إنجاح «الجمهورية الصحراوية“.
إذا كانت الأحزاب والتنظيمات السياسية والفصائل اليسارية المتطرفة قد تعاملت مع قضية الصحراء في بداية السبعينات من منطقات خاصة بكل تنظيم، فإن ثقل «زمن الرصاص»، كما ورد في تقرير هيأة الإنصاف والمصالحة، ترك بصماته واضحة في مساراتها المستقبلية، وإذا كان عدد من الطلبة الصحراويين قد تأثروا بشكل مباشر بالتحولات السياسية التي عرفها المغرب في الستينات وبداية السبعينات، فإن «الأجهزة الأمنية» تعاملت مع سكان الصحراء المتاخمين للصحراء «الاسبانية» معاملة قمعية، فقد عرف شهر سنة 1972 خطوات إجرائية وحملات قمع لسكان الصحراء. وجاءت هذه الأحداث في سياق حملة من الاعتقالات والاختطافات التي عرفها التراب الوطني برمته، إضافة إلى محاكمات سياسيين وعسكريين بالقنيطرة.
بلاغات الاتحاد الوطني للقوات الشعبية حول الصحراء :
بلاغ الاتحاد الوطني للقوات الشعبية ، 11 ماي 1972
أصدرت الكتابة الإقليمية للاتحاد الوطني للقوات الشعبية في 11 ماي 1972 بلاغا قويا، يعبر عن « الرؤية الثورية» لليسار المغربي تجاه ما يجري في الصحراء، وفي ذلك إجابة على سؤال لماذا انبثقت جبهة البوليزاريو من الشباب الذين درسوا في جامعة محمد الخامس بالرباط وفي فرع فاس. يستهل البلاغ بفقرة يهاجم فيها « الحكم الفاشستي الاسباني» الذي يواصل « تنفيذ مخططه الاستعماري لتكريس احتلاله للأراضي المغربية التي ترزح تحت نفوذه، سبتة ومليلية والصحراء، ويتخذ الإجراءات الإجرامية الواحدة تلو الأخرى لترسيخ سيطرته عليها….»، وهاجم البلاغ «الحكم المغربي»، إذ وجدت القوة الاستعمارية في» ممارسات الحكم المغربي الرجعي، وفي مواقفه المتخاذلة أحيانا(…)، والمتواطئة أحيانا أخرى، وجدت في ذلك خير مشجع لها على الاستهتار بمطالب الشعب المغربي عموما، ومطالب جماهير الصحراء والمناطق المحتلة الأخرى خصوصا…». وعدد البلاغ انتفاضات «جماهير الصحراء المناضلة»، بالحديث عن مظاهرات 1970 ومارس 1972.
كما تطرق البلاغ إلى «تنظيم مؤامرة استفتاء مزيف، (من لدن اسبانيا) فعمدت إلى طرد آلاف السكان الرحل إلى حدود طرفاية وموريطانيا، وفرضت عليهم إقامة إجبارية لمدة ستة أشهر حتى يتم الاستفتاء في غياب تام عن السكان الصحراويين…كما تم طرد مئات العمال الصحراويين خارج الصحراء لمدة أربعة أشهر لنفس الهدف…» وانتقد البلاغ «سكوت السلطات المؤيدة للتواطؤ، بل وقمعها للجماهير المغربية المناضلة في طرفاية، تضامنا مع جماهير الصحراء، خلال الأسابيع الماضية».وتضامن الاتحاد الوطني ، « استنادا إلى خطه الكفاحي الثوري» مع سكان الصحراء وجماهير الشعب المغربي، وأدان « الموقف الصامت المتواطئ للسلطات المغربية» « وحالة الحصار المضروب على كفاح ونضال الجماهير الصحراوية» ووجه نداءا « لمناصرة نضال الجماهير الصحراوية وجماهير الشعب المغربي عموما لتحرير أراضينا المغتصبة، ومن أجل التحرير الشامل والبناء الاشتراكي».
بلاغ الاتحاد الوطني للقوات الشعبية ، 1 يونيو 1972
أصدر الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بلاغا قويا، عنونه كالتالي: « نعم لتحرير الصحراء، لا لقمع المواطنين الصحراويين»، وتمحور البلاغ حول أحداث طانطان يوم 26 ماي 1972، حيث قررت السلطات المغربية منع الطلبة الصحراويين سواء المنتمين إلى طرفاية أو إلى الصحراء الاسبانية من الإقامة بمدينة طانطان وإقليمها، وتزامن القرار مع موسم طانطان، وهو مناسبة لتجمع القبائل الصحراوية، وقامت قوات الأمن يوم 26/5/1972 باعتقال 20 طالبا صحراويا قدموا من الرباط والدار البيضاء ومدن أخرى، كما تم اعتقال 40 تلميذا جلهم كان يدرس بآكادير ومراكش ومدن أخرى، و تم اعتقال الطلبة الذين يدرسون في الرباط بمقر عائلاتهم بكولميم، إضافة إلى اعتقال محامي صحراوي. و» قد شهد السكان الصحراويين هذه العملية القمعية، التي عانوا وما زالوا يعانون منها في الصحراء الخاضعة للحكم الفاشستي الاسباني، باستغراب واشمئزاز، سيما وأنهم يواجهون نفس الأساليب القمعية، في مدينة طنطان، المنطقة المحررة، ضد الشباب الصحراوي المعبر الحقيقي عن إرادة القبائل الصحراوية، بما فيها سكان طرفاية وقبائل الصحراء المغتصبة، وذلك في محاولة يائسة، للقضاء على نضال الشباب وكفاح الجماهير الصحراوية عموما، من أجل التحرير….»، وتابع البلاغ بأن «هذه الإجراءات القمعية لتكشف وتؤكد القرار غير المعلن عنه رسميا الذي اتخذته السلطات المغربية والقاضي بمنع الطلاب الصحراويين سواء المنتمين منهم إلى إقليم طرفاية، أو المنتمين منهم إلى الإقليم الصحراوي المغتصب، من الإقامة في بمدينة طنطان وإقليمها، وهو قرار شرعا عمليا في تطبيقه منذ مارس الفارط وأكدته حملة القمع التي شهدتها المنطقة آنذاك..» وأحال البلاغ إلى سابقه المؤرخ في 11 ماي 1972. و أنه « ولأول مرة يتصاعد القمع ليشمل عددا من المواطنات الصحراويات اللواتي تعرضن للضرب والعنف من طرف قوات القمع واحتجزن لمدة طويلة، وذلك بعد المظاهرة الشعبية التي عرفها يوم 26 ماي 1972..». وأنه ما زال» يحتفظ ب 55 معتقلا من الشباب في غياهب الزنازن حيث يقاومون مرارة التعذيب والتنكيل…» وقدم البلاغ وصفا للحالات المصابة وسط هؤلاء الشباب، وذكر من بينهم حالة المحامي « الأستاذ الهبة ماء العينين، الذي أصيب بكسر في صدره…“
وأعلن الاتحاد الوطني في نهاية بلاغه تضامنه المطلق مع « جميع المواطنين الملتحمين في معركة تحرير الصحراء» كما طالب ب» فتح تحقيق عاجل حول تصرفات السلطة المحلية وخاصة جبروت المنطقة: قائد طنطان وهو عميد شرطة معروف بأساليبه القمعية الوحشية في الأوساط الطلابية بجامعة محمد الخامس..» وطالب بإطلاق سراح جميع المعتقلين فورا.
من هؤلاء الشباب المعتقلين تكونت النواة الصلبة الأولى لجبهة تحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب.
” يتبع “
الكاتب : الموساوي العجلاوي
عن جريدة الاتحاد الاشتراكي
بتاريخ : 24/04/2021