أسرة المقاومة وجيش التحرير تخلد الذكرى 435 لمعركة وادي المخازن

تحل يوم الاحد 4 غشت 2013 الذكرى 435 لمعركة وادي المخازن التي جسدت محطة كبرى في مسيرة الكفاح البطولي الذي خاضه الشعب المغربي ، إعلاء لراية الإسلام ودفاعا عن المقدسات الدينية والوطنية.
وإحياء لهذه المعلمة المضيئة التي يستحضر فيها المغاربة أطوار ملحمة ماجدة حفاظا على عزة الأمة وكرامتها، وذودا عن حـمى الوطن وسيادته ووحدته وصيانة لقيمه الدينية والروحية، تنظم المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير يوم السبت 3 غشت 2013 في الساعة الحادية عشرة صباحا، مهرجانا خطابيا بجماعة السواكن بإقليم العرائش، تلقى فيه كلمات وشهادات للإشادة بفصول وأطوار هذه الملحمة واستلهــام ما تطفح به من قيم الالتزام والوفاء والبطولة والشهامة والتضحية.
كما سيتم بهذه المناسبة المجيدة، تكريم صفوة من قدماء المقاومين وأعضاء وجيش التحرير، وكذا توزيع إعانات مالية ومساعدات اجتماعية وإسعافات على عدد من المستحقين للدعم المادي والرعاية الاجتماعية من أفراد هذه الأسرة المجاهدة.
واحتفاء بهذه الذكرى الغراء ستلتئم في نفس اليوم في الساعة الواحدة زوالا ، ندوة علمية في موضوع: «معركة وادي المخازن تحطيم لأطماع القوى الاستعمارية وإلهام للشباب وتجسيد للوحدة الوطنية، والالتحام الوثيق بين العرش والشعب «، و ذلك بمشاركة نخبة من الأساتذة الباحثين والمتخصصين في توثيق وتدوين فصول الذاكرة التاريخية الوطنية.
ويندرج الاحتفاء بذكرى معركة وادي المخازن في سياق الجهود الموصولة التي تضطلع بها المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، لإخصاب وإنعاش الذاكرة التاريخية بكافة روافدها ومكوناتها، ونشر ثقافة الهوية الوطنية وإذكاء مواقف المواطنة الإيجابية في صفوف الناشئة والشباب وأجيال الوطن الصاعدة لمواجهة تحديات العصر، والإسهام في مسيرات البناء والنماء والتحديث والإصلاحات الدستورية والسياسية المتواصلة على درب تعزيز البناء الديمقراطي والمؤسساتي.
 

 …عن موقع جريدة الاتحاد الاشتراكي 2/8/2013

=====================================================================================================================

بسم الله الرحمن الرحيم

معركة وادي المخازن
أو الملوك الثلاثة

مقدمة

 

 

يزخر التاريخ الإسلامي بالعديد من المعارك الفاصلة التي شكلت نتائجها منعطفات هامة أثرت و لا تزال في بناء الحاضر الذي نعيشه، هذا الحاضر الذي و إن كنا نتفق على أنه ليس الأفضل، إلا أنه كان ليكون أسوأ لولا تضحيات السابقين من زعماء عظماء مجاهدين تصدوا للحملات المغرضة ضد بلاد الإسلام.

و تعتبر معركة وادي المخازن التي وقعت عام 985 للهجرة الموافق 1578 للميلاد إحدى هذه المعارك الفاصلة حيث كان يحكم المغرب الأشراف السعديون، بقيادة الملك عبد الملك السعدي (و في روايات قيل عبد المالك السعدي). تواجهت قوات عبد الملك السعدي مع الغزاة البرتغاليين الذين كانت أطماعهم المعروفة في المنطقة قد أدت لصراعات و تحالفات عديدة بالتعاون مع جيرانهم الأسبان حيث عرف الطرفان باسم(الأيبيريين). و تكمن أهمية المعركة في كونها أوقفت الحملة الصليبية الشرسة على المنطقة العربية و بالخصوص شواطئ الخليج العربي، وفقدت البرتغال استقلالها و تهاوت مملكتها الواسعة في أنحاء العالم.

و لا بد في مقدمة البحث أن نعرج بشكل سريع على تعريف السعديين، فهم أشراف حسنيون من أولاد علي بن أبي طالب، يرجح كونهم علويون أشراف أصلهم من ينبع النخل بالحجاز، نزلوا أول هجرتهم إلى المغرب بوادي درعة منذ القرن التاسع الهجري و انتقل بعضهم إلى تيدسي في القرن التالي حيث بويع الشريف محمد القائم عام 915هـ زعيماً للجهاد ضد البرتغاليين. التف الناس حول الشريف السعدي و أيدته الطرق الصوفية و بالخصوص الحركة الزجولية و التي كان أغلب أهل المغرب ينتمون لها.

و كان على السعديين قبل أن يخلص لهم الحكم أن يقودوا حركات النضال في ثلاثة جبهات: الأولى هي جبهة النضال ضد الاحتلال البرتغالي حيث أدى استرداد أغادير سنة 947 على يد محمد ابن الشرف القائم إلى التفاف المغاربة حول السعديين و جلاء البرتغاليين عن عدد من الثغور المغربية. الجبهة الثانية كانت ضد دولة الوطاسيين حيث نجح السعديون في القضاء عليهم و الاستيلاء على عاصمتهم عام 955، أما الجبهة الثالثة فهي ضد الأتراك العثمانيين حيث انتهى الصراع بهدنة و رضخ العثمانيون لاستقلال المغرب عن حكمهم.

و لكن حسم الصراع في الجبهات التي سبق ذكرها لم يكن كافياً لاستقرار السعديين، فمن جانب كانت بعض الثغور لا تزال بعيدة عن متناول أيديهم، و من جانب آخر تعرضت الدولة السعدية لخيانة بعض حكامها الذين تنازلوا عن بعض المناطق الهامة، و ذلك ما سبب صراعاً مع أفراد آخرين من الأسرة السعدية مما أدى لتحالفات شاذة ما بين قلة من المغاربة و بين أشد أعداء المغرب. و لتلك الحوادث تفاصيل سنعرج على ما نستطيع منها وصولاً إلى ذكر تفاصيل المعركة و أبطالها و نتائجها.

 


1
حملات الأيبيريين ضد المغرب

 



شكل سقوط غرناطة بيد الأسبان عام 897 هـ – 1482م بداية لانطلاق أسبانيا لبسط سيطرتها على الضفة الأخرى من البحر باحتلالها الثغور الإسلامية القائمة عليها، لكن مملكة البرتغال سبقت جارتها في هذا المجال لأنها حررت أراضيها من الحكم الإسلامي قبلها بأكثر من قرنين فوطدت قواها و استولت على ثغر سبتة عام 818 للهجرة فكانت تلك أولى الحملات الاستعمارية التي قامت بها المسيحية في هجومها على غرب العالم الإسلامي.و لم يمض أكثر من قرن واحد حتى استولى البرتغاليون على أكثر الثغور المغربية و ذلك خلال فترة الضعف ما بين انقراض الدولة الوطاسية و ظهور الدولة السعدية. 

و في هذه الفترة كانت أسبانيا قد أتمت تحرير أراضيها من الحكم الإسلامي و أعدت حملات عدوانية و استولت على مليلة و المرسى الكبير و وهران في بادئ الأمر، غير أن المحتلين الأيبيريين لم يتجاوزا الشواطئ المغربية بنفوذهم و لا أن يبسطوا سلطانهم لداخل المغرب و ظلوا محتمين وراء أسوارها مستفيدين من المراسي و المنافذ البحرية، و يرجع الفضل في ذلك إلى الروح الدينية الوطنية التي استطاع المؤمنون المخلصون إبقائها في أنفس المسلمين فقامت في البلاد حركة صوفية واسعة النطاق توجهت لمقاومة العدو، و هكذا تمكن محمد الشيخ السعدي من تحرير أغادير عام 947 للهجرة من يد البرتغاليين مما دعاهم لإخلاء أسفي و أزمور و أصيلة خوفاً من السعديين، ثم حررت أصيلة و القصر الصغير و لم يبق للبرتغاليين إلا طنجة و سبتة في الشمال و الجديدة في الجنوب. 

وحاول عبدلله الغالب السعدي تحرير الجديدة فحاصرها عام 969 للهجرة و لكنه اضطر لرفع الحصار في انتظار ظروف مواتية أخرى. و تبعت تلك المحاولة الفاشلة تنازل الغالب السعدي عن ثغر بادس في الشمال إلى الأسبان ليجعل منهم حاجزاً فاصلاً بينه و بين العثمانيين مما اعتبره التاريخ خطئاً لا يغتفر، و قد أدى تنازل الغالب السعدي عن ثغر بادس إلى غضب عبد الملك السعدي و أخيه أحمد السعدي فثارا عليه و التجئا للقسطنطينية يلتمسان عون السلطان العثماني. 


2
كفاح عبد الملك السعدي لتسلم مقاليد السلطة

 

تثني المصادر التاريخية المغربية على شخصية الأمير السعدي عبد الملك لما كانت له من سجايا حميدة من صفات شخصية و ثقافة علمية عالية المستوى و اطلاعه الواسع على الأحوال السياسية العالمية. بحنكته و ذكاءه توجه عبد الملك برفقة أخيه إلى القسطنطينية حيث كان السلطان سليم يجهز قوات ضخمة لتحرير تونس من الأسبان، فلما وصل الأمير السعدي إلى رحابه استقبله و رأى أن يستفيد من خبرته فجعله أحد قواد الحملة تحت إمرة القائد سنان باشا. خرج الأسطول العثماني سنة 981 للهجرة قاصداً مرسى تونس الذي اتخذه الأسبان معقلاً لها، و تمت محاصرة الأسطول بمساندة واليا القيروان و طرابلس حتى هزم الأسبان هزيمة ساحقة.

كانت والدة عبد الملك السعدي المتواجدة في القسطنطينية هي أول من علم بالنبأ فأعلمت الخليفة به قبل أن يصل للباب العالي، و قيل إن الأمير عبد الملك و أخيه الأمير أحمد وصلا قبل الجميع فأتيح لها حمل بشارة النصر، فاغتنما الفرصة عارضين عليه أن يقدم لهما عونه للقضاء على الانحراف الذي بدأ من أخيهما الغالب بتنازله عن بادس، فاستجاب السلطان العثماني للطلب و زود الأميرين بالأموال و السلاح و الأقوات و كتب لوالية في الجزائر أن يضع خمسة آلاف من عسكر الترك تحت قيادتهما لاجتياح أرض المغرب الأقصى.

رجع الأميران السعديان إلى الجزائر لإعداد الحملة و أثناء ذلك توفى الغالب بالله و تولى ابنه محمد المتوكل مكانه، و كان ظالماً مستبداً قام بقتل اثنين من إخوته و سجن ثالثاً فكرهته الرعية و نفرت منه حاشيته و رؤوس أجناده فانتهز عبد الملك الفرصة ليكتب لهم واعداً و مرغباً لينفضوا من حول ابن أخيه و يلتحقوا بمجموعته الزاحفة. و دخل المغرب على رأس جيش من الأتراك زاحفاً نحو فاس دون مقاومة.

عندما اقتربت قوات عبد الملك من فاس خرج المتوكل لملاقاته، و لكن قادة جيش المتوكل أخذوا ينضمون لعمه فاشتد جزعه و هرب تاركاً الطريق أمام عبد الملك للدخول لفاس التي استقبله أهلها و علماؤها بالفرحة مبايعين إياه، و عين أخاه أحمد نائباً عنه في فاس. فيما التجأ المتوكل إلى والي بادس الأسباني بعد أن طارده جنود عبد الملك.
استلم عبد الملك السعدي خزينة الدولة فارغة و الجيش في حالة يرثى لها، فانتهج إصلاحات اقتصادية و عسكرية معتمداً على التجارة البحرية و ما رافقها من الاستيلاء على مراكب الأعداء، و وجهت الأموال لتقوية أجهزة الدولة و بناء قوات عسكرية منظمة و مدربة قوية التسليح كان عبد الملك يسهر عليها بنفسه. و تحقق للمغرب ازدهار اقتصادي و قويت أجهزته الدفاعية و شاع الأمن و انتشرت أسباب الرفاهية و ودت الدولة و ألفت بين القلوب، و ذلك كان الأساس المتين الذي قام عليه النصر الكبير في معركة وادي المخازن.

 

3
الدون سبستيان يحلم بالمغرب

كان يحكم البرتغال الدون سبستيان (Don Sebastien) ، أبوه الأمير يوحنا البرتغالي و أمه ابنة الإمبراطور شارلكان و أخت فيليب الثاني ملك أسبانيا، نشأ في كنف اليسوعيين في جو متعصب ضد الإسلام فملأت مخيلته سير الفرسان الصليبيين و فتنته الأحاديث حول شجاعة الأبطال البرتغاليين ضد مسلمي الشمال الأفريقي، و كان مغروراً معتداً بنفسه خصوصاً و أنه جلس على العرش قبل أن يبلغ الخامسة عشرة، و حلم بامتلاك الدنيا كلها طمح لاستخلاص الأماكن المسيحية المقدسة في المشرق من أيدي المسلمين، و رأى أن يبدأ بالمغرب لتكون منطلقاً للمشرق العربي..

في تلك الأثناء وصل السلطان السعدي المخلوع محمد المتوكل إلى العاصمة البرتغالية مستغيثاً بملكها مستنصراً به لاستعادة عرشه المفقود، واعداً إياه بأن يتخلى له عن جميع الشواطئ و الثغور و أن يكتفي بداخل البلاد المغربية. زاد ذلك من عزم سبستيان على القيام بالحملة و حاول إقناع خاله فيليب ملك أسبانيا بخوض الحرب معه غير أن الملك الأسباني رفض الطلب متخوفاً من انتقام العثمانيين، لكنه مع ذلك وعده بسبعة آلاف من الجنود الأسبان و الطليان و الألمان دون مشاركة رسمية من الدولة الأسبانية، و لهذا لم يخض معركة وادي المخازن إلا ثلاثة ملوك: السلطان السعدي عبد الملك، و السلطان المخلوع المتوكل، و الملك البرتغالي الدون سبستيان، و من هنا أطلقت المصادر المسيحية على الوقعة اسم (معركة الملوك الثلاثة).

 


4
دهاء عبد الملك في دبلوماسيته السلمية

 

 


أعد عبد الملك نفسه للمواجهة الحاسمة، و قد أسلفنا نجاح إصلاحاته الاقتصادية و الإدارية و العسكرية معيداً شعور المغاربة بالوحدة و الأمان و الثقة، مستفيداً من الوعي الوطني الذي كانت تبثه الحركات الدينية في نفوس المغاربة و تعدهم للاستماتة في سبيل الله و الوطن، و قامت الحركة الدينية الجزولية بمساندة عبد الملك السعدي بكل ما أوتيت من قوة.

استخدم عبد الملك دهاءه و حنكته السياسية لكشف عدوان ملك البرتغال الصريح على بلاده و مطامع الملك الشاب التوسيعية و الاستعمارية، فبادر بتوجيه رسالتين إلى الدون سبستيان هذه مقاطع منهما: “إن ما تعتزمه من محاربتي في قعر داري ظلم و تعد غير مقبولين، و أنا لا أضمر لك شراً، و لم أقم بشيء ضدك.. لا تظنن أن الجبن هو الذي يملي علي ما أقول فإن فعلت فإنك تعرض نفسك للهلاك و إني مستعد للتفاهم معك رأساً لرأس في المحل الذي تريده و إني لأفعل كل هذا سعياً في عدم هلاكك المحقق عندي.. و اعلم أنك شاب لا تجربة لك، و أن لك في حاشيتك نبلاء يشيرون عليك بآراء فاشلة..” و قصد عبد الملك من هذه الرسائل أن يماطل و يكسب وقتاً للتحضير و الاستعداد للمعركة. كانت تلك الرسائل تصب لصالح عبد الملك في كل الأحوال، فلو أصر الملك البرتغالي على المضي قدماً انكشف موقفه العدواني و قوي موقف الملك السعدي في الميدان الدولي. و عندما لم تجد محاولات عبد الملك السعدي الدبلوماسية أيقن أنه لا بد من خوض غمار المعركة.
5
الاستعدادات النهائية للحرب (الجانب المغربي)

 

 

كان عبد الملك السعدي في عاصمة دولته بمراكش يولي الاستعداد لمواجهة الخطر الصليبي الزاحف بكل ما يملكه شعبه من طاقات دفاعية و عسكرية و ما يتمتع هو نفسه من خبرات و مواهب في القيادة و القتال، و جهز جيشه على النحو التالي: الجيش النظامي المدرب الذي سهر السنتين الماضيتين من حكمه على تكوينه و إعداده على الأساليب العسكرية التركية، و زاد عدد محاربيه على الأربعين ألفاً، و صار الجيش المغربي يمتلك أربعة و ثلاثين مدفعاً و آلاف كثيرة من الخيل و تجهيزات حربية وافرة. و تدفقت سيول المجاهدين من أتباع الحركة الدينية الجزولية – و الذين كانوا أغلبية الشعب المغربي – بقيادة شيخهم أبو المحاسن يوسف الفاسي حتى أصبح جيش عبد الملك السعدي مئة ألف بينهم ثلاثين ألف فارس.

إلى جانب التجهيزات العسكرية، كان عبد الملك السعدي يستغل دهاءه و تجاربه و حسن فهمه لنفسية الملك البرتغالي الشاب ليستفيد من غروره و قلة تجربته و شدة تمسكه بمظاهر الفروسية و الفتوة و الشرف، و سنشهد في هذا البحث أثر ذلك في نجاح الملك السعدي في الكيد و إعمال الحيلة لدفع الدون سبستيان نحو الكارثة.

كانت مدينة القصر الكبير هي المركز الرئيسي في المغرب للحركة الجزولية و قد اختيرت لقربها من الثغور المغربية التي كان البرتغاليون يوالون احتلالها و لذلك اختارها عبد الملك السعدي مقراً للقيادة العليا لتسيير العمليات الحربية، و طلب من أخيه و نائبه على فاس الأمير أحمد أن يسبقه إلى القصر الكبير على رأس جيوش من رماة أهل فاس، و تحرك هو نفسه مغادراً مراكش على رأس جيشه في الطريق إلى الشمال، و كان جيشه يزداد كثرة طوال الطريق بما ينضم إليه من جموع الوافدين من المجاهدين المتطوعين، و كانت التقارير تصل إلى عبد الملك السعدي عن طريق جواسيسه.

 


6
الاستعدادات النهائية للحرب (الجانب البرتغالي)

 

 

غادر جيش الحملة الكبرى العاصمة البرتغالية في 24 حزيران 1578 م – 986 هـ يحمله عدد كبير من القوارب و السفن قاصدة مرفأ (لاكوس) على بعد مئتي كيلومتر من لشبونة، و أقام الجيش أربعة أيام و اندس إليه بعض جواسيس الملك السعدي. تحركت السفن نحو قادس و منها تم عبور الحملة إلى مدينة طنجة حيث رست السفن في اليوم الثامن من تموز و كان المتوكل بانتظار وصولها. تابعت السفن إبحارها إلى ميناء أصيلة حيث كان المتوكل قبل خلعه قد مكن البرتغاليين من الاستيلاء عليها.

نزل الجيش إلى البر المغربي و انتشرت قطعانه في اتجاه القصر الكبير حيث أقام معسكراته في الفحص، على مسيرة يوم واحد من القصر. كل هذا و السلطان السعدي عبد الملك ما يزال في مراكش، استبطأ الناس وصوله و عم بعضهم الخوف من مداهمة الجيوش الزاحفة لهم و عزم بعضهم على مغادرتها إلى الجبال للتحصن، و لكن الشيخ يوسف الفاسي طاف على السكان و حضهم على الثبات و الصبر.

تأخر الملك السعدي بسبب مرض داهمه، و تخوف من انقضاض جيش الحملة على المدن و القرى شمالي المغرب و خشي أن تتوغل جيوش سباستيان في الأراضي المغربية، فيكسب سكانها الذي سيحاربون إلى جانبه بالإكراه. فكتب له المرة تلو المرة يستثير نخوته الفروسية و تمسكهم بأخلاق الفرسان، و كتب له: ” ليس من الشجاعة و لا من روح الفروسية أن تنقض على سكان القرى و المدن التي في طريقك و هم عزل دون أن تنتظر أن يقابلك أمثالك من المحاربين، فإن كنت نصرانياً صادقاً فتريث ريثما أقصدك”. اقتنع الدون سبستيان بمضمون الرسالة رغم مخالفة حاشيته و مخالفة الملك المخلوع المتوكل لرأيه، فلم يتحرك من أصيلة و قضى فيها تسعة عشر يوماً.

أخيراً وصل الملك السعدي بجيوشه إلى القصر الكبير محمولاً على محفة بسبب المرض الذي منعه من ركوب فرسه، و كان يكتم آلامه لكيلا يؤثر على معنويات من حوله من القادة، إلى أن حط في القصر الكبير، و من هناك كتب رسالة تشهد بعبقريته و دهائه حيث قال له فيها: “إني سرت ست عشرة مرحلة لملاقاتك، فهلا تسير أنت مرحلة واحدة لملاقاتي؟” و كان مشيرو الملك البرتغالي قد نصحوه بالبقاء في أصيلة لتصل الجيوش السعدية إليه فيتلقاها منهوكة القوى، و لكن الدون سبستيان أصر على رأيه و سقط في الشرك.
7
مكيدة عبد الملك السعدي في اختيار ميدان المعركة

 

نجح عبد الملك السعدي في أن يستجر خصمه إلى الحرب في الميدان الذي اختاره بنفسه، في سهل مثلث منبسط من الأرض، تكثر فيه الأنهار و تحيط به من ثلاث جهات: وادي (لوكوس) الذي ينصب في العرائش يمده من الضفة اليمنى وادي (ريسانة) و وادي المخازن، و الوادي هنا معناه النهر. و وادي المخازن يمده من الضفة اليسرى وادي (وارور) ففي هذا المثلث المحاط بالماء من كل جانب، في ناحية من مدينة القصر الكبير، يمكن حصر الجيوش الغازية بحث لا تجد مكاناً للفرار إذا هزمت، و لو عبرت الماء سالمة فستجد البحر من جهة العرائش و هي بيد المسلمين و لا مدد للهاربين من قبلها و لا سفن لهم في مرساها لو هربوا من ميدان القتال، و هو ما كان مستشارو الملك سبستيان يخشونه، و لكن الملك البرتغالي بغروره ما كان يفكر في إمكانية وقوع الهزيمة و كان يتشوق إلى الحرب في ميدان فسيح يستطيع أن يصول فيه الفارس و يجول، و لذلك رحب باقتراح الملك السعدي.

تحركت طلائع الجيش البرتغالي إلى الميدان المرتقب للمعركة حيث أمر الملك سبستيان بعبور وادي المخازن عابرةً قنطرة الوادي و هي الجسر الوحيد على ذلك النهر، و عسكرت قواته على ضفة الوادي اليسرى، في المثلث الذي تتألف زاويته الغربية من التقاء النهرين: وادي المخازن و وادي وارور. و كانت الجيوش السعدية قد وصلت أيضاً إلى هذا المثلث و اتخذت مواقعها و راح الفريقان يستعدان لخوض المعركة صبيحة اليوم التالي.

 

8
وقائع المعركة الفاصلة

 

 

أمر عبد الملك السعدي أخاه الأمير أحمد بالسير في جنح الليل على رأس كتيبة من الفرسان لنسف قنطرة وادي المخازن، و نجحت المهمة بدون أن يشعر معسكر النصارى بما جرى، و بذلك تم حصار جيش الحملة إذا ما تقهقرت قواته. و في صبيحة الأثنين (30 من جمادى الثانية 986 للهجرة، 4 آب 1578 م) اتخذت كل فئة مواضعها مقابل الفئة الأخرى، فأما الجيش المغربي فقد اصطف على صورة هلال في وسطه مضرب القائد العام عبد الملك السعدي، و كان على محفة مرضه و قد بلغ المرض منه مبلغه لكنه كان يتجلد و يتماسك ليقوي عزيمة رجاله، و كان يصدر التوجيهات و الأوامر رغم عجزه الجسدي. و عند رأسي الهلال اتخذت كتائب الفرسان مواقعها، و نصبت المدافع في المقدمة و خلفها قطعات المشاة، و قد درب الرماة على النمط الإنكشاري.

أما الجيش المسيحي فقد اصطفت قواته على شكل مربع جعل في مقدمته جماعة الأفاقين البرتغاليين، و هم جماعة من أوباش الناس المغامرين المتشردين، و اصطف المحاربون الألمان في اليمين، و الأسبان و الطليان يساراً، و اتخذت الخيالة مواضعها في الجناحين، و انضم إليهم أتباع الملك السعدي المتوكل و هم ما بين الثلاثمئة و الستمئة، أما الوسط فكان خاصاً بالرهبان و القسس إلى جانب عدد من النساء اللواتي يأخذهم الجيش المسيحي في حروبه كما جرت عادته.

و بعد أن أدى المغاربة صلاة الفجر و ابتهلوا إلى الله أن يمنحهم النصر، صدر أمر الملك السعدي لجيشه بإطلاق النار و في الوقت نفسه أطلق المسيحيون نيران مدافعهم و بدأت المعركة، و تقدمت جماعة الأفاقين في مقدمة الجيش المسيحي بهجوم كاسح على الجناح الأيسر للمسلمين، مما أصاب المسلمين بارتباك و تزحزحوا عن مصافهم، و كان الشيخ أو المحاسن الفاسي في ذلك الجناح فصمد و من حوله، و لكن الضربات توالت قوية على الجيش المسلم. خشي الملك السعدي أن يسفر ذلك الهجوم على الطرف الأيسر عن انكساره فقام من محفته و استل سيفه شاقاً طريقه للجناح الأيسر، و رآه المحاربون المسلمون فاشتدت حماستهم و جرت معركة شديدة للغاية مالت لصالح المسلمين شيئاً فشيئاً.

عندما اطمأن عبد الملك لثبات مسيرة جيشه رجع لمحفة مرضه و هو في ذروة الإنهاك ليلفظ أنفاسه الأخيرة و قد وضع إصبعه على فمه موصياً خادمه رضوان بكتمان خبر موته لئلا يتسرب الوهن لنفوس المسلمين، فكان الخادم يوالي الخروج و الدخول من خيمة السلطان ليعطي الأوامر باسم الملك السعدي. اشتدت ضراوة المعركة و استشهد ألوف المجاهدين حتى أدرك النصارى عقم محاولاتهم لتدمير المقاومة. كان جناحا الهلال الذي تشكل به جيش المسلمين يتقاربان و يتجمعان و يلتفان حول مقاتلي النصارى و يسحقان ما بينهما سحقاً، و تراجع الجيش النصراني حتى عندما أشرفوا على وادي المخازن لم يجدوا القنطرة التي عبروا عليها منذ يوم واحد، فألقى الكثيرون بأنفسهم في مياه النهر و عامت آلاف الجثث على سطحه.

أما اللورد سبستيان فالمؤرخون يؤكدون أنه قاتل بشجاعة منقطعة النظير قبل أن يسقط مضرجاً بدمائه، و أما المتوكل السعدي المخلوع فقد شوهد غريقاً و نقلت لخباء الملك السعدي الجديد السلطان أحمد المنصور، أخي عبد الملك، فأمر بسلخ الجثة و حشوها تبناً ليطاف بها في أرجاء المملكة المغربية، و منذئذ أصبح اسم المتوكل (المسلوخ). و بهذا انتهت معركة وادي المخازن بموت ثلاثة ملوك و بإبادة شبه كاملة لجيش الحملة العدوانية، حيث قدر عدد قتلاه بثمانين ألفاً، و حصل المسلمون على غنائم لا تحصى و لم يكن قط مثلها في المغرب إذ لم يسبق للنصارى أن داهموا المغرب بمثل هذه التجهيزات و الأعتدة. و تم أسر أربعة عشر ألف أسير كسبت الدولة من افتدائهم أموالاً لا حصر لها. أما جثة الملك سبستيان فقد سلمها الملك السعدي أحمد المنصور للبرتغاليين دون مقابل.

 


الخاتمة: نظرة تحليلية

أولاً: أسباب النصر

 

 

أولاً: أسباب النصر
أولاً: قضاء عبد الملك السعدي على التمزق و الفوضى و الاضطراب، و جمعه شمل القبائل تحت رايته، و أعانة الحركات الدينية بتوعية الناس و الدعوة للجهاد، و بذلك أصبح المغرب يداً واحدة.
ثانياُ: تكوين الجيش (السعدي) و السهر على تنظيمه و تدريبه،و تزويده بأحسن السلاح حيث أنشأ معامل للسلاح والذخيرة في فاس ومراكش وتارودانت، معتمدا في إنتاجها على معادن البلاد لا سيما النحاس و ذلك ما يدل على محاولة لتحقيق الاكتفاء الذاتي. يضاف إلى ذلك جموع المجاهدين الزاخرة و شجاعة المغاربة المعروفة حتى اليوم. و كذلك مما يعزز تلك القوة العسكرية تفوق سلاح الفرسان في كثرته و سرعة حركته.
ثالثاً: التخطيط الدقيق لكل مراحل المعركة و عملياتها، و استفاد الملك السعدي من خبراته الكثيرة و دهائه و فهمه لنفسية الملك البرتغالي الشاب المتهور، فقد اختار عبد الملك السعدي مكان المعركة و توقيتها و هدم قنطرة وادي المخازن، حتى أن المعركة سارت كما خطط رغم وفاته قبل أن تنتهي.
رابعاً: شخصية الملك البرتغالي الدون سبستيان فكان شاباً صغير السن ذو ذهنية متعصبة، حالمة غير واقعية، مفتونة بأخلاق الفروسية و تقاليدها، حظه من الخيال كبير و من العقل فقير، لم يخض أي تجارب.

 


ثانياً: النتائج

 

 

كانت معركة وادي المخازن من المعارك الحاسمة في تاريخ العروبة و الإسلام، و قد حفظت انتصاراتهم فيها عروبة الشمال الأفريقي و إسلامه، و لولا أنهم سحقوا مطامع البرتغاليين لانحسر الإسلام عن المغرب العربي و سقط تحت الاحتلال المسيحي، و لهذا فالمؤرخين المغاربة يشبهون نصر المسلمين في وادي المخازن بنصر المسلمين في بدر الكبرى، و من ذلك ما نظمه الشاعر المغربي داود الدغودي:
و سيبسطيان كفنتهُ مياههُ.. زيماً، و ماء النهر أفظع كافنِ
فذلك يومٌ مثل بدر و صنوه.. حُنين بأيدي المؤمنين الميامين

 

و الحق أن انتصار المغاربة من حيث نتائجه يشبه نصر المسلمين الأوائل على المشركين في معركة بدر لأن معركة وادي المخازن أوقفت الحملة الصليبية التي أرادت اكتساح العالم الإسلامي، فعم الفرح أوساط العالم الإسلامي كله و أرسل الملك السعدي الجديد كتباً للملوك يزف إليهم هذا الخبر، و تلقى الأتراك العثمانيون الخبر بالرضى و الابتهاج. و كانت مكاسب المغرب كبيرة فقد أعاد للشعب المغربي ثقته و قدرته على تدمير كل الحملات، و استقبل المغرب تحت حكم المنصور السعدي فترة من النهضة و عم الرخاء بانتشار التجارة و الصناعة و برزت حركة عمرانية تشهد مآثرها الباقية إلى اليوم برقي الفن المغربي في ظل السعديين.

و أدرك الأتراك العثمانيون أن المغاربة حريصون على استقلالهم السياسي فلم يحاولوا بعد معركة وادي المخازن مد سيطرتهم للمغرب، لذلك ظلت الأصالة العربية في جميع المجالات حية في المغرب، و احتفظت اللغة العربية بكل مقومات صفائها و لم تشبها العجمة و الركاكة.

و بانهزام البرتغاليين في وادي المخازن بدأت كتائبهم تنهار في الخليج العربي إذ منذ ( القرن العاشر الهجري / السادس عشر الميلادي ) حاول البرتغاليون الاستعماريون سد البحر الأحمر في وجه السفن العربية على مداخله تمهيدا لغزو الخليج العربي، و لكن بعد مرور سنتين على انهزام البرتغال في معركة وادي المخازن ، أي عام 1580م، بدأ وجود البرتغال يتقلص في مستعمراته في المحيط الهندي بعد أن تلقت قطعه البحرية ضربات قاضية من طرف الأسطولين الإنجليزي و الهولندي ، وكانت صلاته بلشبونة قد انقطعت فتوقف ما كان يتلقاه منها من عدة وعدد؛ كما تضعضعت قواعده بالقارة الإفريقية التي كانت جيوشه تنحدر إليها من الخليج عن طريق بحر القلزم (البحر الأحمر) وشعر المغرب بخطورة احتواء فلول البرتغاليين لحدود المغرب الجنوبية، وأهمها مالي ، فاحتلها حماية لها وقطعاً لدابر البرتغال وبذلك انقطع عن فيالقها في الخليج ما كانت تتزود به من مستعمراتها الإفريقية.

وتم بعد هذه الفترة إجلاء البرتغاليين عن منطقة البحرين التي احتلوها قرنا كاملا إلى ( عام 1032 هـ/ 1622 م )، أي بعد معركة وادي المخازن بأربع وأربعين سنة ؛ كما طرد البرتغاليون عن مجموع مستعمراتهم على الشط العربي عام 1059 هـ / 1649 م. وبذلك تحرر العالم العربي من هيمنة البرتغال الذين لطخوا تاريخ العروبة والإسلام طوال أربعة قرون.

انتهى بحمد الله.
عن احد المواقع الالكترونية

 

‫شاهد أيضًا‬

الخطاب الملكي بمناسبة الذكرى 49 للمسيرة الخضراء .

النص الكامل للخطاب الملكي السامي : “الحمد لله، والصلاة والسلام على مولانا رسول الله …