ما المقصود بـ “مجتمع المعرفة”؟ هل هو ذلك المجتمع الذي تنتشر التكنولوجيات في مؤسّساته وأجهزته، وفضاءاته الخاصة والعامة بدرجات متفاوتة؟ هل هو المجتمع الذي يتمكن فيه أفراده من امتلاك حواسيب، ويستعملون الأنترنيت، والهواتف المحمولة والتقنيات الرقمية على نطاق واسع؟ هل المقصود منه ذلك المجتمع الذي تجاوز الاقتصاد الصناعي إلى مستوى جعل فيه من عطاءات الإنتاج الذهني مقياساً للتحكم في الرأسمال المعرفي؟ وهل هو مجتمع الفائض المعلوماتي الذي يسعف بانتشار مجالات الترفيه والإدراك وابتداع وسائل “ذكية” تقوم مقام الإنسان تزجّ به في عوالم افتراضية؟ هل هو المجتمع الذي تمكّن أصحاب القرار فيه من تعميم التعليم، والمعرفة والوسائل الجديدة لاكتسابها؟
أسئلة كثيرة يواجهها المرء، وهو يصادف الكتابات الغزيرة التي جعلت من “مجتمع المعرفة” موضوعاً لها، وقبل الدخول في تحديدات من النوع الذي قامت به بعض المؤسّسات الأمميّة وعلى رأسها منظمة اليونسكو، لا بأس من الوقوف قليلاً عند الحمولة الدلاليّة التي يفترضها مصطلح المعرفة.
تُغطّي المعرفة مجموع المدارك التي يحصل عليها الفرد؛ أي أنّها جماع ما هو معروف سواء تمّ ذلك من خلال الاكتساب أو بواسطة الخبرة. وبديهي، في هذا المستوى الأول من الفهم، أن نشير إلى أنّ تملّك المعارف من خلال اختزان كمّ من المعلومات لا يكفي لتحديد ما نرغب في معرفته، لأنّ المعرفة لا تقاس بالكم. ولكن ما معنى أن يعرف الإنسان؟
للجواب على هذا السؤال كثيرًا ما يتمّ استدعاء مفاهيم أخرى مثل الشكّ، التساؤل، التجربة، المخيّلة، الفضول المعرفي، الحكم…إلخ، لأنّ الناس كثيرًا ما يكتسبون معرفة مكوّنة، محدّدة، أو يؤمنون بحقائق معدّة سلفاً، وقد تبدو نهائيّة عند البعض. لذلك، فالإنسان الذي يعرف ليس هو ذلك الذي يكون كثير الاطلاع، لأنّ المعرفة الموسوعيّة لا تؤدّي إلى معرفة حيّة ويقظة إذا لم يصاحبها حسّ نقدي، وانشغالات تساؤليّة حول الذات والمجتمع والتقنية والتاريخ. فمجالات المعرفة لا تكف تتسع وتتخصص بظهور حقول علمية ومعرفية جديدة، وبقدر اتّساع مجال المعرفة تنفتح إمكانيات التساؤل عن أسسها، ومناهجها، ووظائفها. لذلك كلّما اقتربنا من هذه الأسئلة، تبيّن لنا أنّ ما نتصوّر أنّها معرفة صالحة للامتلاك، تحتمل تعقيدات وتعرّجات وحده التفكير النقدي اليقظ كفيل بالكشف عن خلفيّاتها وآليّاتها وغاياتها.
قد تمنح المعرفة نوعًا من الرضا أو توّلد شعورًا بالتفوّق، أو بامتلاك سلطة رأسمال معرفي، أو توفّر إحساسًا باعتراف الآخرين. لكن لا توجد معرفة حقيقيّة إلاّ إذا دفع صاحبها ثمناً في المقابل، من نوع إضاعة اليقينيّات المكتسبة، أو صعوبة القبول بالواقع المنبني على الزيف والرياء، أو النزوع إلى إعادة النظر في الحقائق السائدة. تجد الحامل لهذا النمط من المعرفة يميل دوماً إلى البحث والتجاوز أكثر من الارتكان إلى طمأنينة الجهل، فضلاً عن أنّها تمنح معنى للحياة وللعلاقات الاجتماعية، وتولد متعة وامتلاءً إنسانيًّا من نوع خاص.
ليست المعرفة هي ما يُعطى، وإنّما هي ما يُكتسب استناداً إلى النشاط الإبداعي للتفكير وللمخيّلة، تقترن بالممارسة وبشروط إمكان التحقق. فالتفكير والمعرفة والعمل ثالوث عضوي متكامل. هكذا يظهر أنّه لا يكفي الحديث عن “مجتمع المعرفة” وكأنّ مصطلحي المجتمع والمعرفة أمران مُسلم بدلالتهما “الإجماعيّة”. ثم إنّ مفهوم المعرفة، المقترن بهذا الاستعمال، قد يبدو للوهلة الأولى أنّه مفهوم واحد وبديهي، إلا أنّه بمجرد مساءلته يتعدّد ويتشتّت إلى مفاهيم من قبيل العلم، الإعلام، الملاحظة، التجربة، التفسير، التحليل، الفهم، التركيب، الاستنتاج، التمثّل، الآراء، المعتقدات، الوعي، الثقافة، النظريّة، الفكر، العقل…إلخ. يتفجّر مفهوم المعرفة إلى مستويات متنوّعة ومتعدّدة للفكر والتفكير. وكلّما تعمّقنا أكثر، كما يقول “إدغار موران”، تصبح ملغزة[1]، إذ هل المعرفة انعكاس للواقع أم هي بناء عقلي؟ هل هي ترجمة؟ وما هي طبيعة ما نترجمه إلى تمثّلات، ومفاهيم وأفكار ونظريّات؟ هل نمتلك الواقع بالفعل، أم نكتفي بظلاله سيما مع التقنيات الجديدة للاتصال والتواصل؟ هل نفكّر في معنى أن نفكّر؟ ثم ألا يتضمّن الفكر والمعرفة مستويات لا مفكّر فيها؟
إذا أطلقنا العنان لهذه الأسئلة، قد تبدو لنا مسألة المعرفة غريبة. فكلما تطلّعنا إلى “معرفتها”، بدت لنا أنّها ليست بتلك السهولة التي تستعمل في صيغة “مجتمع المعرفة”. يتعقّد الأمر أكثر عندما نقرن المعرفة بالمجتمع ونضع أمامهما مجموعة عناوين متصوّرين أنّها كافية لتحديد “الحمولة الدلاليّة” المعقّدة التي يفترضها مفهوم “مجتمع المعرفة”.
عمل “التقرير العالمي لليونسكو”[2]، في كثير من فصوله وفقراته، على تحديد مفهوم “مجتمع المعرفة” بالنفي مقرونًا بأهداف يعتبر محرّروه أنّه لا معنى للحديث عن “مجتمع المعرفة” بدون تحقيقها. ولذلك يؤكد التقرير، منذ البدء، أنّه لا يمكن اختزال مجتمعات المعرفة إلى “مجتمع معلومات”. فالمعلومة، مهما كان مصدرها وقيمتها، لا معنى لها في ذاتها. كما أنّ فائض المعلومات ليس، بالضرورة، مصدرًا لتوسيع دائرة المعارف. لذلك فإنّ مجتمعًا عالميًّا للمعلومات، بوصفه نتاج ثورة التكنولوجيات الجديدة، لا ينبغي أن يجعلنا ننسى أنّ هذه الأجهزة التي لا تتوقف عن التجدد، ليست سوى وسائل لإقامة مجتمع للمعرفة لا يكتفي بتطوير بناه التحتيّة، أو تعليمه أو شبكاته التقنية. فإذا كانت المعلومات أدوات لاكتساب المعرفة، فلا يمكن التعامل معها وكأنّها معرفة، لأنّ الابتكارات الكبرى لتكنولوجيات الإعلام والاتصال، سواء الأنترنيت، أو الهاتف المحمول، أو التقنيات الرقمية، ليست هي ما يشكّل “اختراقًا ثوريًا”، وإنّما الطلب المتزايد على استعمالها لإنتاج مضامين إعلاميّة وثقافيّة ومعرفيّة جديدة. لذلك، لن يتمكن المجتمع الدولي للمعلومات، وهو يتشكّل بالتدريج وبشكل متفاوت بين القارات والبلدان، من انتزاع معناه المناسب إلاّ إذا تحول إلى مجموعة أدوات وأجهزة كفيلة بخلق “مجتمع عالمي للمعرفة”.
ولعلّ التأكيد على هذا المنطلق لا يستبعد الوعي الحاد، وأحياناً القلِق، بالعراقيل التي تقف أمام النقل الحر للمعلومات أو حين تكون هذه المعلومات ذاتها محلّ رقابة أو استخدام لتحقيق أهداف لا تتماشى مع ما يعلن عنه على المستوى المبدئي.
إذا كان محررو “التقرير العالمي لليونسكو” يعرّفون “مجتمع المعرفة” من منطلق تجاوز “مجتمع المعلومات”، فإنّهم، مع ذلك، يقرّون بأهمّيّة التدفّق اللامتوقّف للمعلومات في تعزيز المعرفة داخل أنسجة المجتمع، رابطين هذا الإقرار بأهداف كبرى لا يمكن الاطمئنان إلى استنبات مقوّمات مجتمع المعرفة في أي مكان دون الدعوة إلى تحقيقها. في طليعة هذه الأهداف ينتصب هدف “التنمية للجميع”؛ ولا سيّما بالنسبة إلى البلدان الأقلّ نموًا. ولترجمة هذا المبدأ إلى إنجاز فعلي يرى التقرير ضرورة التغلّب على تحدّيين اثنين؛ يتمثل الأول في توفير شروط مناسبة لتلقي المعلومات من طرف الجميع؛ ويتلخّص الثاني في ضمان حرّيّة التعبير والاستعمال الحرّ للمعلومات ولمكتسبات المعرفة. وهكذا لا معنى “للمجتمع العالمي للمعلومات، إن لم يسهّل انطلاق مجتمعات المعرفة؛ ويقترح كهدف أن تكون التنمية الإنسانية قائمة على حقوق الإنسان”.[3]
مفهوم “التنمية البشرية” كما هو مثبت في ثنايا التقرير مفهوم شامل، يفترض توفير الشروط الأساسية العامة للعيش الكريم، من تعليم، وصحة، وسكن، ونقل، وشغل، وترفيه إضافة إلى وسائل الاتصال الحديثة، تندرج ضمن تصور مُستدام في استغلال مقدرات الطبيعة والاقتصاد مع مراعاة حفظ البيئة والتوازن الأيكولوجي، وتجنّب تعريض الأرض إلى تخريب منظّم يؤذن بكوارث بيئيّة وإنسانيّة للأجيال القادمة.
تتمفصل المعرفة بالتنمية. وإقامة مجتمعات المعرفة مرهونة بإعادة ترتيب العلاقة بينهما، حيث لا تغدو المعرفة مجرّد أداة لتلبية الحاجات الاقتصاديّة، وإنّما مقوّمًا رئيساً في الاقتصاد، ومكوّنًا لازمًا لكلّ مشروع تنموي يضمن الحقوق الأساسيّة للإنسان، وتراعى فيه كرامته. وقد وعى الفكر الكوني هذا الأمر حين شدّد الميثاق التأسيسي لليونسكو على الارتباط الضروري بين نشر التعليم والثقافة من أجل العدالة والحرية والمساواة والسلام، وبين الكرامة الإنسانيّة. فالاعتراف بالحق يستلزم معرفة هذا الحق والتعبير عنه بحرّيّة. وبقدر ما تستهدف مجتمعات المعرفة تحقيق تعدّديّة مصادر المعلومات والمعرفة، تنطلق من التسليم ببداهة احترام الحرّيّة الضروريّة للإبداع وللبحث العلمي، والانفتاح على الغير والحوار بين الأفراد والجماعات، وقبول الاختلاف، إذ “من دون حرّيّة التعبير قد تكون هناك معرفة، ولكن لن يكون هناك مجتمع معرفة ولا تشارك في هذه المعرفة”.
ليست حرّيّة التعبير مطلبًا سياسيًّا فقط، وإنّما هي مبدأ تأسيسي في مجتمع المعرفة، وضرورة للبناء الديمقراطي، تفضح الفساد، والتلاعب بالمعلومات وتدين الرقابة، وتفضح اللاّمساواة والظلم ومختلف أشكال الاستغلال والتفاوت، فضلاً عن الانتقال الحرّ للمعلومات وترويجها بكل حرّيّة. يسعف على الوقاية من الأخطار، ومن تعميق وعي الجمهور بالصحة العامة. لذلك يؤكّد التقرير أنّه “إذا كانت التكنولوجيات الجديدة منبعًا للتغيير الاجتماعي، فإنّها لا يمكن أن تكون وعدًا بالتنمية للجميع إلاّ باقترانها بحرّيّة التعبير والمعرفة والقواعد الديمقراطيّة والعدالة”.
الوعي بالحقوق والمعرفة المستمرّة في النهضة الإنسانيّة هدفان مركزيّان لبناء مجتمع المعرفة. وبحكم أنّ الثورة الرقميّة ومختلف أشكال التكنولوجيات الجديدة المصاحبة لحركة العولمة زعزعت ثوابت عدّة في الاقتصاد والثقافة والسياسة واللغة، وكشفت عن الفجوات الصارخة بين الدول الغنية والدول الفقيرة، وبين الأغنياء والفقراء داخل هذه الدول، فإنّ الفهم الذي تعبّر عنه اليونسكو في أدبيّاتها يؤكّد أنّ إقامة مجتمعات المعرفة هي “التي تفتح الطريق لأنسنة مسار العولمة”.
هل يتعلّق الأمر بتطلّع طوباوي لما يجب أن يكون عليه العالم أو أنّ أنسنة العالم ممكنة بفضل التوزيع العادل لاقتصاد المعرفة؟ سؤال إشكالي قد يعرض الأهداف الكبرى المرسومة لمجتمع المعرفة للشك، لا مجال للخوض في تداعياته. المهمّ هو أنّ تكنولوجيات المعلومات والاتصال الجديدة، وظهور التقنيات الرقميّة وانتشار الأنترنيت تفتح فرصًا لا محدودة لتوسيع دائرة الاطلاع والمعرفة. سؤال الوسائل والبنى التحتيّة، واحتكار مصادر المعرفة هو ما يشكّل تحدّيًا كبيرًا أمام المجتمعات الفقيرة، أو الفئات الضعيفة داخل المجتمعات الغنيّة نفسها للاستفادة المتساوية من التدفق الهائل للمعلومات، ولتقاسم معقول وفعلي لما تزخر به قنوات التواصل من معارف.
[1] Edgar Morin; La connaissance de la connaissance; la méthode; Ed du seuil, Paris 1986
[2] التقرير العالمي لليونسكو، من مجتمع المعلومات إلى مجتمعات المعرفة، مطبوعات اليونسكو، باريس، 2005
[3] “التقرير العالمي لليونسكو”، المرجع السابق نفسه، ص 29