1 – لقد عمل قادة أو سلطات هذه الأنظمة بمعظمها تقريباً في دول العالم الثالث, على تبني أيديولوجيات أو شعارات ذات توجهات اقتصاديّة وسياسيّة واجتماعيّة وثقافيّة تحمل بعداً تنموياً للدولة والمجتمع, كما تضمنت مواقف خلاف وتناقض تصل إلى حالة صراع مع عدو حقيقيّ أو مفترض, طبقيّ داخليّ كان أو استعماريّ خارجيّ, حيث يشكل هذا العدو برأيهم خطراً حقيقياً على كيان الدولة والمجتمع وأمنهما الوطني والقومي. وغالباً ما تكون هذه الأيديولوجيا أو الشعارات ذات بعد قوميّ ووطنيّ تحرريّ وتنمويّ, حيث يستطيع قادة هذه الأنظمة من خلال هذه الشعارات ولأيديولوجيات الفضفاضة والتلفيقيّه في الغالب, الجمع ما بين الإيمان والعقل, أو ما بين الواقع والحلم, وهي شعارات مشبعة إلى حد كبير أيضاً بالعاطفة والوجدان الوطنيين, وبالروح القوميّة والدينيّة الشكليّة والتسويقيّة, بهدف لف الجماهير حولها, ولفت نظرها إلى ذلك العدو الخارجي بشكل خاص, بدلاً من توجه نظرها إلى ما يجري في الداخل من ظلم وقهر وتجهيل ونشر للفساد بكل أشكاله, لاعتقاد السلطات الحاكمة في هذه الأنظمة الشموليّة بان ما تمارسه باسم هذه الأيديولوجيا وشعاراتها سيساهم في التخفيف من قيام ثورات أو ردود أفعال سلبية ضدها من قبل الجماهير. يضاف إلى ذلك توجهها في المقابل – أي القوى الحاكمة – إلى السير بالتوازي في محاربة أو إقصاء وتهميش النشاطات الثقافيّة والفكرية العقلانيّة والتنويريّة التي تساعد على تحرير عقول المواطنين ووعيها لذاتها, وبالتالي قدرتها على كشف نوايا قادة هذه الأنظمة الشموليّة وما تخطط له من أجل استمرار سلطتها وأدواتها في الحكم, مع اعتبار أن كل من يخالف سياسة هذه الأنظمة الداخليّة – نقول السياسة الداخلية وليس أيديولوجياتها – وهي سياسة كثيراً ما تكون بعيدة كل البعد عن روح وجوهر هذه الأيديولوجيات خائناً وعميلاً للوطن والأمّة, وبالتالي ضد هذه الأيديولوجيات بالضرورة.
2- غالباً ما يوجد في هذه الدول حزب وحيد أو أوحد, أو عائلة مالكة تنتمي لعشيرة أو قبيلة أو طائفة, يمارس كل نموذج منها دور هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في قيادتها لهذه الدولة أو تلك, تحت مظلة سياسويّة شعبويّة ترفض الآخر المختلف, وتعمل على إقصائه, أو ضمه لأجندتها السياسيّة, وبخاصة في الدول التي تدعي قياداتها انتمائها للديمقراطيّة الثوريّة. أما بالنسبة للمنظمات والنقابات المهنيّة إن وجدت, فهي أيضاً تمثل شرائح وظيفيّة وعمريّة مختلفة في عملها ونشاطاتها, دون تحديد واضح لبعدها الطبقي فكراً وممارسة, حيث يُعمل هنا على تحويلها إلى حزام ناقل للسلطة أو القوى المهيمنة على السلطة, ليصب نشاطها في سياسة الحزب الحاكم ومن يمثله أو (يقوده) أو يستخدمه أداة لفرض هيمنته على الدولة والمجتمع. لذلك نجد أن القيادة التي تكلف بقيادة الحزب والمنظمات والدولة والمجتمع, يتم اختيارها وفقاً لمعايير ومقاييس أمنيّة مشددة تقوم على الولاء والثقة للقوى المسيطرة على السلطة قبل الكفاءة, وغالباً ما يتم تبديل هذه القيادات دون محاسبة إذا ما مارست الفساد بشكل فاضح, وهو فساد أصبح نهجاً تفرضه طبيعة الدولة الشموليّة ذاتها بالضرورة بسبب غياب الرقابة الشعبية والحزبيّة والمنظماتيّة, إضافة إلى سيطرة هذه القوى الحاكمة على السلطات التنفيذيّة والتشريعيّة والقضائيّة, أو يتم تغيير بعض هذه القيادات وخاصة الحزبيّة منها, كلما اقتضت الظروف الدوليّة أو الضرورات الشعبويّة لقادة النظام الحقيقيين, إلا أن معظم التغيير يتم هنا في الأوقات التي تبدأ فيها رائحة الفساد تفوح في الدولة والمجتمع, حيث يتم تبديلها وجلب قيادات جديدة من النموذج نفسه لامتصاص النقمة, واشعار المجتمع بأن مسببي الفساد قد اجتثوا, وأن عين القائمين على إدارة الدولة والمجتمع ساهرة لا تنام من أجل خدمة المجتمع وتحقيق العدالة والأمن والاستقرار الدائم فيه. ولا نبالغ إذا قلنا كثيراً ما يضحى حتى بالصالح من هذه القيادات عند التغيير. ففي الدولة الشموليّة لا شيء يشفع لمن يعمل فيها حتى لمن يمتلك أخلاقاً حميدة, هذه الأخلاق التي تشكل في أحيان كثيرة عالة عليه, وقد يدفع ثمنها غالياً – وهذا ما يحدث – كونها تقف حجر عثرة أمام مصالح المتنفذين جداً والفاسدين من الحاشية المالكة أو من البيت الحاكم في السلطة. وهذا ما يدفع السلطات المتنفذة إلى إفساد من لم يفسد حتى يكون الكل ملوثاً وتحت الطلب. ففي العموم, إن كل القيادات في الدولة والحزب هم أحجار شطرنج بيد القائد الفرد صاحب القرار الأول والأخير في قيادة الدولة والمجتمع. أو بتعبير آخر, إن كل من يمارسون الفعل الساسيّ والعسكريّ في هذه الأنظمة الشموليّة تحت قيادة الحاكم الفرد, هم ليسوا أكثر من باقات زهور كلما مر عليها الزمن في مناصبها وممارستها لنشاطها السياسيّ أو ممارستها لمهامها القيادية تأخذ بالذبول ويبهت زهوها ويخفت بريقها وتفقد روائحها حتى ينالها في النهاية اليباس ويستغنى عنها في النهاية ويلقى بها في مزبلة التاريخ.
ومع ذلك نستطيع القول وبحسم: إن الكثير من هذه القيادات (الأدوات), هي ذاتها من يتخذ الحزب أو سلطة الدولة مطية لوجودها أيضاً. وإن الحزب أو السلطة الحاكمة الفعليّة نفسها تمارس استمراريّة وجودها في بناء الدولة الكليانيّة بالضرورة. فأعضاء الحزب الوحيد, المتفرد بالسلطة, أو النخب العاملة لخدمة العائلة الحاكمة الوحيدة من الناحية العمليّة, ليس مطلوب منهم أن يستمعوا للرأي الآخر, ولا السعي لإجراء انتخابات حرة لتداول السلطة مثلاً, أو تعميق لفكرة المواطنة, والتعدديّة السياسيّة ودولة القانون, وإنما مهمتهم تقديم خدمات لاستمراريّة السلطة الفعليّة في الدولة وما تفكر به أو تطالبهم بتنفيذه, فهم ليسوا في الواقع أكثر من شبكة رقابيّة وتنفيذيّة مسلوبة الإرادة, وهم من جهة أخرى كذلك يمارسون دور هيئة (تجسس ودعاية), تتيح للسلطة ممثلة (بقائدها الملهم), أن تحولهم إلى مجسات لها تمارس دور الشرطيّ أو رجل الأمن في كل مكان يعملون فيه تقريباً داخل الحياة السياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة والاقتصاديّة للدولة. لذلك ليس هناك مشكلة مثلاً أن تعيّن قيادات حزبيّة أو إداريّة على درجة عالية من الأميّة والانتهازيّة في قيادة المراكز الأساسيّة للدول ذات الحزب الواحد وما يتبعه من منظمات ونقابات وغيرها, فالمهم عند من يُسند لها هذه المهمات القياديّة في كل هذه الأنظمة الشموليّة, هو تنفيذ طلبات من ساهم في جلبها من أصحاب القرار الفعليّ, وأن تجيد التصفيق وإقامة الكرنفالات في المناسبات التي تقرر السلطة النافذة أو صاحبة القرار الحقيقي أهميتها, وبالتالي العمل على استمراريّة النظام وعدم السماح لأحد النيل منه حتى ولو على مستوى النقد.
أما في دول القبيلة ذات الصفات (المملوكيّة). فأنظمتها ودساتيرها, هذا إن وجدت هناك دساتير ببعض دولها, فالملك أو الأمير وأسرهم, هم من يفصل نظام الحكم على هواهم ومصالحهم. فالحاكم هو الآمر الناهي والمانح الواهب. أو هو الدولة والدولة هو.
ملاحظة: تابع غداً السمات والخصائص التالية.
3- ما يميز هذه الأنظمة وجود قائد يتمتع بشخصيّة كاريزميّة فرضته قوانين الوراثة الملكيّة أو الأميريّة, أو وضع أنظمة دستورية أو حزبيّة تسمح في وجود هذا القائد أو ذاك وفقاً لظروف استثنائيّة تفرضها ظروف الدولة والمجتمع, حيث يُمنح سيطرة مطلقة على مراكز اتخاذ القرارات الحاسمة والفاعلة في الدولة والحزب والجيش. وهو قائد يمارس صلاحياته (المطلقة) في الغالب, وفقاً لدستور تمت صياغة بعض بنوده لخدمة هذا القائد وحزبه, من خلال من يوصلهم الحزب إلى عضويّة المجالس البرلمانيّة كنواب له في هذه البرلمانات, وبذلك يكون هذا القائد قد تحكم بكل قرارات المجلس النيابيّ, إضافة لكافة السلطات التنفيذيّة والتشريعيّة والقضائيّة بسبب غياب التعدديّة السياسيّة وسيادة أو هيمنة الحزب الواحد, وما على الآخرين سوى التنفيذ دون أي نقاش أو اعتراض, وإن وجد هناك مواقف ذات طابع استراتيجي تتطلب استشارة الآخر المختلف فهي محدودة. وذلك لذر الرماد في العيون أو للتنصل من المسؤوليّة إذا ما انعكست هذه القرات سلباً عند التطبيق. فالقائد يتحول مع مرور الأيام إلى رمز وأنموذج للشخصيّة الفذة التاريخيّة التي لم ينجب التاريخ مثلها, فهو المفكر والملهم والبطل والأخ والأب الرحوم, وهو قدوة العمال والفلاحين والمعلمين والمهندسين والأطباء وكل فعاليات المجتمع العمريّة والوظيفيّة, وهو من سيقود الأمة إلى الصراط المستقيم بحكمته وفطنته. وبكلمة أخرى: هو من يجب أن يقتدى به في كل ما يقوله ويمارسه, وما يطلب تنفيذه يُعمل عليه دون مناقشة أو تردد, الأمر الذي يحول فكره إلى مسألة فقهيّه مقدسة يمكن أن نسميها (فقه القائد), الذي لا يختلف فكره في تداوله عن فكر الشافعي أو ابن حنبل أو غيرهما من الأئمة, بل هو يبزهم… كونه يتحول إلى إله دنيوي, ولكن مشكلته ليس لديه ملائكة ينقلون له الصورة الحقيقيّة عما يجري في المجتمع من فساد واستغلال للسلطة من قبل مسؤوليّ الدولة والحزب. ونظراً لكون الشعب بمعظمه ومنهم القوى المعارضة التي تعمل سراً بمعظم اتجاهاتها تعرف الدور الذي يلعبه هذا القائد أو الزعيم في حياة الدولة والمجتمع, فإن الشعار الأبرز الذي رفعته هذه المعارضة على يافطات ما سمي ثورات الربيع العربي هو (إرحل), حيث حُمْلَ وحده المسؤوليّة, كونهم يعرفون أن من يعمل معه أو يسانده في قيادة الدولة والمجتمع لا يحلون ولا يربطون.
إن زعامة القائد في هذه الأنظمة ملكيّة كانت أو جمهوريّة أو أميريّة, بغض النظر عن من هو جيد أو سيئ من هؤلاء القادة, تتحول إلى أمر مشروع بالقوة, إما باسم الدين كقميص عثمان, أو بالغلبة وقهر المخالف وإسكاته كي يموت بعلته, وبالتالي هي تُفرض بوصفها حقيقة وحيدة ينبغي على الجميع محاكاتها محاكاة طبيعية وكل من ينتقدها يقع تحت طائلة الاتهام بخيانة الوطن, بل والتآمر مع أعداء الوطن ذاته.
4- ممارسة القمع الفكري والجسدي لكل معارضة أو تنظيم لا توافق عليه السلطة الحاكمة, من اليمين كان أو من اليسار أو من الوسط الليبرالي. بل إن هذا القمع ينال حتى أعضاء البيت الحاكم أو الحزب الحاكم نفسه إذا كان بينهم ممن لا يرضى عن بعض السياسات القائمة, أو يتحفظ عليها, أو تكون لديه رؤى فكريّة ممكن أن تطور في خطاب الدولة أو الحزب الفكريّ والسياسيّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ. ويتم الاقصاء هنا وبشكل دائم للكوادر المثقفة, والتي لها مواقف ورؤى ذات طبيعة عقلانيّة تنويريّة أو علمانيّة, من المشاركة في إدارة شؤون الدولة والمجتمع والحزب. أما من يظل في الساحة الثقافيّة والفكريّة فهم مثقفو السلطة وانتهازيوها والمروجون لسياستها, والشارحون أو المفسرون لـ”فقه القائد”, الذين يعملون ليل نهار ومن خلال وسائل الإعلام ومنابر الثقافة بكل أنواعها من أجل غسل عقول المواطنين وإعادة زرعها وهيكلتها بقيم ثقافيّه هشة وسطحيّة بعيدة كل البعد عن معاناتهم الحقيقية وطموحاتهم ودورهم في المشاركة بقيادة بلدهم وتنميته.
5- الهيمنة الكليّة على السلطات الثلاثة التشريعيّة والتنفيذيّة والقضائيّة, والعمل على إلغاء الأمر القضائيّ من خلال تطبيق (الأحكام العرفيّة). وترك المجتمع دائما تحت رحمة الجهة التي تمارس صلاحيات قانون الأحكام العرفيّة, حيث يفقد الفرد هنا أي حامي له من الناحية القانونيّة, وهذا التوجه يساهم في نشر وتعميم الخوف بكل ما يتعلق به من سمات وخصائص تدميريّة لنفسيّة الفرد والمجتمع, مثل التزلف والنميمة والكذب والرياء وغير ذلك. هذا إضافة إلى أن مسألة الخوف ذاتها يُمارس نشرها وتجذيرها في نفسيات وعقول المواطنين من خلال الأجهزة الأمنيّة المتعددة التي يوكل إليها إجراء الدراسات الأمنيّة لكل فرد من أفراد المجتمع وبشكل دوري, مرة أو مرتين في العام الواحد, ومن خلال تدخل القوى الأمنيّة الفظ أيضاً في حياة أو شؤون الأفراد الداخليّة بشكل يوميّ, لرسم أسس تفكيرهم ووعيهم وسلوكهم بما يتفق والخضوع اللاشعوريّ للسلطة الحاكمة, حيث يدخلون هنا وبشكل مدروس وممنهج في عقول المواطنين من خلال إيهامهم أنهم يتعرضون دوماً للمراقبة الشديدة من قبل الأجهزة الأمنيّة ومخبريها ممن تم شراء ضمائرهم تحت الترهيب والترغيب, وأن هناك من يترصد أحاديثهم تحت مقولة (للحيطان آذان), وينقل أخبارهم ونشاطاتهم للجهات المعنية حتى وهم في غرف نومهم. بيد أن ثورات الربيع العربي, أثبتت أن تلك الأجهزة وعلى كثرتها كانت بعيدة كل البعد عن كل ما كانت تدعيه عدى عمل بعض قادتها في التجارة والسمسرة, ومراقبة وزرع الخوف لدى من هم داخل السلطة ذاتها, أي من يشاركون فيها عبر كل مفاصلها السياسيّة والإداريّة والعسكريّة, أما على مستوى ما كانت تخطط له المعارضة في السر فقد تبين من خلال ما سمي بثورات الربيع العربي فشلها الحقيقي في كشف ما كانت تخطط له هذ المعارضة ضد الأنظمة الحاكمة.
6- هي دولة أداة, يسيطر على آلية عملها المباشر في نهاية المطاف سلطة حاكمة غائبة إلى حد كبير عن مشاكل الشعب وهمومه وقضاياه المصيريّة التي هي في النهاية قضايا الدولة والمجتمع بهذا الشكل أو ذاك, مع تأكيدنا على أنها تعمل في بناء قاعدة خدماتية واسعة في دولها. وبغض النظر عن تحديد البعد الطبقي والديني بكل تفريعاته الطائفيّة والمذهبيّة والعشائريّة والقبليّة التي تنتمي إليها قيادات الدولة الشموليّة, فهي تستغل هنا حالة التنظيم العالي لدى المؤسسة العسكريّة وتنفيذها الأوامر دون تردد من جهة, ثم لكونها المؤسسة الوحيدة التي يحق لها امتلاك السلاح شرعاً من جهة ثانية للحفاظ على وجودها واستمراريته, هذا مع إيلاء القوى العسكريّة الخاصة بأمن الزعيم القائد أو الملك كل الرعاية من حيث العدد والعتاد والعناية بالعناصر المنضوية تحت هذا الفصيل. مع تأكيدنا هنا أن هذه المؤسسة العسكريّة ذاتها تُمارس عليها الرقابة الشديدة كذلك أكثر من أية مؤسسة أخرى من قبل جهاز أمنيّ محدد يعطى صلاحيات أمنيّة تفوق بقية الأجهزة الأخرى, وهي في المحصلة – أي الأجهزة الأمنيّة – مع باقي المؤسسات المدنيّة والتشريعيّة والقضائيّة تجرد من استقلالها الذاتيّ (نسبيّاً) أمام السلطة المركزيّة, والهدف من ذلك هو فرض الطاعة والرقابة عليها وتجنيد الكل لخدمة الأهداف التي يتطلع إليها القائد الحاكم ومن يعمل تحت أمرته.
7- غالبا ما تقوم الدولة الشموليّة بتغييب الديمقراطيّة, أو تطبيق ديمقراطيات سياسيّة واجتماعيّة واقتصادية وثقافيّة على مقاس السلطات الحاكمة في هذه الدول تحت ذريعة أن شعوبهم جاهلة وغير قادرة عمليّاً على قيادة نسفها بنفسها, وبالتالي فإن غياباً واضحاً وفاضحاً للرأي والرأي الآخر هنا, سيساهم بالضرورة في تغييب الاتجاهات المعتدلة وفي ضبط المشاعر والأهواء والإرادات لدى القوى المعارضة لفترات طويلة بالضرورة, وهذا ما يدفع المعارضة شيئاً فشيئاً مع مرور الأيام إلى التطرف نحو اليمين أو اليسار, الأمر الذي سيؤدي عند أي حراك سياسيّ للمعارضة ضد الدولة إلى ممارسة دكتاتوريتها أيضا ضد ديكتاتوريّة الدولة الشموليّة, وإذا كان التطرف عند اليساريّ يأتي من اضطهاد هذا اليسار والتشهير به بتهمة الكفر والإلحاد والزندقة والسجن, من قبل هذه الأنظمة الاستبداديّة ومشايخها, أو من رجال الدين المرتزقة الذين يفسرون الدين ويؤولونه خدمة لمصالحهم ومصالح القوى الحاكمة التي يعملون تحت إرادتها, فإن المعارضة الدينيّة تُقاوم هنا من قبل القوى الحاكمة تحت ذريعة أنها تربط الدين بالسياسة من جهة, ثم لكونها معارضة أصوليّة تكفيريّة لا تقبل الآخر وتحارب العقل وتستخدم العنف ضد المختلف من جهة أخرى. والمضحك المبكي حقيقة في سياسات هذه الأنظمة الشموليّة تجاه المعارضة بكل فصائلها أنها تلعب على كل أوراقها وخاصة في الأنظمة التي تدعي العلمانيّة, حيث تجدها تنافق للدين بدرجة تقوم هي ذاتها بربط الدين بالسياسة عندما تدعي برط العروبة بالإسلام, وتقوم برعاية كل المناسبات الدينيّة, بل هي تقوم بفسح المجال واسعا للعمل والنشاط الدينيّ عبر إلقاء الدروس والمواعظ الدينيّة والفقهيّة في الجوامع, والسماح للفرق الصوفية بالتواجد والانتشار, وهذا ما يساهم في السيطرة على المؤسسة الدينيّة الرسميّة ذاتها, أي اختراقها والعمل باسمها لإيصال ونشر ما تريده المعارضة الدينيّة من أفكار ورؤى تخدم توجهاتها في هدم أسس ومبادى الدولة العلمانيّة (الشكليّة) التي تدعي القوى الحاكمة تبنيها. أو بتعبير آخر: إن المعارضة الدينيّة يُفسح لها في المجال تحت توجهات النفاق الدينيّ, أن تقوم بتمرير من رؤى وأفكار دينيّة ضد مشروع الدولة الحاكمة باسم العلمانيّة, مستغلة جوامع الدولة ومؤسساتها الدينيّة في إعطاء الدروس الدينيّة التي تحرض على الدولة بشكل غير مباشر عبر زرع مفاهيم الفكر السلفيّ ودعوته للحاكميّة الذي تتبناه المؤسسة الدينيّة الرسميّة ذاتها أيضاً بشكل مباشر أو غير مباشر, وهو الخطاب السلفيّ الامتثاليّ الاستسلاميّ الرافض للعقل, أي الرافض لمعطيات المجتمع المدنيّ والعلمانيّة بين أفراد المجتمع المتدين أصلاً, وبخاصة بين صفوف الأطفال والشباب. ومن هنا نجد على سبيل المثال كيف تحرك مئات الآلاف من الشباب تحت راية الإسلام ضد الدولة الشموليّة في ما سمي بثورات الربيع العربي, وكيف مارسوا كل أشكال العنف والتطرف ضد الدولة وكل من يختلف معهم في الدين أو المذهب أو الطائفة أو حتى الموقف من الحياة.
أما بالنسبة لمعارضة اليسار بما تحمله من أفكار تقدميّة ذات طابع علمانيّ وتنويريّ, فالدولة الشموليّة التي تدعي العلمانيّة, تعمل جاهدة على احتواء من تستطيع احتوائه من هذه القوى تحت مظلات جبهات تقدميّة أو غيرها, تعطى فيها هذه المعارضة التقدميّة أو من تدعي التقدميّة بعض المواقع السياسيّة في الوزارة أو البرلمانات أو الإدارة المحليّة بنسبة تصل على حد المثل الشعبي (من الشاة أذنها), والمؤسف أن الكثير من هذه القوى التقدميّة في مثل هذه المشاركة تتحول إلى أدوات بيد القوى الحاكمة صاحبة القرار لا تختلف عن بقية الأدوات الأخرى في الحزب الحاكم نفسه ومنظماته ونقاباته.
أما في الدولة (المملوكيّة) الملكيّة والأميريّة, فلا وجود لليسار أو أي شكل من أشكال المعارضة. فالمعارضة تعني الخيانة العظمى. والخيانة العظمى نهايتها المقصلة لا محال.
8- إن الأنظمة الشموليّة غير قادرة في الحقيقة على تشكيل طبقة اجتماعيّة, أو تحالف طبقي ذي نزعة وطنيّة واعية لذاتها – أي واعية لمصالحها ومصالح المجتمع – تعمل من أجل بناء الدولة والمجتمع بناء عقلانيّا يهدف إلى خلق تنمية اجتماعيّة واقتصاديّه وسياسيّة وثقافيّة, بقدر ما تعمل هذه الأنظمة الشموليّة على تشكيل شرائح من البرجوازيّة البيروقراطيّة والطفيليّة من موظفيّ الدولة الكبار في السلطة والحزب, الذين راكموا ثروات كبيرة على حساب سرقة أموال الشعب بسبب غياب الرقابة الشعبيّة والمحاسبة, إن كان عبر الرشاوى أو غيرها من الوسائل الأخرى اللامشروعة المتعلقة بعمل المؤسسات الحكوميّة والحزبيّة (تزوير الفواتير- وطلبات الشراء الوهميّة, وبناء مشاريع وهميّة, وتعيين الموظفين وإسناد المهام القياديّة والإداريّة لهم, وغير ذلك). هذا إضافة إلى تشكل شرائح أخرى من السماسرة والمتعهدين والتجار, وهي ما تسمى بـ “الطفيليّة” التي التحمت التحاماً عضويّاً مع الشرائح البيروقراطيّة ذاتها, وكل هذه الشرائح في المحصلة لا يهمهما بناء الدولة والمجتمع وتنميتهما, بقدر ما يهمها مصالحها الخاصة الضيقة, والتي غالباً ما تعبر وبشكل فاضح عن أعلى درجات الفساد, في الدولة والمجتمع.
ومن الضرورة في هذا السياق الإشارة هنا إلى مسألة على درجة عالية من الأهميّة وهي: إن غياب العقلانيّة والفكر المؤسساتيّ في اختيار قادة وإدارات الدولة والحزب الحاكم, يؤدي إلى غياب حس المسؤوليّة تجاه الدولة والمجتمع لدى الكثير من هؤلاء القيادين والمدراء, كون ارتباطهم هنا يقتصر على من ساهم من القادة الكبار في جلبهم إلى السلطة, وغالباً ما تدخل الرشاوى والمحسوبيات في اختيار هذا المدير أو ذاك, الأمر الذي يساهم في تشكيل شكل من أشكال المافيات في كل دائرة أو مؤسسة أو وزارة من وزارات الدولة تلتقي مصالح قيادتها من الأعلى إلى الأسفل مع بعضها بعضاً, وهنا يبدأ الفساد في نخر الدولة ذاتها من الأسفل إلى الأعلى وإيصالها إلى درجة التسرطن.
9- إن كل تلك السمات والخصائص التي جئنا عليها في عرضنا السابق, تشكل مصدراً أساسيّاً من مصادر التطرف والتطرف المعارض كما أشرنا في موقع سابق, حيث لم يكن تطرف المعارضة إلا استجابة طبيعيّة للتطرف السلطويّ, وامتداداً له, كفعل ورد فعل, وبالتالي فكلا الطرفين الدولة والمعارضة يعملان بتطرفهما على تدمير الدولة والمجتمع معاً. هذا مع تأكيدنا هنا على أن الدولة الكليانيّة بمن يمثلها, والمعارضة بمن يمثلها أيضاً, قد ساهمتا في إضعاف الشعور بالانتماء للوطن لدى أفراد المجتمع, فكل منهما وجه انتماء الأفراد نحو انتماءات أخرى ثانوية بعيدة عن الانتماء للوطن, فإذا كانت الدولة تكرس جهدها في هذا الاتجاه نحو الولاء لـ (القائد), أو للعشيرة والقبيلة والطائفة, فإن المعارضة المتطرفة وبخاصة الإسلاميّة منها, وجهته نحو العقيدة الدينيّة, أو الأيديولوجيا الدينيّة, هذه الأيديولوجيا التي غالباً ما تقف ضد الوطن ذاته وضد القوميّة, لأن انتمائها يقوم أساساً على العقيدة التي نزلت رحمة للعالمين.
ختاماً نقول: تحت مظلة هذه الأنظمة الشموليّة/ الكليانيّة يجد المتابع أن هذه الأنظمة في واقع أمرها هي ليست دينيّة ولا علمانيّة ولا ليبراليّة, وإنما هي مجرد (سلطة دولة) قهريّة, ليس لديها مشروع اجتماعيّ وسياسيّ وثقافيّ تنويريّ, لا يهمها تنظيم المجتمع وتنميته على أسس عقلانيّة ومدنيّة, ولا حتى على أسس دينيّة ليبراليّة, فكل الذي يهمها هو البقاء في السلطة. وهذا الكلام ينطبق على (خادم الحرمين الشريفين), مثلما ينطبق على (بطل العروبة والقومية العربية) أو (الزعيم الأوحد), أو (ملك أفريقيا), أو (سيف العرب), أو (حكيم الأمة). فالسلطة هنا ترقص على كل أنواع الحبال… فهي ترقص على حبل الدين, والعروبة والقوميّة, والاشتراكيّة, والليبراليّة, والعلمانيّة والديمقراطيّة, مثلما ترقص أيضاً على حبال السياسة الخارجيّة إقليميّة كانت أو دوليّة إن اقتضت الحاجة ذلك… إنها أنظمة استطاعت أن تجمع بين (عمرة العسكريّ) و(عمامة الشيخ) كما يقول الباحث والأديب “محمد كامل الخطيب”, وأن تعمل على تفصيل ديمقراطيات وعلمانيات وحريات وعقلانيات سياسيّة على مقاس ورغبات ومصالح سلطة الزعيم الأوحد ورغباته. هذا (الأوحد) الذي يريد تمثل قيم (المستبد العادل) الذي يهمه في الحقيقة انطلاقاً من نزعته الشعبويّة, وحب تملكه للسلطة والبقاء فيها, أن يعمل على بناء قاعدة خدماتيّة وعمرانيّة وصناعيّة وزراعيّة في بلاده, أي بناء دولة إن استطاع, مع إغفال شديد ومركز ومقصود لمسألة بناء الإنسان ذاته كقيمة روحيّة ومعنويّة لأن مسألة بناء الإنسان تتطلب تنمية الجوانب الثقافيّة والسياسيّة التنويريّة, التي تخلق وعياً صحيحاً لدى أفراد المجتمع, وعياً بأنفسهم ومجتمعهم وبحاجاته الأساسيّة لبناء دولتهم ومجتمعهم البناء الأمثل. أي تخلق إيماناً حقيقيّاً لدى الفرد والمجتمع بدولة القانون والمؤسسات.
تظل هنا بعض الأسئلة المشروعة تطرح نفسها علينا ومن باب الدور الذي تلعبه السياسة في حركة النهضة لأي شعب من الشعوب, مثل: ترى هل يتعلم هذا (المستبد العادل) من تجربة ما سمي بالربيع العربي وما تركته هذه التجربة من دمار للعباد والبلاد بسبب تلك السياسات الخاطئة التي ورثتها شهوة السلطة, ممثلة بالتفرد في السلطة وإقصاء الاخر, وتغييب دولة القانون والمواطنة والتعدديّة السياسيّة وتداول السلطة؟, ثم ألم يحن الوقت ويدرك هذا (البطل) أن التاريخ تغير كما أشرنا في موقع سابق ولم يعد يتقبل الأنظمة القروسطيّة وفقاً لفهم الخليفة عثمان بن عفان للسلطة على اعتبارها قميص قمصنه الله له ولن يتخلى عنه حتى لو تدمرت الدولة على رؤوس أهلها وسارت شلالات الدم في كل بقعة من أرض الوطن.؟, وأنه قد آن الأوان للشعوب أن تقرر مصيرها وتصنع تاريخها بيدها؟, وأنه لم تعد مسألة الوصاية على الشعوب واردة اليوم؟, دون أن ننكر ما للفرد من دور في التاريخ, بيد أن هذا الدور لن يتحقق بشكله الإيجابيّ ما لم تسمح به تلك الشعوب بعد رفع الوصاية عنها.
ملاك القول هنا: تظل الشرعيّة في أي مجتمع من المجتمعات كما يقول (محمد سعيد العشماوي), هي أفضل في النهاية من يحمي نظام الحكم والمجتمع معاً, فإذا خرج نظام على الشرعيّة أو وصل إلى الحكم بدون وجه شرعيّ بفعل أقلية مغامرة أو عصبة متطرفة أو جماعة مسلحة ترفع شعارات الوطنيّة والقوميّة, أو تتخذ من الدين ذريعة للوصول إلى السلطة, عاملة على إلغاء المبادئ الدستوريّة بالقوة, وإسكات كل معارضة لها بالإرهاب, وتجميع المؤيدين لها بالترغيب والترهيب, وافتعال الموافقة على حكمها بالتزييف والتزوير, فإن الشرعيّة وحدها كفيلة بتقويض هذا الحكم آجلاً أم عاجلاً. ( 1) . وأجزم هنا أنها الشرعيّة التي تلتف حولها اليوم كل القوى الوطنية الشريفة بغض النظر عن بنيتها الطبقيّة ومرجعياتها الفكريّة في وطننا العربي, دون التقليل من أهمية ومكانة مصالح الجماهير الشعبيّة في بلداننا. وأقول الشريفة حتى نبعد عنها البرجوازيّة البيروقراطيّة والطفيليّة.
إن التحالف الجماهيريّ الواسع المؤمن بالوطن والمواطنة, يعتبر هو القوى القادرة على تحطيم وإلغاء بنية الدولة الشموليّة, وذلك لإيمانه – أي تحالف القوى الوطنيّة – بأن بلداننا بحاجة اليوم بالذات بعد كل هذه المعاناة الطويلة من تسلط الدولة الشموليّة إلى تحرير الإنسان ذاته قبل أي شيء آخر من كل القيود وحالات الضياع الفكريّ العقلانيّ التي فرضتها أو مارستها عليه الدولة الشموليّة وأدواتها من رجال الدين وفقهاء “فكر القائد” من مثقفين السلطة وانتهازييها, هذا ويأتي في مقدمة تنمية الإنسان من خلال احترام رأيه وحقه بالمشاركة في إدارة شؤون وطنه, وتنمية إبداعاته واحترام القوى المثقفة العقلانيّة والتنويريّة, وحق الحوار معها في قضايا الوطن المصيريّة وعدم تهميشها, وإعطاء كل إنسان حقه ودوره ومكانته في الدولة والمجتمع بعيدا عن الوصاية واعتبار الحقيقة ملكاً خاص لشخص أو حزب, وهذا كله سيصب في المحصلة في خانة احترام جوهر الإنسان وبناء دولته الوطنيّة القائمة على المواطنة ودولة القانون والمشاركة السياسيّة جنباً إلى جنب لتحقيق تنمية الدولة والمجتمع. أما القوى الحاكمة في الدول الشموليّة الشعبويّة التي تركز كثيراً على التنمية الماديّة دون الفكريّة, فلن تحقق هذه الاليّة استقرار الدولة والمجتمع, أي لن تستطيع بناء الإنسان الذي سيتجاوز كل مرجعياته التقليديّة من عشيرة وقبيلة وطائفة ومذهب, ويجعل من المواطنة صلب انتمائه حيث تكمن في هذه المواطنة كرامته وعزته وتقدمه. فالدولة أو السلطات الحاكمة التي لا تولي أهمية لتنمية الإنسان العقليّة والنفسيّة والأخلاقيّة والسير بها جنباً إلى جنب مع التنمية الماديّة, سيقوم هذا الإنسان ذاته بتدمير كل ما حققته دولته من تنمية ماديّة عندما تتاح له الظروف الداخليّة أو الخارجيّة المعادية لدولته أن يتحرك ضدها معبراً في تحركه هذا عن تخلفه وحقده وكراهيته لوطنه.
د.عدنان عويد كاتب وباحث من سوريّة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) – محمد سعيد العشماوي – الاسلام السياسي – دار الانتشار العربي –ط5 – ص206 .