الكاتب بشخصيته الخبيرة بأغوار المعارف النظرية وبأسرار واقع الأمة العربية الإسلامية يستضيف كل مرة القارئ المعتز بمقومات حضارته لفضاء تأمل جماعي في أحداث قصة جديدة تتكامل مع سابقاتها في رص مقومات بناء مشروع نهضوي تنموي للأمة العربية الإسلامية. إنه يكتب باحترافية لشد انتباه كل الفئات العمرية من شعوب الأقطار العربية إلى كون تاريخ حضارتها سَجَّلَ في الزمان والمكان وبوقع كوني ريادي أحداثا بارزة من الصعب محوها أو تجاوزها مهما تسلطت القوى الليبرالية بالتكنولوجيا والغنى الاقتصادي الرأسمالي وأسلحة الدمار الشامل. ما يكتبه وينشره القاسمي له سحر إنساني خاص ونادر بطبيعته، فلا هو تجسيد لطلب تعاطف نفساني لوضعيته العائلية والاجتماعية والسياسية الاقتصادية، ولا هو مطمح لإبراز التعالي في تجربة عمرية تجاوزت ثمانية عقود، بل يشكل أطروحة متكاملة شمولية لمشروع نهضوي عربي إسلامي ألمت به ذاته وآمنت بإمكانية تحقيقه.

طرح لنا هذه المرة بقصته “النجدة” ظاهرة أخرى من أشد الظواهر خطورة. لقد برع الكاتب في وصفها بلوحات تثير في الوقت ذاته الهلع والغضب في النفوس الحية. وضعنا امام سؤال محرج : هل للقانون وحده وقع قوي على قيادة سلوك الأفراد والجماعات إلى حياة السلم والسلام والطمأنينة والسعادة، أم هو مجرد وسيلة احتياطية لتصفية الحسابات مع المناوئين للأوضاع القائمة؟ الجواب الذي عبر عنه القاسمي صراحة من خلال قصته هو كون القانون ما هو إلا ترجمة لتطور الوعي الفردي والجماعي. مطمحه في آخر المطاف لا يمكن أن يكون إلا دعوة صريحة لربط التشريع بالتاريخ الحضاري العقلاني وتطورات أحداثه مجتمعيا من خلال منظومات تنشئوية قابلة للتنفيذ والتطوير زمنيا وجغرافيا.

مقاصد القاعدة القانونية في مجال السير والجولان تتلخص في :”على كل مواطن أن يحترم قانون السير، وأن يقود سيارته بروية وحكمة، متجنبا السرعة والمبالغة في تجاوز السيارات بعشوائية والإطلاع على كل أنواع المخالفات والحيلولة دون ارتكابها، وتجنب مخاطر المغامرة بالتجوال في المناطق البعيدة الخالية من المارة لكي لا يتعرض السائق ومن معه للاعتداء أو النهب والسرقة أو لحادثة سير مميتة“. أما مضمون القصة بحبكتها الراقية فينبه القارئ أن الواقع يتجاوز سلبا القانون، بل قد تتعسف التراكمات المناوئة لمقتضياته وتنجح في تهميشه أو تبخيسه. في نفس الوقت، يحذرنا الكاتب من خطورة التملص الحتمي لأغلب أحداث الواقع من القانون وآلياته التقنية والإدارية والمؤسساتية.

أمام هذه الإشكاليات المعقدة، لا يمكن للمهتم إلا التباهي باستحقاق في وصف القاسمي بالنباهة المعرفية الراقية في توجيه القارئ بفنية مبهرة نحو دلالة العنوان “النجدة“. إنها خلاصة لا يمكن تجاهلها أمام القامة الأدبية والفكرية للكاتب وثراء نصوصه الأدبية والفكرية. مشروعه النهضوي بمحاوره المتكاملة لا يمكن أن لا يذكر المتتبعين بالحاجة إلى إحياء وترسيخ العبر والرسائل الحضارية، وبالتالي تحميسهم بلوعة الاندماج المثمر في جدلية تقابل مقومات الأنا الحضارية مع بؤس الواقع المعاش. ضحية حادث السير في هذه القصة يستحق النجدة والتدخل السريع. الدلالة المستخلصة من القصة في النهاية كانت عكسية ومقلوبة بحيث كان مصير السارد التعرض للسرقة والنهب وهو غارق في دمائه، يناجي في نفس الوقت الحياة ممتعضا من غدر موت غير طبيعي.

لقد تتبع الجمهور العربي بشكل متكرر عمليات النهب التي تتعرض لها الشاحنات المغمورة بالمواد الاستهلاكية الفلاحية أو الصناعية عندما تنقلب أو تتهاوى حمولتها. تشمئز النفس عندما يتابع صاحبها عبر وسائل الإعلام أو مباشرة  توقف سيارات فارهة وخروج راكبيها، وغالبا يكونون من أسرة واحدة، ويستسلمون لنزعة الاغتنام. أما حضور رجال الأمن والوقاية المدنية، فلا يتم إلا بعد أن تنتهي عملية النهب، وتزهق الأرواح، ولا يفلحون إلا في إنقاذ الأجسام قوية التحمل أو تلك المصابة بجروح خفيفة. إنها بركة دَرْوِين المتعفنة التي لا يعيش من كائناتها الحية إلا القوية منها القادرة على التكيف مع حياة البر بعدما كانت مائية بطبيعتها. إنها انعكاس لمنطق النظام العالمي الجديد الذي لا يتيح الحياة إلا للأقوياء من البشر والمقاولات والشركات الإنتاجية والخدماتية.

إنها لوحة قاتمة بكل المقاييس لا يمكن أن لا تثير بشكل دائم الحاجة  إلى الالتزام باليقظة والحذر والخوف لدى سائقي السيارات والعربات في العالم العربي، وقياديي المشاريع التنموية الحالمين بعبور أزمنة الرداءة المتواصلة بسلم وسلام. وهو يضعنا (القاسمي) أمام ضعف المسؤولية الإنسانية المكرسة لوضعية اللامبالاة العمومية أمام الحوادث والمخاطر، يوجه تفكيرنا بطريقة لاشعورية إلى واقع الدول المتقدمة. التدخل المؤسساتي والأمني والصحي يتم بسرعة فائقة في العالم الغربي. تتسابق فرق الإنقاذ المختصة بطواقم متكاملة بالسيارات المعدة لذلك أو بواسطة المروحيات أو الطائرات النفاثة حسب طول المسافة بين المؤسسة المتدخلة للوصول إلى مكان وقوع الحادث في أقصى سرعة ممكنة.

لقد أبرز لنا الكاتب كيف يمتزج الخير بالشر في الحياة وتنبعث من صراعهما الأبدي الدروس والعبر. هذه الأخيرة يستفيد منها ناس الحاضر لخدمة المستقبل. الشر موجود، وفي أحيان كثيرة يتجبر ويصنع مع الخير مشاهد تفاعلية درامية مؤثرة. بالموازاة تتقابل الكلمتين “المخير/المسير” التي خلقتا نقاشا فلسفيا غمر خطابات المنابر المختلفة وصفحات الكتب والمجلات والصحف منذ قرون. هل هناك نسبة قدر بالنسبة لضحايا حوادث السير؟ هل حادثة سير هي تجسيد صدفة تلاقي شخصين الأول مسير والثاني مخير أم الحادث مجرد أمر من أمور الدنيا لا دخل لقوة السماء في حدوثها؟

الثابت هو كون الحديث عن الموت في قصص “أوان الرحيل” بين أن هناك نوعان منه، الأول “طبيعي” يسلم المرء به الروح لخالقها بعدما تعجز أعضاء بدنه عن أداء وظائفها بشكل طبيعي، والثاني “الموت الغادر” الذي ينعق فوق الرؤوس لأسباب مرتبطة بالتنشئة التي تتنافر وتعادي الحكمة والتبصر وتيسر تسلط العشوائية على الممارسات اليومية للأفراد والجماعات مسببة الحوادث العرضيّة وحوادث الطرق والأمراض الفتاكة. المهددون باستمرار بخطر الموت الغادر يعيشون في بركة موحشة مجهولة المعالم ويخضع الوقوع في ويلاتها للصدفة والمصادفة. فمن الناس من تدفعه تعوداته إلى إدمان مواد قاتلة بتراكماتها الزمنية (خمور، حشسش، هيروين، تدخين،…..)، ومنهم من لا قيم مرجعية له تتحكم في سلوكياته وأفعاله اليومية، فيخبط خبط عشواء صانعا مخاطر آيلة للحدوث قد تصيبه هو بالذات أو تصيب شخصا مثله أو تقيا ضحية.

بطل القصة سقط ضحية في سياق مؤسساتي وثقافي انتفت فيه بواعث الإنقاذ. سقط المسكين في وضع بين الغيبوبة والوعي، بين الحياة الدنيا والانقياد وراء هوس الالتحاق بالآخرة، غير قادر على الكلام والحركة ولا على تذكر ما وقع له : “فتحَ عينيْه. لم يُبصر شيئًا. حدّقَ في اللاشيء، فَلمْ يرَ، أوَّل الأمر، سوى صفحةٍ من ضبابٍ كثيفٍ، أخذت تنقشع رويدًا رويدًا، ليتمكّن مِن تَـبَـيُّـن ما حوله شيئًا فشيئًا، كما تتمظهر مسودةُ صورةٍ فوتوغرافيّةٍ بعد وضعها في محلول كاشف الألوان في المختبر“.

ازدادت مع مرور الوقت حالته الصحية تأزما وسوء، مصطحبة روحه بوجع شديد إلى مصير مجهول. مرمي لوحده في طريق زراعي مقفر، تغازله المنية، لم تخالج مخيلته إلا ابنته الصغيرة التي عودته بالعناية الدائمة: “حوَّل بصرَه إلى ذراعه، فراعه منظرُ بقعةٍ من الدم على كُمِّ سترته. ذُعر، فصرخ بأقصى قوّته، بَيْدَ أنّه لم يسمع صرخة، ولا صوتًا، ولا مجرَّد نأمة. أغمض عينيْه … حَوَّلَ نظراته بسرعة إلى ذراعه… بقعة الدم تتَّسع وتتَّسع. الضَّعف يدبُّ في أوصاله كقاتلٍ يرتدي طاقية الإخفاء. وبمرور كلِّ ثانية، يزداد الوَهَنُ شدة وألما، ويمسي سيّد الموقف. سيفه المسلول ذلك الدم الهارب خارج الجسد مع النبض المتفاقم، قطرة فقطرة. وبقعة الدم تكبر وتكبر. أيقن أنّ نهايته قريبة، ما لم ينقطع تدفّق الدم من جرحه. ولكنَّه لا يستطيع الحركة. لا يمكنه أن يفعل شيئًا“.

فجاعة الإنتظارية وألمها وقنوطها وغياب المنقذ عبر عنهما الكاتب ببراعة وجمالية تضاهي الانجذاب للقطات فيلم رائع : “لا يريد أن يموت … ولكنّ بقعة الدم تتَّسع وتتَّسع، والوَهَن يشتدُّ ويشتدُّ، ولا أثر لإنسان، ولا هدير لسيّارةٍ قادمة. أسبل جفونه“. حلت بعد مدة بقرة بمكان الحادث، طافت حوله، واختلج باله الأمل في رؤية بشر : “سمعَ حركةً قريبة منه. مرهقًا فتح عينيْه بصعوبة. بقرةٌ سائبةٌ توقّفتْ إزاءه. التفتت نحوه. ثُمَّ واصلتْ سيرها عَبْرَ الطريق. تبعتْها نظراتُه. كانت وحيدة. اختفتْ في الحقل المجاور. وبقعة الدم تتحوَّل إلى الأرض بجانبه. والدوار يشتدّ. والوَهَن يزداد. انطبقتْ أجفانه“.

انتظر طويلا ليلتحق رجل بالمكان. غمره الأمل والابتهاج معتبرا إياه منقذا سيتألم لا محالة لرؤيته، وسيصيح بأعلى صوته طالبا المساعدة والاتصال بالجهات الأمنية والصحية ورجال الوقاية المدنية : “نسمةٌ عليلة تَمَسُّ وجهَه مسًّا خفيفًا. يفتح عينيْه بجهد بالغ. يلمح شيئًا طويلاً داكنًا يتحرَّك من بعيد. بصعوبةٍ يُبقي جفنيْه الثقيليْن مواربيْن. يرى إنسانًا يسير. نعم، إنّه إنسان. إنّه يتَّجه صوبه. إنّه يقصده، بلا شكٍّ. إنّه يقترب منه. ترتفع ضربات قلبه قليلاً، كأنَّها تستحثّ القادم على الإسراع. تستعطفه. تستغيث به. النجدة! النجدة آتية. ولكنّ النزيف مستمرٌّ. وبقعة الدم على الأرض تتَّسع. والوَهَن يسود. وهو لا يستطيع أن يُبقي أجفانه مشرعة. يغمض عينيْه. دقات قلبه تتوانى، تتوارى، تكاد تندثر“.

ظن أنه يخضعه للإسعافات الأولية، يجس نبضات معصمه، ويمسد قلبه من جهة صدره الأيسر، إلا أنه لم يكن إلا لصا محترفا أو مواطنا لا تعنيه حياة بشر في خطر أمام انجذابه بالغنائم : “يحسُّ وهو مغمض العينيْن أنّ الرجل القادم يتوقَّف عنده قليلاً، ينحني عليه، يضع أَناملَ يده اليمنى على الجانب الأيسر من صدره، تحت سترته. من المؤكَّد أنّه يجسُّ نبضه، ليتأكّد من بقائه حيًّا. آه، لو كان يستطيع الكلام لقال له: ” إنّني ما أزال على قيد الحياة، حتّى إن لم تتناهَ إليكَ دقاتُ قلبي. افعلْ شيئًا، أرجوكَ، أتوسل إليكَ.”يحسُّ بالرجل يُمرِّر يدَه على صدره، تتعثّر بجيب سترته. لا بُدّ أنّه يريد تمسيد قلبه لـتـنـشيطه. وبعد قليل تـنـتـقل أنامل الرجل إلى معصم يده اليسرى. يضغط على المعصم قليلاً. لا شك أنَّه يجسُّ نبضَه من مِعصمه بعد أن امتـنعت عليه دقات قلبه“.

استولى الرجل على ما يدخر الضحية  في جيوب ملبسه، ونهب ما يوجد في السيارة، وترك روح الضحية تقاوم مستعطفة ملك الموت بمنحها مزيدا من الحياة للاستفادة من هذه الدروس والعبر : ” لا. لا. إنَّه يزيل ساعته من معصمه… ثمَّ يسمع خطوات الرجل تبتعد عنه في اتِّجاه السيّارة“.

لقد أنذرنا القاسمي بما لحق القيم ونزعات المروءة العربية الإسلامية من تدهور. إن التلف القيمي العميق الذي أصاب قيم التواصل، والتعاون، والصداقة، والحب، والكرم، وتقديم المساعدة لإنسان في خطر، وإنقاذ المغدور، والعناية بالطفولة، لا يبشر بالخير. قصة “النجدة” تعبر بالواضح عن السلبية البليغة للإنسان وعدوانيته. غاب هاجس البحث عن تراكم الأجر والحسنات، وتم تغييب الانشغال بالبحث عن الخلود بالدارين الدنيا والآخرة، وتم الاستسلام لوحشية الأنا الظرفية التي تخبط خبط عشواء، وقلت مبادرات الإنجاد والإنقاذ والحماية وتغيير المنكر. تتأزم الأوضاع وروح الحضارة العربية الإسلامية بتاريخها العقلاني. يصاب المؤرخون والمفكرون بالأرق عندما يتذكرون ماضيهم كان مورد خير فياض لا يترك أي هامش لتجبر الشر والانزلاق إلى الدونية الأبدية.

‫شاهد أيضًا‬

باب ما جاء في أن بوحمارة كان عميلا لفرنسا الإستعمارية..* لحسن العسبي

يحتاج التاريخ دوما لإعادة تحيين، كونه مادة لإنتاج المعنى انطلاقا من “الواقعة التاريخ…