هذه القصة تعتبر من روائع القاسمي. تفوقت في مضمونها وحبكتها السردية ولغتها السلسة وفنية بنيتها البلاغية والدلالية. فاجأ القارئ وأدخله فضاء أسئلة تعجبية بنفس درامي عندما اختار لعتبة قصته وجود قارب (لا يماثل شكلا ببقية القوارب) مرتبط أشد الارتباط بحياة السارد المتحدث بضمير المتكلم. مصادفة هذه الجملة كعتبة تجعل القارئ أمام سؤال محير للغاية: كيف لإنسان أن يربط مصيره بزورق صغير مهجور؟ إنه زورق مهمل ناقص التجهيزات، أزرق اللون بلا مجدافين متروك في موضع صخري يحميه من عنف الأمواج العاتية، يتمايل بدون أن يغادر مكانه بعدما تم إرساؤه من قبل بعناية فائقة. إنه قارب صغير في حجمه وأسطوري بمكان وظروف وجوده. يتجاذب مع أوضاع البحر، تغمره المياه بفعل المد فتشده إليها ولا يتحرر منها إلا عندما يحل الجزر. يتباهى بمظهره الكامل عندما يتخلص من عنف الأمواج، ويطفو بزرقته الملفتة للنظر بعدما يستنهض قواه وينتصر بكبريائه على سلاح البحر. رفع الكاتب من حدة توتر واستغراب القارئ في مدخل حبكة مشرقة شبيهة بكبسولة مادة منبهة. وجد السارد نفسه في وضع اضطراري للخروج من وضعية حيادية فيستسلم لضغط الحاجة إلى الرفع من يقظته ونباهته إلى أعلى المستويات.
انجذب القارئ بعبقرية لافتة إلى فضاء قصصي يُنْسي بحمولته الإبداعية التعودات المعروفة في مجال القراءة والكتابة. طبيعة النص البهيجة فرضت عليَّ كناقد الاسترسال في القراءة بديمومة النباهة واليقظة من أول كلمة في النص إلى نهايتها. خفف الكاتب بعد الصعقة التعجبية لعتبته النصية من الضغط والتوتر بفتانة مبهرة. عاد مسترجعا ذكريات الماضي. فَصَّل عرضه وكأنه يرسم لوحة تشكيلية بطموح تقديمها لمنافسة فنية أممية. عاد إلى اللحظة التي شاهد فيها هذا القارب وهو يرسو لأول مرّة أمام هذه الدارة المطلّة على الشاطئ المهجور: “لا أذكر متى رأيت ذلك القارب أول مرة هناك. فمنذ أن سكنت في هذه الدارة المطلة على هذا الشاطئ المنعزل، وهو في تلك البقعة من الخليج وحيدا. لفت نظري أول مرة عندما كنت أشاهد غروب الشمس في لحظاته الأخيرة…“. فضاء القصة مقلق ومغموم. ازداد المكان كدرا بفعل وحدة القارب والسارد. تعلق هذا الأخير بمنظر هذا الزورق المتخلى عنه إلى درجة ربط وجوده به. اختار الكاتب هذه المرة كفضاء لقصته منزل السارد على شاطئ بحر بخصوصيته المثيرة للاضطراب والتوجس: عزلة الدارة والراوي والقارب في شاطئ مهجور والزمن موحش بصمته.
الشمس تغرب مغادرة بحمرة غير عادية. في خضم هذا الغروب المستفز للمشاعر، يأخذ الكاتب قلمه أو فرشاته ويبدأ في تصميم وبناء نصه بكلمات رنانة تنعكس أفكارها بالموازاة على لوحة تشكيلية خارقة الجاذبية بمدلولها وألوانها: غروب موحش، سارد غريب الأطوار، بحر، قارب، عزلة…. لوحة تجسد مصير قارب في موضع خاص تحت زرقة السماء بلون قاعه الأبيض الذي يتجاذب مع الأمواج المتلاحقة، والظل والضوء في طبيعة تزرع المهابة في النفوس. يستمر الزمان كل يوم ليعانق الغروب كل مساء، آمرا خيوط الشمس بالرحيل لتترك مكانها للظلام. تتمدد البقع الحمراء المتناثرة التي تلطخ صفحة السماء الصافية الزرقة. ينعكس على القارب تحولات الضوء فيبدو جانبه المواجه للسارد أكثر قتامة.
والقارئ في وضعية نفسية تنهشه الحيرة والفضول، تقدم الكاتب في نصه لطرح العقدة بوسامة ساحرة. أوهمنا أن ما يحدث ليس طبيعيا وكأنه ينم لنا ما بين السطور أن هناك ارتباطات أسطورية في أحداث القصة، وأدخلنا بذلك إلى تفكير فلسفي ونفسي يتعالى عن الواقع وهو في نفس الآن منغمس فيه بقوة. أثار وحدة القارب بدون مالك، وتساءل عن الفائدة منه ووظيفته (أهو قارب صيد؟ أهو قارب نزهة؟)، ليجيب عن أسئلته بالنفي. المكان ليس مخصصا لممارسة الصيد ولا وجود لصيادين به ولا أحد يقترب منه للتنزه. بعد هاته العبارات المدهشة أدخلنا الكاتب مباشرة إلى عالم الألفة والفتور بعد فترات غمرها التعجب والقلق اللذان خضخضا مشاعرنا منذ البداية (لم يعد القارب يشكل عائقا لامتداد بصري). مر الوقت واعتاد السارد على رؤية القارب وكل مكونات الشاطئ. صار كل شيء مألوف لديه. تكررت المشاهد وتكدرت أوضاعه وتبدلت نظرته للأمور. راحت زرقة القارب تتماهى في زرقة البحر. وشيئا فشيئا لم يعد السارد يعيره اهتماما، كأنه لم يكن موجودا بالمرة.
بعد انجذاب قوي بمدخل متقون، ساد الغروب بأحزانه، وتسلط الروتين الذي وأد الإعجاب والفضول واليقظة، أحدث الكاتب صعقة جديدة لإثارة الانتباه مجددا. تفجر اهتمامه بالقارب في كل صباح ومساء. أعاد إلينا أهميته بالتعبير عن اشتياقه لرؤيته في كل مساء وفي بداية كل صباح بعد استيقاظه من النوم. انشغل بتعصب مرضي بمكوثه بمكانه. يقضي ساعات يومه في إطالة النظر إليه خالقا حوارا بينهما في شأن حركاته وأوضاعه متشبثا بمكوثه في موقعه (ثمة صلات روحية بيني وبين القارب).
تقلبات مزعجة تصيب الراوي. لا يعي تمام الوعي هل هو أمام مشاهد طبيعية أم وهمية. سكنه القارب، وأصابه هوس عظيم به، وشغله على مجريات الحياة. ارتبط وجوده بجماد من خشب لا حياة فيه وتنتفي في وجوده وظائف الصيد والتنزه. اعتقل بشعوره واللاشعوره برمزية هذا الشيء المهمل بدون أن يستوعب بجلاء السبب في ذلك: “وبالرغم من تفكيري المنطقي ذاك، فإن إحساسا غريبا سيطر على نفسي مفاده أن وجودي متوقف على وجود ذلك القارب في تلك البقعة“.
شد القارب اهتمام السارد وضمن له هذا الأخير صفة الوجود. هنا أتذكر قصة رجل مبتور اليدين والرجلين يُحْمَل في قفة اقتنتها أسرته خصيصا لنقله من المنزل إلى الشارع العام. تضعه أخته في مكان مكتظ بالمارة للتسول. انتبه إليه الناس بحسرة وحزن عميقين بعدما تم إنزاله لأول مرة من القفة وتهيئة أخته لمكان جلوسه كقطعة لحم لا فائدة من ورائها. تَعَوَّد الناس على رؤيته وتحول مع مرور الوقت إلى مجرد ديكور لا يثير أي انتباه أو اهتمام أو رأفة. قلت مداخيله المادية وضعفت قيمته لدى أسرته. تفقدت المارة غيابه المفاجئ يوما، وتأثروا بحزن شديد عندما علموا أنه مات. افتكروا ذكريات قليلة من وجوده في موضعه. وبقيت اللحظة المأساوية القوية التي رأوه يتكور من القفة لأول مرة ولحظة رحيله ذات وقع قاس على ناس محيط جلوسه الذي مكث فيه أكثر من عقد من الزمن.
بتعلقه بالقارب دخل السارد وضعية نفسية جديدة يبتكر فيها أفكارا معرفية هامة. أصبح وجود أحدهما متوقف عن وجود الآخر: “ثم فكرت : ولكن وجوده، هو الآخر، يتوقف عليَّ، فلو لم أشاهده أنا في هذا الشاطئ المنعزل الخالي من البشر لما كان موجودا…“. سأل نفسه كيف تنشأ الأحاسيس كالتي تغلغلت في وجدانه اتجاه القارب؟ هل هي أحاسيس حقيقية أم مجرد أوهام؟ ما الفائدة منها يا سادة؟ هل أحاسيسه مرتبطة بمكبوتاته اللاشعوريّة؟ أَوَضْعِيَتي متشابهة مع أولئك الذين يعتبرون الغيوم الداكنة والظلام واللون الأسود مصدر حزن وبلاء؟
قادنا الكاتب وغصنا معه في تفكير وهواجس وتساؤلات مضنية، فاختار عبارات جديدة زلزلت وضعيتنا النفسية ومسارات تفكيرنا. أحسسنا أننا نلج عالم الأسطورة، فأرجعنا إلى واقع معلوم. القارب الذي تحدث عنه السارد هو موضوع لوحة تشكيلية يرسمها صديقه الحميم خالد الجادر. هذا الأخير هو الذي ربط تمعن السارد في وجود القارب بسلوكه الغريب. أراد أن يثبتها على جدار صالة منزله كإبداع فني، والإبقاء في نفس الوقت على القارب راسيا أمام دارته على الشاطئ. القارب الذي توقفت حياة السارد عليه هو قارب خالد. قضى معه سنوات في دارته بعدما علم مرضه بالقلب وبنوبات الربو. كما نصحه طبيبه، هواء البحر النقي سيقلل من أزمات الربو الذي كان يعانيه، وأن الفضاء الواسع سيتيح له التمشي واستنشاق الهواء ما يخفف من مرض انسداد الشرايين في قلبه. عاشا معا في دفء معاشرة لمقاومة الاغتراب والبعد عن الوطن. لقد عاشا وضعا ينعق فوقه جبروت الموت ويغرد في سمائه الصمت والتأمل والمعاناة والإبداع.
الجادر طاقة موسوعية ونجم عصره في الفن التشكيلي والفكر والأدب. أصله من بلاد الرافدين. اقتسم ساعات حياته المتبقية مع السارد، فيمضي معظم وقته متأملا البحر من الشرفة، مطيلا التأمّل في زرقة مائه وأمواجه. تارة كان يلتهم كتابا وتارة أخرى ينهمك في رسم روحة. يصفه السارد بقليل الكلام وكثير التفكير وأن ما يجمعهما أكثر هو تعلقهما بالقارب. إنه ليس قاربا عاديا بل قارب سحري توهمه السارد وصديقه وكأنه وسيلة نقل إلى وجهات أسطورية غير معروفة المآل. اعتبر السارد القارب مثبت الوجود على الشاطئ، بينما انشغل خالد بفرضية اختفائه المباغت. إنه قارب الموت الذي سينقل الجادر بمعنوياته المرتفعة، المعتل والمتوجس بشعور اقتراب نهايته، إلى عالم الخلود.
قدم لنا الكاتب حوارا شيقا ووقائع مثيرة ميزتا حديث شخصيتين بارزتين، الأولى عادية وسليمة البدن مأزومة النفسية، والثانية عالمة تكالبت عليها أهوال القبور وعلة الجسد. الجادر بنفسية ترزح تحت مخالب الرحيل وجدت في القارب منفذا للتعبير عن أحاسيس الاقتراب من النهاية. أما السارد فيرى فيه الثبات في المكان والعزلة والوحدة والروتين القاتل. تشبثت نفسية خالد بترديد عبارة “يجب أن أرسم ذلك القارب قبل أن يرحل“. أدمن التحديق فيه بقلق وتوجس. استحضر الجادر في حديثه مفهوم الرحيل وهو مقتنع أن الرعب من الموت موجود يحيى به الإنسان، وحتميته حاضرة في الأنا الشعورية واللاشعورية. بهذا الموقف كان يتفاعل مع الألم محاورا بشجاعة المنية وسلطانها.
قد نلتف على هذا الشعور المُرعب، لكنه موجود. ولولا الإبداع الضامن لحياة الروح وتفاعلاتها المنتجة وطموح تسليم الروح بشكل طبيعي إلى خالقها، لاعتلت أبداننا، واستسلمنا للهوس المضني، وساهمنا في تقوية براثن نسر الموت الغادر بسلطان الشر، وأتحنا له النعيق فوق رؤوسنا والتلذذ مشبعا باصطياد أرواحنا بعشوائية ناكرة لأمانة الاستخلاف أرضا. إ
دوارد موران، الفيلسوف الفرنسي الكبير، كان يقول لأصدقائه مبكرا أنه سيعيش تسعين عاما. تجاوز عمره اليوم قرنا، ليجيب مدير تحرير جريدة لوموند الفرنسية بعد احتفائه بعيد ميلاده المائة الذي طالبه بحوار : “ماذا تنتظرون من رجل يتخاطب مع الموت في كل لحظة”.
طمع الرسام في شفاء في فضاء مكان منعزل. تحول القارب إلى فكرة لوحة تشكيلية ستجسد المعالم الشعورية واللاشعورية لفنان يخاطب ببسالة الموت التي تنعق بشؤم مغزع فوق رأسه. التحديق في القارب وكأنه تحديق في الموت وطقوسه. انتهى من رسم صخور الخليج كمرفأ طبيعي يرسو عليه القارب. أضاف الأمواج الهوجاء وقطراتها الفضية وهي تتطاير على القارب كحبيبات بيضاء. أجل رسم مركز المشهد (القارب) معتبرا إياه مركبة الموت. أعطى الانطباع وكأنه يريد أن يتناغم مع شعوره. قال كلمته الأخيرة وقررها: “علي أن أرسم القارب قبل أن يرحل“. هل ينتظر الجادر إشارة اقتراب رحيله ليربطها برسم القارب؟ هذا الأخير مجرد شيء مهمل لا حيلة له ولا قوة.
الأمواج التي تتصادم مع جوانب القارب مخترقة عمقه شبيهة بمداعبة الموت التي تتلاطم مع أحشاء خالد وبدنه. تفنن بكل ما لديه من تأمل وتمعن ورسم الصخور الحامية، وكأنه لا يريد التسليم بقدره المحتوم. رسم لوحة ثانية لكنها هي الأخرى تفتقر للقارب رمز فضاء الخشوع والانتظار. رسمها هذه المرة والغيوم تتكاثف حول المكان، وكأن هناك قوة تداهم الفضاء الصخري الحامي وتريد تفتيته لعزل القارب وإرغامه للاستسلام للأمواج العاتية. أحس بتحولات الطقس الجارفة. تفنن بروعة في رسم حركة الغيوم والأمواج بوضوح تام. لا يريد مرة أخرى أن يجسد القارب بشكل واضح في لوحته. حتى لو طاوعته نفسه على ذلك، فإن الغيوم السوداء الداكنة لن تساعده على تحقيق مراده. غزت الغيوم المكان، واشتدت العواصف، ولا فائدة من رسم القارب الخشبي المهمل، وكأن الرسام يحس باقتراب مركبة عملاقة ستحتل بالمكان وستعتقل روحه هو على الخصوص. إنها مركبة الموت الربانية التي لن يتفاداها أحد. تفنن في الرد على إلحاح السارد المستفسر عن عدم رسم القارب قائلا :”سأرسمه ذات يوم”.
الرسام مرتبط بالقارب لكنه تحاشاه بالرغم من وعيه التام بمعناه ودلالاته الرمزيّة. الراوي بانفعالاته يطمح في رسمه لكون وجوده متوقِّف على وجوده. زاوية النظر الفنية والفكرية للرسام المعتل تختلف كثيرا عن ما يراود الراوي من أفكار وهواجس. راكم تقنيات فنون الرسم ومداعبة الفرشاة والقلم. أبدع ألوف اللوحات برسائل إنسانية مختلفة ومتنوعة. سبر أغوار أسرار الحياة بنباهة ووعي عميق وتقاسمها مع أجيال الحاضر والمستقبل. هو في فترة زمنية يشعر فيها، بين آونة وأخرى، ببوادر أزمة قلبيّة (ألم في الصدر سرعان ما ينتشر إلى الفكّ والكتف اليسرى، ارتفاع في خفقان القلب، صعوبة في التنفّس، فيسرع في تناول قرص من دوائه، ويستلقي على ظهره في الأريكة الموجودة في الشرفة).
وهو يتعذب بعلله، لم يسمح لنفسه التخلي عن إبداعه الفني. أصر على عدم رسم القارب مخاطبا إياه: “سأرحل يوم ترحل، أو ترحل يوم أرحل“. علق حياته بوجود القارب متشبثا بحقه في الحياة بدون معاندة الموت وحتمية الرحيل الأبدي. الرسام حزين لأنه لم يجد من تعبير لإقناع الراوي بوجود القارب في اللوحتين. هو وجود مماثل لاندماج الجسد والروح ولعلاقة السماء بالأرض. التزم الصمت لكونه لم يتجرأ على التعسف على الراوي بما يراود عالمه الداخلي. أمل حياتهما مختلف للغاية وانشغالاتهما كذلك. شكل عالما خاصا في العالم المحسوس. لم يكن يشعر حتى بالراوي وهو يمر بالقرب منه. كان يتهيأ للعبور إلى العالم الأبدي. يعتبر كون تكرار حدوث ظاهرة الموت في حياة الإنسان لا ترقى كلها لتجاوز عراقيل الوصول إلى الأبدية. بالنسبة له، مملكتا الحياة والموت تحييان صراعا مكانيا وزمانيا. الأرض لها أسرارها، وفضاء الحياة الأبدية تتغطرس بدلالاتها المجهولة ويسر تدخلاتها واصطيادها لأرواح الحياة الدنيوية، والتي يطمح الخالق أن تلتحق به على إثر نهاية طبيعية مجسدة لاستحقاق أمانة الاستخلاف.
الفنان يوقف الزمن متأملا في فضاء السماء، فتمتزج لا محالة أفكار العالمين. فهو لا يساير أو يخضع لضغط ساعات يومه وتجبرها، بل يتشبث في التحكم فيها وقيادتها بحزم وصبر وحكمة. قرر عدم رسم القارب لأن في ذلك إبداع حياة. قراره هو في العمق استنهاض لقواه الخلاقة التي لا يعلمها الراوي. بفعل كثافة وسوداوية الغيوم، أراد أن يبقى القارب في سياقه الحقيقي. التحم الفنان بموضوعه بقوة. تابع التطورات المناخية والعواصف الضارية. لم ينهزم ولم يستسلم لضغط تهديدات الموت محافظا على طبيعة الواقع كما هي مستعدا في نفس الوقت لركوب مركبة الموت الجبارة. لقد نجح بذلك على ما يبدو من تحقيق خلوده ومواجهة الموت بشجاعة وإقدام. قارب كل إنسان سيرحل آجلا أم عاجلا. هو رمز حياة. يعيش الإنسان نظريا بهاجس الموت، وعليه أن يتوهم فترات موته. هذا الهاجس مضاد حيوي للشر. الإنسان هو كائنٌ يحيى من أجل النهاية. بالحتمية القدرية تغادر الروح البدن (الأصل) وتبقى الصورة (تراكمات المعارف وتاريخ أحداثها ووقعها). لم يشكل الجادر القارب في لوحته وأخرجه من تراكماته الدنيوية لأنه لا زال ثابتا في مكانه محميا بصخور.ربانية.
مات خالد بنوبة قلبية داهمته في الليل من دون أن يستطيع الراوي نجدته أو مساعدته. مات بهدوء الفنان بدون أن يتعب أحدا. أعطى اعتبارا كبيرا للموت، وراكم في مجال الفن والفكر ما ينفع بها الأجيال المستقبلية. أعطى بذلك قيمة لنفسه، استحضر الموت كنهاية حتمية للإنسان، وأبلى البلاء الحسن دنيويا. لم يسبق أن خاف منها، بل كان استحضارها الدائم سببا في تفوقه وغزارة إنتاجاته وما قدمه لإنسانية عصره من خدمات جليلة.
القاسمي ورفاقه الأحياء والأموات قد أسسوا لنا مذهبا جديدا في الحياة شعاره الوعي بالموت في الحياة والعمل من أجل استقبال النهاية بأريحية وشجاعة واطمئنان. خالد نجح بكل المقاييس في رسم وتعبيد طريق خلوده في العالمين الدنيوي والأخروي. عاش بعدما ساهم بلا شك بأعماله في زيادة عمر الكينونة أرضا.
اختلطت الأسطورة بالواقع في نهاية القصة كما في بدايتها. استيقظ الراوي ذات صباح فوجد جثة خالد خامدة باردة بعدما غادرتها روحه الطيبة. هرع إلى الشرفة بصورة تلقائية استجابة لانشغاله المؤرق الدائم. ألقى نظرة على الخليج، فلم يرَ القارب هناك، ثم قال مخاطبا نفسه: ” لقد رحل القارب. أذهلني اختفاء القارب، وأدخل شيئاً من التوجّس في قلبي”. رحل الجادر ورحل القارب، وتجبرت سلطة الموت على الراوي. الراوي تمسك بوجود القارب في الواقع وفي اللوحتين. إنه القارب الذي قام بمهمته. اعتبره الكاتب في استهلال القصة كونه سر وجود السارد. هذا الأخير إذن، عكس الرسام، شخص متمسك بالحياة وغير متصالح مع حقيقة فنائه. اعتقد موته بشكل متزامن مع صديقه الجادر. رحيل القارب يعني رحيله هو كذلك: “… فسمعته يقول كمن يخاطب أحدا أو يناجي نفسه: “سأرحل يوم ترحل، أو ترحل يوم أرحل”. ظننت، بادئ الأمر، أنه يخاطبني، ولكنه حينما أردف قائلا: “ولا فائدة من رسمك. سيرحل الأصل وتبقى الصورة”، تبين لي أنه يخاطب القارب“.
أنهى مراسيم الدفن بعدما تمعن في أحداثه. عاد إلى فضاء الحياة مساء. هرع إلى الشرفة، حملق في مكان رسو القارب، فتفاجئ لرؤيته في مكانه المعتاد مقاوما من جديد الأمواج العاتية. استحضر دورة الموت بشقيها الطبيعي والغادر، وكأنه هذه المرة استفاد من تجربة حياة مضنية جعلته يعترف بخلود روح خالد دنيويا وأخرويا. اقتنع أن الإنسان لا فائدة له من وراء الخوف من الموت ولا داعي للبحث عن انشغالات التنصل من هذا الهاجس القدري. بقيت اللوحتان بدون قارب كلوحة الرسام العجوز التي أينعت فيها الوريقة الأخيرة للشجرة في فصل الخريف والتي أنقدت فتاة الكاتب الأمريكي “أوهنري” من الموت. أنجز الرسام الشيخ لوحة حياته ورحل بسبب البرد القارص بعدما أمضى شطرا من الليل تحت المطر والريح وهو يرسم الوريقة والبراعم على زجاج شباكها”.
القاسمي بقصته هاته وكأنه يدعو الإنسانية إلى التسلح بالشجاعة الكافية لكي تعيش باستمرار بديمومة استحضار الموت وحتمية الفناء. الإنسان في عمق وجوده عليه أن يكدح ويستمتع بدنياه معتبرا نفسه في رحلة لنهاية محتومة. يعتبر التفكير في الزوال من أقوى محفزات الوجود للعمل من أجل ضمان خلود دنيوي وأخروي. تأجيل التفكير في الموت هو مجرد حالة نفسية للانسلاخ عن واجب معاتبة النفس ومحاسبتها بشكل دائم. فلنعش جميعا دنيانا كأننا سنعيش أبدا، ولنفكر في نهايتنا كأننا سنموت غدا.