تتبعنا اللحظة الأسطورية في قصة “الظمأ”، التي انبعثت فيها الروح الحانية لخالد الجادر بعدما أنهكتها الضغوطات العدائية والمعاناة من الواقع. عودته بسؤال لماذا؟ أثارت الخوف في نفس السارد، الذي سيسائل نفسه لا محالة بقلق وانشغال: لماذا عادت روح خالد بهذه الوضعية النفسية المأزومة؟ هل عاد مستعينا بالإله الحامي بعدما استعطفه ؟ إذا عاد من أجل المحاسبة، فإن عودته مشوبة بالمخاطر. لقد عاد بلا شك من “الأعلى” بقدرة القادر متسلحا بمعجزات ملكوته وملائكته. عاد وكأنه يعلن معاداته للظلم العظيم مناهضا لسيطرة الأقوياء على الأرض مستفيدين من خيراتها وشمسها وقمرها ومطرها غير عابئين بالموت وأرواحه المتعانقة مع سر السماء وقوة الخالق. ربما عاد للانتقام من كل آثم استقوى بفعل بساطة الناس وطبائعهم المتشابهة. بنفس الأعراض النفسية الناتجة عن تقابل الحياة والموت والعدالة والظلم والخير والشر، تناول الكاتب قصة الغزالة بمشاهد مماثلة زاهية. قدمها للقارئ بسرد سلس ومتدفق وبسيط في مظهره وعميق في مقاصده. وصفه للقمر جميل ودقيق. ربط الخيال بالواقع بحالة عدم الرضا النفسية وبأبعاد سياسية واقتصادية وثقافية. جمالية القصة مبهرة بدلالات إمكانية تحويلها إلى لوحة تشكيلية برموز مفاتيحها التي لا تنقشع إلا للنوابغ متعددي المشارب المعرفية والفكرية (السارد، صحراء، قمر، خيمة، شمس حارقة، علب غذاء فارغة، غزالة برأسين، ضياء، بنقدية بدائية، أب بفرسه الأعمى وبومه وكلبه برجله المبتورة، …..). السارد المشارك في بلورة أحداث القصة أعطى للرؤية السردية طابع المصاحبة. قراءة النص تضع القارئ في واقع محسوس وتشعره أنه في قلب الأحداث بظاهرها وباطنها. يحيا أوضاع العزلة في الصحراء مستحضرا واقع المدينة. إجمالا إنه نص حارق ومثير وجذاب وبديع يعطى إمكانيات للافتراض والتخيل والتأويل. قدم لنا بناء رمزيا لعالم تتقابل فيه إمكانيات نصرة الخير وضراوة مقاومة الشر.
اختار لها عنوانا زاهرا من كلمة واحدة “الغزالة”. إنها الكلمة الاعتيادية المزخرفة للون الحياة التي ننعت بها بغبطة عارمة الحبيبة مصدر كينونة وألفة ودفئ عاطفي وتشبث بالحياة أرضا. تعيش بمعية الرجل جنبا إلى جنب من أجل إيصال مشروعهما الأسري إلى مطمحه. يلتصق تفكيرهما النظري بانشغال تحويل فضائهما اليومي إلى مملكة عاطفية تدبر بحكمة ومعرفة وبطموح ارتباط مواردها البشرية بالتقرب من الحقائق المطلقة الكونية. بالطبع عندما تستقبل مسامعنا كلمة العنوان البراقة “الغزالة” تنتابنا صور تخمينية معينة لتوالي أحداث النص السردي. قد نفترض في البداية كون موضوعه بلا أدنى شك يتعلق بقصة عاطفية ماتعة، لكن بقراءتنا لكلمات سطوره الحية واحدة تلو الأخرى من البداية إلى النهاية ينتفي مضمون تخميننا المسبق، وننغمس بتأمل الرواد في عمق الفلسفة والفكر وعلم النفس مستحضرين الجسد والروح والعقل ومقومات العيش المشترك في عالمنا العربي وتفاعلاته اليومية مع تطورات أحداث بقية دول العالم المتقدم.
بالعتبة المدخل، ارتبط السارد والقارئ معه بالقمر بنوره ووظائفه الكونية الخارقة. إنه، هو والبحر بأسرارهما، منفذنا ومصدر إلهامنا وفضاء تأملنا العلمي والفلسفي في معجزة الكون وجبروته، وفيما يتوارى خلفه من قوة خفية لا توصف وما يترتب عن كل ذلك من معتقدات ميتافيزيقية. نلجأ إليهما عندما نسأم من عشوائية مقومات العيش المشترك أرضا بسياساتها واقتصادياتها وثقافاتها. نلوذ إليهما تارة مضطرين عادة للرجوع العقلاني خطوات إلى الوراء، ومن تم تقييم وتقويم الماضي الشخصي بخصوصياته وقواسمه الحضارية مع الآخر، ثم نستجمع قوانا ونحمس دواخلنا آملين النجاح ولو نسبيا في توفير شروط ومقومات الانطلاق بسرعة إلى الأمام بصفوة أذهان خلاقة. تنبث خيوط ضوئه (القمر) في أوصالنا دونما صوت نأمة. نقف مشرئبين إياه مشدوهين بسناه، ومخدرين بنوره، وهو يتغلغل بنعومة إلى باطننا، ويذوب فينا مثل ما يذوب قالب سكر في ماء دافئ، فنشعر بسكينة تلف أحاسيسنا، واسترخاء يهدهد بدننا، كطفل على وشك النوم في مهده المتأرجح. إنه إحساس تأملي لا يوصف يعكس تذمرا من واقع مزري وشعورا بعجز يفضي في النهاية إلى وضعية استسلام آمن وتطلعي لقوة خارقة بأمل الاستفادة من دعمها لتخفيف ضغوطات قمع الواقع بكل تجلياته. إنها حالات انزواء باعتقادات ميتافيزيقية يرى فيها الضعفاء ماديا ومعرفيا خلاصا يرجون تثبيته على المدى القصير.
بتأمل الكاتب في القمر يفتح للقارئ منافذ للتفكير النافع، منبها إياه أن الإنسانية بحضارتها وحروبها وصراعاتها لا زالت بعيدة كل البعد عن أسرار الكون. انزلقت عن رسالتها المقدسة (الكشوفات العلمية والعدالة الاجتماعية)، وطغت على مغزى وجودها أطماع روادها الحالمين بديمومة رغد عيش شعوب أقطار انتمائهم على حساب الضعفاء، تاركين مهام التفكير في الأهم للأقليات المحبوسة في المختبرات العلمية ومؤسسات مصادر القرارات الحاسمة. حدق بالعين المجردة في سطح القمر بعدما اعتقده مستو ومسطح مشع، فانبهر بوجود تضاريس وظلال كالوشم في وجهه، وأبرز الهوة التي تفصل أجيال الألفية الثالثة عن حقائق الكواكب وأعماق البحار وباطن الأرض (حصيلة ضعف كفايات لرفع تحدي الاستخلاف أرضا).
هرع الراوي مبتعدا عن صخب المدينة بدون استعداد، وربما بدون تفكير مسبق في توفير الشروط المحكمة لتدبير متطلبات وأهداف جولته. سئم وجوده المضني. أخذ سيارته فوجد نفسه في وسط صحراء بإمكانيات استهلكت ونفذت ربما بسبب طول مدة المكوث، وكأنه قرر في البداية بسبب الضجر المنهك مغادرة المدينة بلا عودة. استلذ الاستقرار في خيمته إلى أن حاصرته الطبيعة من كل الجهات (صحراء حارة الطقس، جوع، ظمأ، الحاجة إلى ركوب المخاطر للنجاة من الهلاك أو الاستسلام لموت الجبناء). انقض عليه القلق نسرا ينهش عصافير الأمل الفزعة في نفسه، وأخذ صل الخوف يدب في أوصاله. ندم لما بدر منه من تصرفات غير مسؤولة، فحن للمدينة بلبها المكنون وأدرانها المترعرعة اللافحة. الطبيعة لا ترحم والحياة البشرية بأسرارها لا ترتكن خانعة مستسلمة. ازدهرت حضارات مرحليا وهوت. واندثرت شعوب ووئدت، وبقيت الأرض تكتظ بالبشر يوما بعد يوم إلى أن تخلت باسم المنتصر عن قيم التعايش في سياق ترهل خصوصيات حضارية بفعل رفع شعار “خلق الإنسان العالمي”.
صار العالم صحراء كَصِل فتاك عربيا، وتحول إلى جنة لمصادر القرار المسيطرة بأسلحتهم الفتاكة ووسائل ترصدهم عالية الدقة لكل كبيرة وصغيرة. عالمنا العربي بئيس بأفاعيه ومخاطره وتسوء أحواله مع مرور الوقت. إنه شبيه بانبعاث شبح الأب بعدما فقد صقره وبترت ساق كلبه وفقئت عيني جواده (أصبح أعمى يسير بالتوجيهات واللجام). غادر هواجسه ورؤاه مفزوعا بحقيقة صعوبة الأوضاع، فوجه نظراته مجددا إلى الغزالة معتبرا إياها أمله الوحيد في الصمود. فحتى انشغاله بالنجاة أصبح صعبا لكونه مجردا من الوسائل الضرورية لتحقيق ذلك. التفت إلى البندقية الملقاة على أرض الخيمة، فتذكر أنها هي الأخرى لا تساوي حبة رمل، فقد أمست مجرد قطعة من خشب جامد وحديد بارد بعد أن نفدت ذخيرته بسبب محاولاته المتكررة الفاشلة لإصابة الضب اللعين. إنه ضب ذكي استعمل دسائسه ومكره وخفته ونجح في الوصول إلى تحقيق نفاد ذخيرة السارد.
كما سبق أن أشرت إلى ذلك أعلاه، السارد في هذه القصّة ينظر إلى القمر ويخاطبه بمشاعر رومانسية عارمة من فتحة الخيمة. القمر، هنا معجزة طبيعية تنير الأرض بقواعد علمية لا يعلم الإنسان منها إلا القليل. حولها السارد إلى إعجاز رباني في مجموعة شمسية خارقة الصنع. ضوء القمر صمام أمان استحضره الراوي بهاجس إضفاء طابع الطمأنينة على وجوده في العراء. وكأنه يقول أنا الآن في ملكوتك يا رحمان أسعى للظفر برحمتك وحمايتك. من أجل الرفع من طمأنينته استرسل في وصف هذا النور وهو يعلم بحقيقة انعدام وجود أي قوة بشرية قادرة على التحكم في وظائفه، ولا توجد إلى يومنا هذا أي قوة يمكن أن تتفوه بنفي أو تحليل الحقائق المطلقة الشاملة بفعل دقة قواعد وظائف بنية الكون: “ألفيتني، والقمرُ في ليلة تمامه، أُطيلُ النظرَ إليه.. فيبادلني النظر ويزداد توهّجاً واقتراباً من الأرض حتى يلامس نهاية الأفق بحافتّه الدائريّة”. هو الإنسان الضعيف الفاني في منطق الرب يخاطب مكونا من المكونات الكونية التي يغتبط قلب البشرية بظهورها الدوري المكتمل. إنه رمز البهاء والفنون المختلفة، ومصدر الإحساس الجمالي والسكينة الداخلية.
تعمد السارد الحديث عن هدوء وجوده في محيط يجهل حدة مخاطره. استسلم لطمأنينة صوفية بين يدي الله عز وجل مستمتعا بنور قمره وجمالية طبيعته. التحق بالعراء الصحراوي مبتعدا من الصخب والضجيج والضوضاء وفضاء الموت الغادر الذي ترعرعت قوته بفعل الاختلال المروع لمنظومات التنشئة في البلدان العربية. التحق بالبادية وسكونها الأخاذ مستمتعا بجمال القمر: “أستجلي لونه الفضّي، أتملّى حمرته الذهبيّة، فتستدير حدقتا عينيَّ مع استدارته. ينغرز فيه بصري، يغوص في أعماقه، ويندمج فيه”. صفاء نور القمر الرباني هو مصدر مشاعر حانية دافئة للغاية اعتبرها البشر منذ نشأته مصدر مشاعر التباهي بجمال الأنوثة.
الحمولة الفكرية والتراكمات النفسية للكاتب كمغترب عن وطنه الأم تشكل اليوم خزانا ثمينا لتجارب حياة أمة في كل المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية. أنتج العديد من المفاهيم والأطروحات الفكرية وأبرز العلاقة الوطيدة بين تعقيد البناء النفسي اللاشعوري والشعوري للفاعل العارف. احتكم إلى مجريات أحداث الواقع المحلي والدولي بعين الخبير حالما بغد أفضل. بهذا المنظور استثمر بشكل كبير في نص “الغزالة” في اللاشعور وصراعاته لإنتاج الدلالات والرموز تاركا الباب مفتوحا للنقاد وعلماء النفس للبحث عن الكمال في الإحاطة بمعانيها الإنسانية. تعمد الإسهاب في الحديث عن القمر مستحضرا في نفس الآن أوصاف الراوي لعنفوان الذكورية والجمال والفتانة الأنوثية، خارجا بذلك عن المعهود والمعتاد. هو يعرف أن ما نسميه رمزا يرتبط أكثر بالمبتغى الخيالي. قد نضفيه على فاعل لتحويله إلى مركز زعامة واستقرار واستمرار سياسي، لتنجلي في حبكته السردية كون صناعة الرموز المندمجة في محيطها تعد من أعقد الصناعات على مدى تاريخ البشرية. خاصيات الزعامة المطلوبة والمقبولة هي التي تترسخ بيسر وطواعية في الأذهان بمحاولاتها المتفاوتة وكدحها المتواصل (حسب القدرات الذهنية وتموجات التغيير الاجتماعي) في ربط انشغال الأجيال بالبحث العلمي الكاشف لأسرار الكون.
بعد وقفة تأملية صاخبة استضافت خيال القارئ لعالم الجمال القمري، برزت العقدة في القصة بفنية زاهية : “… ثمّ تبدّى لي في وسط القمر أو قدّامه، كائن حيواني يتحرّك قليلاً، ثم يكفّ عن الحركة. ولم أدرِ تماماً ما إذا كان ذلك الكائن يكمن في القمر نفسه أم أنّه يقف على الأرض في نهاية المسافة الممتدّة بيني وبين القمر”. راح ذلك الحيوان يتّجه صوبه. إنها غزالة تتحرّك نحوه ببطء وتردُّد. ارتباطا بمدخله المغري، حافظ الكاتب عن حضور فتانة القمر وضيائه ارتباطا بحضور الغزالة : “القمر يؤطّرها من خلف، حتى صارت تغطّي معظمه. وأخذتْ تدنو منّي شيئاً فشيئاً، ثمّ توقّفت إزاء خيمتي، وهي تنظر إليّ فتلتقي عيوننا في صمت”. استحضر القمر في مجريات الأحداث وكأنه يسائلنا “من منا لا يحلم أن يُحْتضن في ضياء القمر الجذاب ويبتعد عن مصاعب الحياة أرضا ؟”. فعندما تتجبر الظروف وتتعسر الحياة في وجوهنا ونشعر بالقهر المتجاوز لطاقاتنا نهرع لنموقع أنفسنا أمام فضاءي جذب عارمين : البحر أو القمر. إنهما، حسب تمثلات السارد للمظلومين والمقهورين، الفضاءان المتعاليان المرتبطان بسلطة الله واللذان يشكلان منفذا فلسفيا يؤجج الإحساس بالضعف والخوف من الموت.
الراوي وسط صحراء مقفرة بأبعادها المرئية اللامتناهية. إنها وضعية انعزال وهروب من عالم بشري بتحولات مخيفة. طوقته الحاجة والجوع والوسيلة للعودة إلى أمكنة حياته المعهودة. حاصرته الظروف وقست عليه (نفاذ الطعام والماء والبنزين). الشمس حارة حارقة أفقدت خيمته القدرة على حمايته. فحتى الهروب لم يعد حلا لرافضي التعسف المتزايد للنزعات الفردانية. التكنولوجيا غزت كل مجالات الحياة، والعلوم تتطور بشكل خيالي، وترصد حركات الأفراد والجماعات أصبح من البديهيات في الأذهان. تتراكم الحقائق العلمية وتتحول إلى واقع بمنطق القوي وشروطه. الصعود إلى الجبال للاعتكاف والتصوف لجأ إليه العديد بسبب التذمر، ليتحول في منطق التطورات إلى سلوك رجعي لا يجسد إلا الهزيمة ولا يعبر إلا عن عدم القدرة على مسايرة التاريخ البشري. إنه طوفان مستمر وجارف، لا يسمح بالرجوع إلى الوراء، ولا يتيح الهوامش الزمنية الكافية للتكيف واتخاذ المبادرات للتحكم في زمام الأمور وقيادتها بنجاح. حتى التمثلات الجنسية التي ارتبطت تاريخيا بالتأمل في جمال القمر وبالأنوثة العربية هوجمت بثورة علم التحكم الذاتي الإلكتروني والعلاقات الجنسية الافتراضية. والحالة هاته وجد الراوي نفسه منتميا إلى وضعية مزرية بمعدات ووسائل تقليدية تجاوزها التاريخ (سيارة بدون بنزين، بندقية بدون ذخيرة).
لم يخبرنا الكاتب عن أسباب وقوعه في حصار مقفر (الصحراء)، لكن القارئ ينتابه دافع الهروب والابتعاد من قهر حياة العصر بسبب عدم القدرة على استيعاب التطورات والفعل فيها. الحاجة إلى التفكير والهلع من تهديدات الموت الغادر بفعل طبيعة وواقع قاسيين جعلتا الراوي يحن للمدينة معترفا بعد فوات الأوان أن الحل ليس في الهروب والانعزال أو الاعتكاف التصوفي القاسي في الجبال والصحاري، بل يوجد في تجديد الرغبة والإرادة لدى الأجيال لرفع مشعل التنافسية والدفاع بسلمية على القيمة الثمينة للخصوصيات الثقافية العقلانية التاريخية. ندمه بعد الورطة التي وقع فيها جعله يعجب من نفسه كيف غرر بها ومالت لرجعية من نوع جديد (الهروب بدلا من المواجهة). حضارة أمته العربية أصبحت شبيهة بفضاء الصحراء القاتل (هدوء وسكون وانعدام الوسائل لمواجهة المخاطر والتهديدات واستغلال الآخر لثرواتها الباطنية بأحدث العلوم والتقنيات). شخصيته، كتتويج لمنظومات تنشئة أسرية ومؤسساتية في عالم فسيح سمي بالمنطقة العالية مصدر النبوءات والنقاشات الفلسفية، ارتهنت للتذبذب والترهل واللوم وقلة الحيلة والاستسلام للأمواج العاتية. تفاقم التهميش وضعف المشاركة في تدبير الشأن العام وفي الديناميات الاقتصادية والسياسية، وتجبر الرأسمال، وثارت الطبيعة بالأوبئة والجفاف والسيول الجارفة المباغتة جراء الاعتداء الفاجع عليها، وأصبحت شعوب العالم تواجه خطر نهاية (الموت) من نوع آخر. تكالبت سيوف الأقوياء من بني البشر وسيوف الطبيعة المدافعة على نفسها، وتجبر تفوق الغرب على النفوس الضعيفة في الجنوب. السلط المضادة رفعت الرايات البيضاء معترفة بوهنها واستفحال الظروف التي تنم عن اقتراب اندثارها. في نفس الآن، النضال من أجل تنمية مستدامة عادلة أصبح من أعسر الأهداف وأعقد الرهانات. الأرض تتحمل أوزار تزايد ديمغرافي في ارتفاع مستمر تنقصه الجودة المطلوبة. طابع الأبوة والرعاية الأسرية والمؤسساتية أصابه الترهل والاضمحلال، والعودة للبحث عن تدخل منقذ وحام للعباد من السماء هو مؤشر استسلام بشري وتخل عن أمانة الاستخلاف أرضا.
وقع الراوي في ورطة ومكن الموت من قوة التغريد فوق رأسه، ولا خيار له بعد التوكل على الله سوى البحث عن منفذ النجاة: “ارتفع من ربوة رمليّة صغيرة تشبه الرَّمس”. استحضر شبح الأب، الذي تعود على رؤيته بهندامه وسلاحه التقليدي وشهامته، منكسرا فاقدا لمقومات الماضي (البوم بدلا من النسر والكلب السلوقي الأعرج مبتور الرجل، وجواد أتلفت عيناه). فقدت الرعاية الأسرية والمؤسساتية مقوماتها، وساد التيه الأوساط الاجتماعية بوتيرة سريعة ومقلقة. الأب، رغم ضعفه ووهنه بعدما وضع شبحه في واقع العصر، لا زال عنفوانه وكبرياءه مصدر إقدام وتضحية. الحدث يعبر كذلك عن ارتباط نفسي اللاشعوري بالاستنجاد بالآباء الأموات. الحاجة إلى الأب هي مؤشر عن تواكل الأجيال الصاعدة التي تلتصق بها صفة “الرعية” ورفضها النفسي لصفة “المواطنة” وما تتطلبه من اعتماد على النفس. التيه الذي أصابها تحول إلى شعور بالتخلي والتهميش والتفكير في النهاية قبل نزول ملك الموت. إنه تعبير نفسي يعتبر النفوس والأرواح في لحظات موت في حياة دنيوية. وهناك من يتجرأ باحثا عن سبيل الوصول للراحة النهائية طمعا في فردوس أبدي محتمل أوهموه به رواد الرجعية.
استفاق الراوي من سهاده بعدما تيقن أن توجسه حتى وإن كان حقيقة فإن الأب لن يكون قادرا على تحمل عناء الإنقاذ. تعقدت الأوضاع أكثر بتعالي النفس الذكورية منتشية بصفة القوامة على المرأة في الثقافة العربية، وحُوِّلت بذلك الأم إلى مجرد مصدر حنان وحب فطري فقط. يعتبرها الرجل قمرا وهو يفكر في أناه الجنسية والزهو العارم في الحياة اليومية. تقلمت لقرون مضت وظيفتها وتقزمت ثقافيا، لينحصر دورها في إنجاب أجيال مرتبطين برعاية أب يسعى بإمكانياته لتوفير الرعاية والاستماتة لتجسيد القوامة في محيطه. تتوالى الأجيال وتبقى حيوية ظروف التعلق بالقمر في ترعرع، لكن ليس بحب الجمال والحياة، بل بالحاجة إلى حماية ميتافيزيقية بفضائها اللامحدود بالرغم من كونها في العمق لا تطيق مناصرة الضعيف المتهاون.
إن إثارة مسألة الرعاية الأبوية والأمومية في هذه القصة تنم وكأن الكاتب يدعو إلى التفكير إلى اعتماد ميثاق أسري جديد يرتبط بقوة بباقي مؤسسات التنشئة في كل قطر عربي. إنه تحدي تنمية القدرة لخلق السبل لتقاسم المسؤولية والقدرة بين الوالدين بعنوان القوامة الأسرية المشتركة: أمن وأمان، طلب علم متواصل، شجاعة، كفاءة، مساواة، تربية علمية، حب، عمل، مداخيل مادية كافية، سعادة عيش ورفاه، متعة دائمة، كرامة، كبرياء…
هروب الراوي إلى الصحراء إذن هو مجرد بحث عن كمال مفقود في حياته يبنى ويترعرع بسواعد أم وأب بصفات المراهنة على التغيير السريع نحو الأفضل الحضاري. إنه تشبث بالحاجة إلى ضمان شروط ديمومة بحث متواصل لسد الخصاص التربوي وتحقيق مشروعية الحديث عن الخلاص بعد عقود قهر مضنية. إنه مرتبك تهاجمه التناقضات، فلم تداهمه سوى فكرة الوصول إلى خلاء الصحراء لمناجاة منقذ في السماء.
اقترب الحيوان منه وبدأت ملامحه تنكشف بوضوح مخلخلة سر وجوده بعد ما توغل في فيافي الصحراء: “رأسٌ جميل يعلوه قرنان صغيران، وتتوسّطه عينان واسعتان، ويتصل به جسمٌ ضامرٌ له سيقان رقيقة. إنّها غزالة”. رأى فيها معاني المحبة والاستعطاف وعطاء الحبيبة (عيناها الكحيلتان). اعتبرها سبيل نجاة من الموت عطشا وجوعا. افتتن بتشبيهها بالحبيبة كاظما سر عدوانيته لها. عبر عن احتياجه لدمها لإطفاء عطشه، ولحمها لتسكين جوعه. إنها شراهة جوع طمست جاذبية الجمال والحب واستسهلت إزهاق روح الغزالة لتلبية حاجات طبيعية على حساب العشق والوله وتجديد الرغبة في التمتع بلذة الجنس الراقية. رق نفسه لها بعدما افترض كون دافع تقربها من خيمته هو الجوع أو الظمأ كذلك، فاستسلم لمقولة “البقاء للأقوى”.
بعدما استوعبت جدية قربه البطيء للانقضاض عليها متحسسا خنجره، بدأت الغزالة في التراجع واستدراجه للعراء. إنها في موقع الدفاع عن النفس. اختفى جمالها وحنانها واحمرت نظراتها وواجهته بنظرة قاسية مريبة كالأمهات العازبات اللواتي يتخلين عن مواليدهن بضغط قاس مادي وثقافي.
لمح أنيابا مكشرة بغريزة الافتراس. أصدرت عواء الشر بحدة خافتة. تنكرت هي الأخرى لطبيعتها. تابع الراوي تحولاتها المخيفة. أصبحت بعدما داهمها الخطر من كل الجهات بمثابة ذئب لا يرحم ولا حل أمامه سوى الاستعداد للمواجهة.
لم يجد الراوي من سبيل سوى الدفاع على حياته مهما كان الثمن. سئم اللاشعوريا من انتظار حضور الراعي، أبا كان أم إلها بمعجزات، فاعتبر نفسه أعزلا ومحاصرا. هوجم للمرة الأولى وكتبت له النجاة بمشقة. في المرة الثانية نصب خنجره بكلتا يديه فوق صدره وهو يرتعش خوفا جراء جهله المسبق لمصير المواجهة. انغرز الخنجر في قلب الذئب، فارتوى من دمه حتى شبع.
لقد أبرز الكاتب أن السبيل الوحيد أمام الأجيال المتعاقبة عربيا هو الوصول إلى الاقتناع الراقي بوأد التمثلات المضنية لصفات القسوة عند الله والخوف من الجحيم، واستبدالها بحرية النضال من أجل تنشئة ورعاية أسرية ومؤسساتية عقلانية، وبالتالي رفع النضج إلى أعلى مستوياته والحماس في الكدح بدون أدنى شعور بالكلل والملل. نعومة ظلنا الذكوري والأنثوى العقلاني يحتاج لمقومات الدسامة واللذة لنشارك معا نساء ورجالا في الدفاع عن المستقبل. إنه الظل الباني بإرادة تقوية التوازن المطلوب في بنية الشخصيّة العربية، والذي يجب أن تتوج الجهود في سياقه بتنمية القدرات والكفاءة في التكيّف السريع مع المستجدات والتطورات وإنجاز الأعمال وتحمل صخب ومشاكل المدينة في أفق تنظيمها وتجهيزها لتضمن السعادة والمتعة والطمأنينة لساكنيها.
إن تصالح اللاشعور والشعور لدى الفرد العربي في إطار فضاء عيش مشترك واضح المعالم يعتبر منفذا ساطع النور لتقوية التفكير والفعل الجماعي في عالمنا الفسيح الممتد من المحيط إلى الخليج. وهذا لن يتم إلا بعصرنة مفهوم ذكورية الأب وأنوثية الأم باستحضار وظائفهما الحضارية المعاصرة في سياق تاريخ عربي زاخر بالأمجاد العقلانية. غابت تمثلات السارد للغزالة ووجد نفسه أمام ذئب شرس لن يتراجعا هما معا إلى الوراء دفاعا عن الحياة (حياة/موت). انتهت القصة بانبجاس الدم الحار من قلب الذئب. تغطى وجه البطل به واندلق في فمه وطفئ ظمأه، لكن مصيره بقي مجهولا.
النص الكامل لقصة “الغزالة” لعلي القاسمي
ألفيتني، والقمرُ بدرٌ في ليلة تمامه، أُطيلُ النظرَ إليه من فُرجة الخيمة المنصوبة في العراء، فيبادلني النظرَ ويزداد توهُّجاً واقتراباً من الأرض حتّى يلامس نهاية الأفق بحافته الدائريّة. وجدتني، وسكونُ البادية يشحذ حواسِّي، أستجلي لونَه الفضيّ، أتملّى حُمرته الذهبيَّة، فتستدير حدقتا عيني مع استدارته. ينغرز فيه بصري، يغوص في أعماقه، ويندمج فيه. أبصرتني مأخوذاً بأشعّته المتهادية نحوي، تغسل وجهي برفق، ويستحمُّ فيها جسدي، وتنسكب في عينَيّ، وتتسرَّب منهما إلى أعماقي، فتنبثّ خيوطُ ضوئه في أوصالي دونما صوتٍ ولا نأمة. رأيتني مشدوهاً بسناه، مخدّراً بنوره، وهو يتغلغل بنعومةٍ إلى باطني، ويذوب فيَّ مثلما يذوب قالبُ سكّر في ماء دافئ، فأشعر بسكِينةٍ تلفُّ أحاسيسي، واسترخاءٍ يهدهد بدني، كطفلٍ على وشك النوم في مهده المتأرجح.
كنتُ أظنّ أوَّل الأمر أنَّني أحدّق في سطحٍ مستوٍ مشعٍ، غير أنّني أخذتُ أتبين رويداً رويداً تضاريسَ وظلالاً كالوشم في وجه القمر. ثمَّ تبدّى لي في وسط القمر أو قدّامه،كائنٌ حيوانيّ يتحرَّك قليلاً، ثمَّ يكفّ عن الحركة. ولم أدرِ تماماً ما إذا كان ذلك الكائن يكمن في القمر نفسه أم إنّه يقف على الأرض في نهاية المسافة الممتدَّة بيني وبين القمر. وراح ذلك الحيوان يَتًّجه صوبي فاتّضح لي رأسٌ جميل يعلوه قرنان صغيران وتتوسطه عينان واسعتان، ويتّصل به جسمٌ ضامر له سيقان رقيقة. إنّها غزالة تتحرَّك نحوي ببطءٍ وتَرَدُّد، والقمر يؤطِّرها من خلف، حتّى صارتْ تغطّي معظمه. وأخذتْ تدنو منّي شيئاً فشيئاً، ثمَّ توقّفتْ إزاء خيمتي، وهي تنظر إليَّ فتلتقي عيوننا في صمت.
لم أَذُق طعاماً يُذْكَر طيلة ثلاثة أيامٍ في تلك الصحراء الشاسعة القَفْر الخالية من أيّ نبات أو حيوان أو أيّ شيء آخر ما عدا كثبانٍ رمليَّةٍ تنتشر فيها على مدى البصر مثل انتشار الأمواج العالية على سطح البحر. لقد نَفَدَ طعامي وأوشك مخزونُ الماء على النفاد، فلم أستهلك منه إلا قطراتٍ في فتراتٍ متباعدةٍ، تبلُّ شفتي ولا تكاد تبلغ ريقي. ولم تَعُدْ سيّارتي تساوي حبةَ رملٍ، بعد أن توقّفتْ عن الحركة لانعدام الوقود. ولم تكُن خيمتي المنصوبة في قلب الصحراء، كرايةِ حدادٍ منكّسة، قادرةً على حمايتي من لفح الشمس التي كانت تصهر كلَّ شيءٍ تحتها، وتحيله إلى رمل مسحوق. وهكذا انقضَّ عليّ القلقُ نسراً ينهش عصافير الأمل الفَزِعة في نفسي، وأخذ صِلُّ الخوف يدبُّ في أوصالي.
وهبّتْ في أعماقي ريحُ الحنين إلى المدينة وشوارعها ومقاهيها وحدائقها ونافوراتها. وعجبتُ لنفسي كيف تضجر بين الحين والآخر من صخب المدينة وزحمتها، وتتوق إلى صمت الصحراء وفضائها الغارق في السكون. هكذا كنتُ دوماً، حياتي كلُّها سلسلةٌ متصلةٌ من التناقضات. أَترعُ كأسَ الرغبة بالشوق، ثمَّ في لحظةٍ واحدةٍ أُهْرِقه على بساط الملل؛ أُحلِّق على جناح الأمل إلى قِمَم الفرح، ثمَّ سرعان ما أهوى متشظياً إلى سفوح البؤس؛ أُغنّي للوصل أحلى الأغاني، وفجأةً أقطعها لأنشج بكائيات الهجر والحرمان.
ودبّتِ الساعات بطيئةً ثقيلةً مثل سلحفاة خائفة منكمشة، وكَلّت عيناي من التحديق في الصحراء التي تحاصرني من جميع الاتجاهات، وتحيط بي كثبانها الرمليّة مثل قلاع منيعة يستحيل اختراقها. وتحت وطأة الجوع الذي كان يعضّني بضراوة، وبفعل العطش الذي كان يجففني مثل قطعةِ لحمٍ قديد، هامَ عقلي في سراب من الهواجس والرؤى. ورحتُ أجترُّ خوفي وأمضغ قلقي. ومن ربوةٍ رمليّةٍ صغيرةٍ تشبه الرمس، ارتفعَ شبحُ والدي بكفنه الأبيض، مُمتطياً صهوة جواده الأدهم، متقلِّداً بندقيته، كما لو كان في طريقه إلى الصيد. واستقرَّ على كتف أبي، بومٌ أسودَ بدلاً من صَقْره المدلَّل. وراح كلبُه السلوقي يعرج بإحدى قوائمه المبتورة، وهو يتلفّتُ إلى الجواد الذي فُقِئَتْ عيناه. وعندما اقترب أبي منّي أوقف جواده، وانحنى عليّ، ومدَّ يدَه إليَّ، ورفعني من الأرض وأردفني وراءه على الجواد كما كان يفعل في صغري، ثم عاد من حيث أتى وأخذ جواده يغوص في ذلك الرمس الرمليّ وأنا معه، فأشعر بذرات الرمل تندس في أنفي وتخنق أنفاسي.
نظرتُ إلى الغزالة الواقفة أمامي. عيناها الجميلتان تذكرانني بعينَيّ الحبيبة الكحيلتين؛ فيهما معاني المحبّة ورقّة الاستعطاف. ولها لفتة الجيد ذاتها كذلك. غير أنّ هذه الغزالةَ هي أملي الوحيد في الصمود بعض الوقت ريثما تصل نجدة ما أو تمرّ قافلة. رمقتُها بنظرة ولهى على استحياء. يا إلهي، كم أنا بحاجة لدمها يروّي ظمئي! وما ألذَّ لحمها! . التفتُ إلى البندقية الملقاة على أرض الخيمة، فتذكرت أنّها هي الأخرى لا تساوي حبة رمل، فقد أَمْسَت مجرد قطعة من خشب جامد وحديد بارد بعد أن نفدت ذخيرتي، بسبب محاولاتي المتكررة الفاشلة لإصابة ذلك الضَّبّ اللعين. كان يمرق أمامي كالبرق ثم يختفي في جحر من جحوره المتعددة في قَلْب الكثبان الرملية، فأظلُّ أُطلق النار بجنون على الرمل. وفي كلّ محاولة لم أحصل على شيء سوى دويّ هائل سرعان ما تشربه الرمال، وأبقى أردد بصوت عال متوتر عبارة “وضعي أعقد من ذَنَب الضبّ”.
حدجتُ الغزالة المنتصبة أمامي بنظرة متلهّفة. توهّمتُ أنّ قوّة خفيّة ساقتها إليّ لإنقاذي. نظرتُ إليها ثانية نظرة انكسار واعتذار. تحسَّستُ خنجري المشدود على بطني الخاويّ. لا بدّ أن أُمسك بها أوّلاً. مددتُ يدي على مهل تجاه فَمِها، كما لو كنتُ أقدّم إليها شيئاً تأكله. لا بدّ أنّ الجوع هو الذي دفعها صوب خيمتي. أَدْنَتْ رأسها من يدي وهي تشمُّ كفِّي الفارغة. نهضتُ بحذر، فجفلتْ وتراجعتْ إلى الخلف بخفّة ثم توقفتْ. تقدَّمتُ صوبها ببطء. اقتربتُ منها مادّاً يدي نحوها. تراجعتْ مرّة أخرى وأنا أتبعها حتّى ابتعدنا عن الخيمة وصرنا في وسط العراء.
التقتْ نظراتنا مرّةً أُخرى. لم أرَ منها غير عينيْها هذه المرَّة. استرعى انتباهي احمرارٌ شديدٌ أخذ يكسوهما، ويُخفي تلك النظرة المنكسرة الحنون. وبدلاً منها لاحت لي نظرةٌ قاسيةٌ مريبة. انزلقت عيناي عن عينيْها إلى بقية وجهها، فأدهشني وأفزعني في آنٍ، منظرُ أنيابٍ حادَّةٍ يكشِّر عنها الفكان. وسرعان ما صدر عواءٌ خافتٌ متقطِّعٌ يُنذر بالشرِّ. وقبل أن أستجمع شتات فكري المشدوه، أَحْسستُ بمخالبَ حادةٍ تنغرز في صدري وبطني، وبأنيابٍ شرهةٍ تمتدُّ إلى وجهي. وفي طُوفان الرعب الذي اجتاحني بفعل المفاجأة، اختلطت الأمور في ذهني. غير أنَّ الشيء الوحيد الذي تأكَّد لي هو سقوطي على الأرض مستلقياَ على قفاي، وفوقي ذِئْبٌ شرسٌ على وشك أن ينهش وجهي، ويقطّعه إرباً بأنيابه الحادَّة. وألفيتني أُطلق صرخةٌ رعبٍ تمزِّق سكون الليل، يتراجع على إثرها الذئب قليلاً، ليتأهَّب للانقضاض عليّ في هجمةٍ جديدةٍ حاسمة.
وفي غمرة اضطرابي، امتدتْ أَصابعُ يدي المرتجفة إلى خنجري، فاستللتُه من غمده، ثمَّ أمسكتُه بكلتا يديّ، وأسندتُه إلى صدري، كأنّي أحتمي به. وفي تلك اللحظة، انقضَّ الذئبُ عليَّ، بقفزةٍ هائلةٍ، فانغرزَ نصلُ الخنجر، في موضع القلب من صدره. ووجدتني في حالةٍ من الهيجان والصراخ، وأنا أغمد الخنجرَ، أكثر فأكثر في جسده، لينبجس الدم الحارُّ منه، فيغطّي وجهي كلَّه، ويندلق في فمي، ويُطفئ ظمئي.