إن الحريّة بشكل عام, ومنها الحريّة الفرديّة وفقاً لقوانين حقوق الإنسان, هي مبدأ أساس في المجتمع البشري والقانون الدوليّ لحقوق الإنسان, وهي تُشكل القيمة التأسيسيّة لحياة الإنسان لا من حيث حقوقه فحسب, بل وواجباته أيضاً، التي يجب تحقيقها والدفاع عنها تاريخيّا. وتتمثل أو تتجلى الحريّة في سياقها العام, بحريّة القول, وإبداء وجهات النظر الخاصة والآراء الشخصيّة, واختيار مكان العيش والعمل وما شابه ذلك. أو بتعبير مختزل هي تحقيق إنسانيّة الإنسان, مع التأكيد هنا بأن يكون الشخص مسؤولاً بشكل تام أمام القانون والمجتمع عن عواقب قراراته ونتائج أفعاله إذا كانت تخالف القيم الإنسانيّة النبيلة التي تسعى الحريّة في جوهرها الإنساني لتحقيقها.
وعلى اعتبار أن موضوعنا هنا ليس النظر في تاريخيّة هذه الحريّة وفلسفتها, أي كيف مورست تاريخيّاً.؟, وما هي أهدافها.؟, وما هي معوقات تجسيدها في الواقع.؟, ومن ساهم تاريخيّاً في قمعها أو فسح في المجال واسعاً أمام ممارستها؟., بقدر ما يتعلق موضوعنا بدور ومكانة هذه الحريّة بالنسبة للفرد والمجتمع في الخطاب الإسلاميّ.
الحريّة والحريّة الفرديّة في الإسلام:
لا شك أن الإنسان كرّم كثيراً في وارد النص الدينيّ, حيث جاء في القرآن : (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا) الإسراء – (17). وجاء أيضاً: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً..). سورة البقرة – الآية (30).
وهذه آيات قرآنيّه وغيرها الكثير, تشير في دلالاتها إلى حريّة الإنسان، فالدين الإسلاميّ في آياته المحكمات (وهنّ أم الكتاب) أكد على ضرورة نشر مبادئ الحريّة والتعبير عن الرأي وعدم إجبار الناس على اعتناق فكر محدد أو دين معين إلا عن اقتناع تام بكل ما يقوم به.
قال تعالى : ﴿وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ﴾.(يونس:99).
وقال أيضاً : ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ (البقرة: 256).
وقال: ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ﴾. (الغاشية:21-22).
وقال أيضاً : ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ (الزلزلة:7-88).
هكذا يرى النص الديني (القرآن) الحريّة, فلا إكراه في الدين, وما دور الرسول إلا التبليغ عن الدعوة للناس, ومن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. وبالتالي كل إنسان مسؤول عن أعماله, إن كانت خيراً أم كانت شراً.
إن من يتابع ما كتب عن الحريّة في الإسلام, سيجد الدراسات الكثيرة التي تناولت مسألة الحريّة بشكل عام, والحريّة الفرديّة أو الشخصيّة بشكل خاص. فالإسلام في الأساس عندما جاء في عصره جاء لكي يخلص الإنسان فكراً وممارسة من أسباب عبوديته وجهله وتخلفه وقهره واستلابه وجوعه ضمن المحيط الذي كان يعيش فيه. أي جاء لكي يرتقي به إلى مصاف مرتبة الإنسان بكل ما تحمل كلمة إنسان من دلالات نبيلة, وذلك من خلال دعوته إلى ترك عبادة الأصنام من أجل الرقي بعقله إلى مرتبة الخلافة التي خصه الله بها, ودعاه إلى عدم ممارسة ما يضر بحياته الفرديّة والجماعيّة, من ظلم وعبوديّة للآخرين, أو شرب للخمر وممارسة الميسر ووأد للأنثى, أي ترك كل ما يضر بحياته الروحيّة والعقليّة والجسديّة, ثم دعوته إلى تنظيم حياته الخاصة والعامة مع أسرته والآخرين وفقاً للمقاصد الدينيّة الخيرة الخمسة وهي: حفظ الدين, والنفس, والمال, والنسل, والعقل. أي الزام الحريّة الشخصيّة بضوابط مقاصد الدين الخيرة المفتوحة على مصالح الفرد والمجتمع عبر السياق التاريخي لحياتهم التي ينتجان فيها خيراتهم الماديّة والروحية، حتى لا تحدث فوضى في المجتمع ويفسد نظامه. أو بتعبير آخر أن هذا الدين جاء لعصره ولقضايا ذلك العصر في الجزئيات التي كان يعشها أهل تلك المرحلة أولاً, وجاء في عمومياته, أي مقاصده الخيرة الخمسة وما يتفرع عنها لكل زمان ومكان ثانياً.
الأصل في الأشياء الاباحة:
إن من يتابع قضايا الفقه, سيجد أن الفقهاء من خلال هذه القاعدة الفقهية, (الأصل في الأشياء الإباحة) قد استدلوا على أن الأصل في الأشياء والمنافع في هذه الحياة المعيشة هي الإباحة، وذلك وفقاً لآيات قرآنية واضحة من مثل قوله تعالى: (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا). (سورة البقرة 29). وقوله تعالى: (وسخر لكم ما في السموات والأرض جميعا منه). ( سورة الجاثية 13). وقوله: (ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السموات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة). (سورة لقمان 20). وبالتالي: انطلاقاً من هذه النصوص المقدسة, شرعوا بأن قضايا المأكل والمشرب والملبس والمعاملات مع الناس. التي لم يرد فيها نص تحريم, فهي مباحة, بشرط أن لا يكون هناك (ضرر ولا ضرار).
فهذا “ابن تيميّة” شيخ السلفيّة يقول في هذه القاعدة الفقهية: (إعلم أن الأصل في جميع الأعيان الموجودة أن تكون حلالاً مطلقاً للآدميين، وأن تكون طاهرة لا يحرم عليهم ملابستها ومباشرتها، ومماستها، وهذه كلمة جامعة، ومقالة عامة، وقضية فاضلة عظيمة المنفعة، واسعة البركة، يفزع إليها حملة الشريعة، فيما لا يحصى من الأعمال، وحوادث الناس، وقد دل عليها أدلة عشرة – مما حضرني ذكره من الشريعة – وهي : كتاب الله ، وسنة رسوله ، واتباع سبيل المؤمنين المنظومة في قوله تعالى : ( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ) وقوله : ( إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا )، ثم مسالك القياس، والاعتبار, ومناهج الرأي، والاستبصار. ). (1).
إذن, إن كل ما على الأرض من منافع، وما استخلصه الإنسان منها, وبذل جهداً للانتفاع به هو مباح، ما لم يقم دليل على تحريمه. بَيْدَ أن الذي حدث, هو أن هناك من الفقهاء ورجال ومشايخ الدين ممن راح يفتي باسم الدين ليحرم ويحلل على هواه, أي يصدر الفتاوى وينتحل الأحاديث ويؤول النص الدينيّ بما يخدم أهواءه ومصالحه, أو مصالح من يشغله. وبالتالي حدّ هؤلاء المشايخ كثيراً من حريّة الإنسان, ومن تحكيم عقله في سيرة حياته اليوميّة المباشرة. فهذه كتب الوهابيّة على سبيل المثال لا الحصر, راحت تنتشر كالنار في الهشيم, داعية إلى ضرورة التمسك بسلوكيات وحياة الرسول والسلف الصالح, فهي لم تترك شيئاً يتعلق في حياتهم إلا وبينت رأيها القاطع فيه وضرورة الاقتداء به من باب أن كل جديد لا يتفق مع مفردات حياتهم وخاصة في القرون الهجريّة الثلاث الأولى هو بدعة, من حيث اللباس وتربية الدقن وحف الشارب والعطاس ولبس الكلابيّة (الدشداشة) والدرع ودعاء الصباح والمساء, ودخول المرحاض وطريقة تنظيف الشرج, والأدعية التي لا حصر لها عند النوم وعند ما تفيق, وعندما تقبل على الطعام وعندما تنتهي منه, وعندما تسلم على صديق أو تودع صديق, كما تدخلت تعاليمهم في كيفية السلام عندما تكون ماشياً أو جالساً, فالراكب على الماشي والماشي على الجالس, وتدخلوا في علاقات الرجل بزوجته في الفراش, وفي طريقة تناول الطعام وتحضيره, كمنع خلط البندورة بالخيار, وغير ذلك من فتاوى يندى لها الجبين, ساهمت كثيراً في قمع حريّة الإنسان وعملت على نمذجته وفق رؤى وتصورات حددت له مسار حياته من ولادته حتى مماته. هذا إضافة إلى الأخذ بآيات الجبر التي تقر بأن كل شيء مخلوق لله, وحياة الإنسان بكل مفرداتها مسجلة له في لوح محفوظ, وما عليه إلا أن ينتظر ما سيحدث له في كل لحظة من حياته دون علم منه أو رغبة بما سيحدث. بل لم يكتفوا بذلك وإنما راحوا يطبقون قسراً وبالقوة على المرء الالتزام بما حددوه له من سلوك وتفكير بناء على قانون (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر), كما كان يفعل المطاوعة في السعودية, وكما فعل الدواعش في خلافتهم المزعومة.
من هنا نرى كيف عمل المتنطعون في الدين على تقليص حريّة الإنسان وتقييده باسم النص الدينيّ أو باسم فتاوى تستمد شرعيتها من النص الدينيّ الذي فسروه وأولوه على هواهم, وبخاصة من مشايخ السلطان وغيرهم من الذين في قلوبهم زيغ.
كاتب وباحث من سورية.
الهوامش :
1- من “مجموع الفتاوى” (21 / 535) . موقع الإسلام. سؤال وجواب.