اختار وزير التعليم العالي أن يلتزم الصمت ويدعو إلى الحكمة التي تقول: «لا تهوِّلوا من إقصاء الجامعات المغربية من ترتيب شنغهاي، فالأمر يهم… الحرب الباردة ولا يعنينا نحن الذين نلتزم الحياد في كل منافسة دولية»!
انتظرنا أن يقطع الصمت، وأن يفرج عنا بعضا من هذه »الغبينة« الكبرى، في إعفائنا من زحام ألف جامعة دولية تكدست في لائحة شنغهاي، التي تعتد بها الدول.
كل الذين تم تصنيفهم تحدثوا سواء عندما طالهم غير قليل من التقهقر، أو لم يرضوا بالنتيجة، والذين لم يصنفوا سارعوا إلى المعالجة التي رأوا أنها مناسِبة…
فالوزيرة الفرنسية، التي تربطها مع الوزير قرابة لغوية وعلاقات فرانكفونية عالية، «سيلفي روتايو»، اختارت أن تصدر بيانا تنوه فيه بالإشعاع العلمي الدولي لفرنسا، بالرغم من أن الجامعات الفرنسية وعلى رأسها السوربون قد فقدت ترتيبها للسنة الماضية ومنها من تراجعت بثمان نقط، وتحدثت في بيانها عن استقرار عام للجامعات الفرنسية.
وقد كانت فرنسا قد اختارت، وهذا مما يعرفه الوزير ولا شك لأنه كان ذات يوم رئيس قطب البحث في إحدى جامعاتها، اعتماد الجامعات العمومية التجريبية ابتداء من 2018، وعملت على الجمع مع بعض المؤسسات لكي تقوي من حظوظ البحث العلمي وحتى تستطيع أن تثير انتباه شركة شانغهاي رانكينغ صاحبة التصنيف الدولي!
وكنا نتمنى أن يتحدث الوزير المكلف بالقطاع وأن يسارع إلى اجتماع مع السادة المعنيين من رواد الجامعات، والمسؤولين عن أقطابها المعنية.
لعل المعايير الصعبة قد تشير إلى استحالة تصنيف المغرب، ومنها جائزة نوبل للعلوم وميدالية فييلدز للرياضيات، والتي تمنح كل أربع سنوات، غير أن هذا ليس مبررا لكي نستحلي الكسل ونعتبر بأن القدر الذي حرمنا من نوبل أو فيلدز هو نفسه سلاحنا في مواجهة هذا الغياب!
غير أن الجامعات التي حصدت التصنيفات الجيدة لم تشكُ من ذلك وبحثت عن صيغ للاستجابة لأحد هذين المعيارين، وهما معا يشكلان 20 % من النقطة النهائية، و80 % لما تبقى من المعايير لا يتطلب مجهودا مستحيلا…
ولهذا لا نفهم كيف أن مسؤولا كبيرا في الوزارة يكتب ويعمم أطروحة عن ضرورة عدم التهويل من إقصائنا من المونديال العلمي؟؟؟
ولا أفهم بالضبط كيف أنه يسلم بأن مجهوداتنا خارقة وسمحت لنا بتحسين مرتبتنا ب200 نقطة، في حين لا يظهر ذلك علانية وفي المباريات الدولية المعتمدة علميا. فلا عدد المقالات المنشورة في مجلة »سيانس« و»ناتشير«، ولا التصنيف في الفهرس العلمي للأبحاث »سيانس سيتاشيون«، ولا عدد الأساتذة الباحثين، من المستحيلات.
لقد تعثر الإصلاح وما زال التردد والتخبط يرسم الكثير من معالمه وما زال البحث العلمي والصرامة الأكاديمية في خانة الغياب أو في أحسن الأحوال في دائرة الشك…
ولا يصلح لوزير أو مسؤول في الوزارة أن يجعل من الترتيب بصلاة الغائب مسألة تقدير تبريري!
البحث عن كبار الباحثين مسألة حياة أو موت في العالم الجامعي، ويكفي قراءة الصحف التي تناولت الأمر في فرنسا وفي بلدان أخرى في أوروبا لنقدر كيف يتعامل المسؤولون في الجامعات وفي الوزارة مع الموضوع، بعضها (جامعة باريس الجنوبية مثال) استطاعت أن ترتقي في سلم الاختيارات .. بعد أقل من سنتين، كمؤسسة تجريبية في البحث!!
ليست معجزة ولكنه التخطيط والعمل المدروس، وليس البحث عن التبريرات العقيمة التي تشل الدماغ، على حد قول جارنا الحداد رحمه لله!
وعوض اعتبار ترتيب شنغهاي جرسا أو ناقوسا للتحذير، تسعى الحكمة الوزارية إلى اعتباره تنشيطا اختياريا لمن أراد، ليس صعقة كهربائية لمن لم تجد عليه لائحة بمكان…. ولو في الألف الأخيرة!
هو مناخ تنافسي، مبني على الجدارة العلمية والاستحقاق التربوي، وليست رياضيات تنبؤية لا مكان لنا فيها.
هي نتيجة سياسة تربوية، وامتحان لنظامنا المعقد المهتز المنذور للإصلاحات إلى ما لا نهاية..نظام في قلبه العمومي تعقيدات لا حصر لها وأفق لا ملامح له…
كانت شنغهاي الصينية هي مهد الترتيب الدولي منذ عشرين سنة مضت، حيث كانت أول لائحة قد أصدرتها جياو تونغ بشنغهاي في 2003. وكان المراد من ذلك حسب السلطات الصينية هدف محدد هو تحديد المميزات الخاصة بجامعة كبيرة ذات بعد دولي، وذلك من أجل تسريع وتيرة تحديث الجامعات الصينية، حسب المعايير العلمية للجامعات الأمريكية وعلى رأسها جامعة هارفارد…
وحسب ما كتبته العديد من المنابر فإن ماكان منذورا لقياس الفارق بين الجامعات الصينية وغيرها في أمريكا تولد عنه سوق دولية حقيقية للجامعات !
وهذا التصنيف سار بدوره سجلا للأفراد من أجل استقطاب أفضل الطلبة وأفضل الباحثين وأفضل المصلحين وأفضل الشركاء الماليين والاقتصاديين…
وليس كما يدعونا المسؤولون عندنا إلى غض الطرف عن هذه اللائحة والاكتفاء من الحرب.. بالإياب!
وعوض أن يوقف الرعد والبرق عقولنا وتهتز مشاعرنا لغيابها، صرنا نبحث عن سبب معقول للفشل!
ومن صدف هذه السنة أن الصين التي ابتدعت هذا الترتيب المسمى «لائحة شنغهاي»، تتحدث عن تحديث معاييره، وكان لافتا أن الرئيس الصيني تحدث عند زيارة له إلى جامعة الشعب في بيكين في أبريل الماضي عن ضرورة (احتلال الفلسفة والعلوم الاجتماعية ذات الخصائص الصينية مكانتها في الوسط الأكاديمي العالمي…) وزيدك السيد الوزير!
ندرك عميقا بأن الحل ليس حكرا على الدولة المغربية لوحدها، فهذه الجامعات الناجحة قد تحولت إلى «دول» تدار بملايير الدولارات، بعضها تفوق ميزانيته ميزانية المغرب بكامله. وهذه لا تفوقنا لوحدنا بل تفوق العالم كله وتتفوق عليه، وهي تراكم الأموال الطائلة من التبرعات والعقود مع القطاع الخاص، ويساهم فيها كبار الأثرياء والمقاولات الناجحة والمنافسة في سوق العلوم التكنولوجية والأبحاث الطبية…
ولانعتقد بأن أثرياءنا، ولله الحمد، يهمهم العلم والتعليم، أثرياؤنا الذين يجيدون، ولا شك، مراكمة الثروات، بدون أن يفكروا في الثروة العلمية، بل حتى في أرباحهم لم يولوها اهتماما …فأثرياؤنا وبعضهم يقود قطاعات حيوية في الدولة وفي القطاع الخاص لا يحبون الزحام العلمي والأكاديمي والتكنولوجي ويحبون المال السهل، في الكسب وفي الإنفاق، ولا يمكن أن ننافس بدون أن نتابع كيف حصلت الصين والدول الأخرى على قفزتها العلمية الباهرة، وكيف أعادت النظر في نظام التنقيب الجامعي والمجانية ومعايير الاستقطاب، داخل الحرم الجامعي…
أمامنا ثورة مؤجلة، لا يمكن أن نزيد في تأجيلها، وقد صرنا في حاجة ماسة إليها، وعوض الدعوة الى التسليم بما وقع، علينا أن نستشعر الحاجة الى الانتفاض!.
عن جريدة الاتحاد الاشتراكي