لقد كُتب كثيراً عن الحريّة وواقعها في الخطاب السياسيّ أكثر مما كُتب عنها في الجانب الفكريّ. والسبب الأول هو موقف القوى الحاكمة في وطننا العربيّ من الحريّة كمشروع حياة بالنسبة للشعوب المقهورة والمضطهدة, لذلك مارست هذه القوى الحاكمة التصدي بقوة للرأي الآخر المختلف فرداً كان أم مجتمعاً. لذلك وقفت بحزم أمام أصحاب الفكر العقلانيّ التنويريّ, ومحاسبة حوامله الاجتماعيين من غيلان الدمشقي وجعد بن درهم مروراً بابن المقفع وابن رشد وصولاً إلى فرج فوده وحامد أبي زيد وغيرهم الكثير. هذا وقد تجلى الصراع حول مسألة الحريّة في الفكر العربيّ في العصر الحديث ما بين الأصالة والمعاصرة.. بين التراث والتجديد.. بين العقل والنقل.. وغير ذلك من مفاهيم تدور حول علاقة الفكر المعاصر مع التراث والواقع معاً, وما الدور الذي يمكن ان يلعبه هذا الفكر في بناء الدولة والمجتمع وتجاوز تخلفهما بكل ما يحمله هذا الفكر بشقيه من دلالات, أي فكر العقل وفكر النقل.
نقول: مع بدء حركة التحرر العربيّة من الاستعمار الغربيّ في عالمنا العربيّ، بدأت تظهر لنا حركة فكريّة جديدة ذات توجهات يساريّة وليبراليّة في العديد من الأنظمة العربيّة وخاصة في الأنظمة التي انتهجت الخط القوميّ الاشتراكيّ طريقاً لها، أو الأنظمة التي تأثرت بعلمانيّة أتاتورك والفكر الليبراليّ عموماً. ففي هذه المرحلة الممتدة من ستينيات القرن الماضي حتى نهاية العقد التاسع من القرن ذاته، أي حتى قيام الثورة الخمينيّة في ايران وبدء تأثيرها على الساحة الفكريّة العربيّة والإسلاميّة، كان هناك حراك ثقافيّ تنويريّ مشبع بالفكر اليساريّ والليبراليّ والقومي، هذا الحراك الذي ترك أثره المباشر حتى على فكر المفكرين الإسلاميين الذين راحوا يعيدون قراءة النص التراثيّ قراءة معاصرة تسعى إلى فتح النص الدينّي على العقل، كما عمل “حسن حنفي” في كتابه (التراث والتجديد)، “وحسين صعب” في (كتابه الإسلام وقضايا العصر), و”مصطفى السباعي” في كتابه (الاشتراكية والإسلام), وغيرهم من المفكرين الذين وجدوا في انتشار الفكر اليساريّ ومنهجه الماديّ التاريخيّ، تحديّاً حقيقيّاً للخطاب الإسلاميّ في صيغته الوثوقيّة السلفيّة المتمسكة بالنقل والرافضة لاستخدام العقل وبالتالي فتح النص المقدس على مخزونه الدلاليّ الإنسانيّ.
نعم لقد كان لانتشار المشاريع الفكريّة التي تناولت التراث وضرورة التجديد، كمشروع “الطيب تيزيني” (من التراث إلى الثورة)، أو مشروع ” محمد عابد الجابري” (بنية العقل العربيّ)، أو مشروع “حسين مروة” (النزعات الماديّة في الفلسفة العربيّة الإسلاميّة)، ومشروع “عبد الله العروي” (الأيديولوجيا العربيّة المعاصرة), ولا حقاً مشروع “حامد أبي زيد”، وغيرها من مشاريع فكريّة، أو كتب منفردة لكتاب تنويريين أو يسارين مثل الكاتب “أحمد عباس صالح” في كتابه (اليمين واليسار في الإسلام) .. الخ، فكل هذه المعطيات الفكريّة اشتغلت على مفهوميّ الأصالة والمعاصرة، ودور القوى الاجتماعيّة في صناعة التاريخ، دون أن نغفل تلك الندوات الفكريّة التي أعدتها مؤسسة “دراسات عربيّة”، كندوة (التراث والتجديد، أو ندوة الكويت المشهورة حول (أزمة الحضارة العربيّة). ودون أن ننسى أيضاً الندوات الكثيرة التي قامت حول القضايا المعاصرة كـ (الديمقراطيّة والعلمانيّة والفكر القوميّ وربط العروبة بالإسلام)، وما قدمته كذلك “مجلة الوحدة” و”الطريق”, و”النهج” من محاور كثيرة حول قضايا النهضة والتحرر والتنمية. إن كل هذا النشاط الفكريّ في تلك الفترة كان للحريّة دورها فيه، إن كان من حيث رضا الأنظمة الحاكمة في الأحزاب الديمقراطيّة الثوريّة على تناول هذه الدراسات والحوارات من جهة، كما هو الحال في سورية على سبيل المثال لا الحصر كتلك الحوارات التي كانت تدور في ثمانينيات القرن الماضي بعد أحداث الإخوان في سوريّة بين “محمد رمضان البوطي” و”الطيب تيزيني” على شاشات الإعلام السوري، أو على مدرجات جامعة دمشق، أو أن الحريّة راحت تدخل بالضرورة جوهر عالم المقدس في التراث من جهة ثانيّة، ومحاولة نقده وتبيان ما يخدم واقعنا المعاصر منه، وما يضره وضرورة التخلي عنه. ومع ذلل كانت هناك وجهات نظر عقلانيّة من قبل ناقدي التراث, لم ترفض التراث كله، بل دعت إلى استلهام التراث وضرورة توظيف ما هو إيجابي فيه لمصلحة المعاصرة ودعاتها من سياسيين ومفكرين يعملون لمصلحة الشعب وقضاياه المصيريّة.
إن كل هذا الحراك الفكريّ العقلانيّ في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي الذي جئنا عليه, راحت تخفت أضواءه، في الوقت الذي أخذ فيه الفكر الأصوليّ السلفيّ يتخذ له مواقع قويّة على الساحة الفكريّة العربيّة مع قيام الثورة الإسلاميّة الإيرانيّة أولا، ثم ابتعاد القوى الحاكمة في الأنظمة القوميّة الاشتراكيّة عن استراتيجياتها الثوريّة التي بشرت بها قبل وعند استلامها السلطة، وبدء التزلف للقوى الأصوليّة التي وقفت ضدها قبل قيام هذه الثورة، ثانياً، هذا التزلف الذي كانت له أسبابه الموضوعيّة والذاتية أيضاً أهمها:
1- فشل الأنظمة التي ادعت العلمانيّة والتقدم في تحقيق مشاريعها التنويريّة على كافة المستويات، ومنها الاقتصاديّة والسياسيّة، وغُلْبَتْ شهوة السلطة عليها فحولتها إلى أنظمة شموليّة استبداديّة لم يعد الشعب يثق بها.
2- الثورة الإسلاميّة في ايران وإحياء المشروع الأصوليّ السلفيّ لدى الشيعة والسنة وخاصة الإخوانيّ منه عند السنة الذي لقى الدعم من قادة الثوة الإسلاميّة الايرانيّة ذاتها.
3- دور الحركة الوهابيّة والقوى السياسيّة الداعمة لها في السعوديّة بشكل خاص، لنشر الفكر الأصوليّ بصيغته السنيّة لمواجهة مشروع الثورة الإسلاميّة الخمينيّة الشيعيّة، وبالتالي ظهور ما يمكن تسميته بحمى الفكر الأصوليّ بشقيه السني والشيعي على مستوى الساحة العربيّة والإسلاميّة.
4- انتشار الفقر والحرمان والاضطهاد السياسيّ على مستوى الساحة العربيّة، بسبب طبيعة الأنظمة الشموليّة التي فرخت قوى طبقيّة من البرجوازيّة الطفيليّة والبيروقراطيّة راحت تنهب ثروات الدولة والمجتمع، ثم ظهور النظام العالميّ الجديد بصيغته الرأسماليّة المتوحشة التي راحت بدورها عبر الشركات المتعددة الجنسيات تسيطر على الاقتصاد العالميّ من خلال اتفاقيّة الجات وصندوقيّ النقد الدوليّ والبنك الدوليّ للإعمار والتنمية، أو من خلال دخول الرأسمال الوطنيّ المنهوب في دول العالم الثالث من قبل حكام هذه الدول وفاسديها في عالم الرأسمال الاحتكاريّ والتحالف معه ضد مصالح الشعوب.
5- تراجع الفكر العقلانيّ التنويريّ عن دوره في توعية الشعب العربيّ، وكشف دور ومكانة الفكر الأصوليّ السلفيّ، وبدء انتشار هذا الفكر بصيغته الجهاديّة التكفيريّة عبر القاعدة وفصائلها، وهذا ما رحنا نلمس نتائجه مع ثورات الربيع العربيّ التي أَسْلَمَت هذه الثورات، وراح حاملها الاجتماعيّ يتعامل مع الواقع من منطلق ايديولوجيّ جموديّ يريد للواقع أن يرتقي بحد السيف إلى النص المقدس كما فسره هذا الحامل الاجتماعيّ وأوله، وهنا رحنا نعيش ردّة فكريّة وسلوكيّة معا، اتخذت من القرون الهجريّة الثلاثة الأولى منطلقاً وجوديّاً ومعرفيّاً لها. وتحولت دور العبادة إلى مراكز لنشر الفكر الوهابي وابن حنبل, بدلاً من أن تكون دور للعبادة.
كاتب وباحث من سوريّة.