الصيروة الفنية للرقصة
تؤدَّى هذه الرقصة، التي يشارك فيها ما بين خمسة عشر وعشرين شخصا من الذكور البالغين، ويمكن أن يكون العدد أكثر، وفي بعض القبائل تنضم إليهم الفتيات كذلك،ويرتدون قمصان بيضاء قصيرة (تشامير) يتم شدّها بحزام على مستوى البطن، ويتقلّدون سيوفا في أغماد فضية (الكمّوية)، أو مَحَاِفظ جلدية تقليدية (أقراب)،يفتتحون رقصتهم بترديد موّال أو أهزوجة غنائية، غالبا ما تكون عبارة عن أبيات شعرية تتغنى بأمجاد المدشر أو القبيلة أو الحلف، وبآواصر الأخوة والتضامن والتعاون والنصرة، التي تجمع بين مكونات القبيلة والحلف القبلي (أمقّون)، كما يتم التّوسل في تلك الأهازيج بالأولياء والصالحين، ففي منطقة سكساوة على سبيل المثال، غالبا ما تفتتح رقصة تاسكيوين بالتوسّل بالولية الصالحة لالة عزيزة بيهي (عزيزة بنت ابراهيم السكسيوية)، وفي كدميوة بمنطقة ماغوسة يتم التّوسل في الرقصة بالولية الصالحة “لالة توفلّا”.
وبعد ذلك تنطلق الرقصة ببطء في سلسلة من الحركات والتعبيرات الجسدية، التي تسير في وثيرة تصاعدية، والتي تقوم في مجملها على إيقاع موسيقي يُؤَدّى أساسا بالضرب أو النقر الجماعي الموحّد على البنادر(تيلّونا جمع تالّونت) من طرف ثلاثة إلى خمسة أشخاص يسمّون بالرّوايْسْ (جمع الرّايس)، إلى جانب شخص أو شخصين على الأقل (العواويد جمع العوّاد) يعزفان لحنا من الألحان على النّاي (تالعوّات)، ويتحلّق على هؤلاء في شكل دائرة باقي الراقصين، الذين يحملون زيّا موحدا، عبارة عن قميص أبيض مشدود بحزام على مستوى البطن، ويحمل كل واحد منهم على كتفه الأيسر “تيسكتْ” أي القرن، مصنوعة من خشب شجر العرعار غالبا، مزيّن بالفضة أو النحاس ومحشو بمسحوق مادة البارود. ويضرب كل واحد من هؤلاء الراقصين على “طعريجة” خاصة ( أكوال) وفق إيقاع موسيقي يحدّده رئيس المجموعة (الرّايْسْ أو أعلّام)، الذي يتوسّط الرّقصة ويديرها وينسّق بين مكوناتها بإشارات خاصة.
ولا يمكن فهم الدلالة الرمزية لرقصة تاسكيوين، ودورها في إذكاء وتقوية الإحساس بالإنتماء للجماعة (اللّف) وترسيخ قيّم الإخوّة والنّصرة والتآزر بين الأفراد في مواجهتهم للعدو، إلا من خلال النظر بإمعان في المكونات البشرية للرقصة وتفكيك عناصرها الفنية ( المكونات- الحركات- الإيقاع..) ورصد الأجواء الإحتفالية التي تُؤَدّى فيها، وباستحضار السياق التاريخي والظروف الإجتماعية.
مورفولوجية الرقصة
من حيث البنية الشكلية، يمكن القول أن رقصة تاسكيوين تنبني وتتشكّل من أربعة مكونات أساسية:
الراقصون:
الذين يمكن أن ينضم إليهم كل من له استعداد للرقص، ويتوفر على آلة “أكوال”، ويحملها بقبضة يده اليسرى ويضرب عليها باليد اليمنى، ولذا فالراقصون يجمعون بين المهارة في الرقص والإتقان لكل حركاته والضبط لكلّ إيقاعاته، ومنهم من قد يكون في بداية مشوار التدريب على الرقص وفي طور تعلّم مهاراته، فيحتل الراقصون الماهرون والحادقون وسط دائرة الرقصة، ويحاذيهم المتعلمّون من الجانبين، في انسجام وتناسق. دلاليا يرمز الراقصون في مجملهم إلى القاعدة البشرية للقبيلة (تاقبيلت)، واجتماعيا يمثل هؤلاء في الرقصة قاعدة المجتمع التي يتشكّل معظمها من الفلاحين المرتبطين بالأرض، استقرارا وزراعة واستغلالا، وسياسيا يحيل الراقصون على جمهور القبيلة، وفي نفس الوقت يجسّدون دور قواتها العسكرية الإحتياطية المستعدة للحرب في حالة اندلاع الحرب مع غيرها من القبائل، حول الماء أو الأرض أو العرض، والأكوالات (مفرد أكوال) التي يحملها الراقصون في أيديهم بمثابة بنادق، وكل ضرب على الأكوال عبارة عن طلقة بندقية، وذخيرتها من البارود مُخزَّنة ومحفوظة في تيسْكْتْ (القرنة)، المحمولة على الكتف الأيسر لكل واحد منهم.
الرّوايْسْ:
جمعُ “الرّايْسْ”، لا يقلّ عددهم عن الثلاثة، وغالبا ما يكون هؤلاء ممّن يُتْقِن الضرب والعزف على “تالّونت” (الدّف)، وحافظا للإيقاعات الموسيقية السائدة بالقبيلة، ودورهم في الرقصة هو ضبط الإيقاع الموسيقي للرقصة، دلاليا يجسّد الرّوايس بموقعهم المحوري في رقصة تاسكيوين، الموقع والدّور الإجتماعيين اللذين يلعبهما الحرفيون، بما راكموه من خبرة يدوية في أنشطتهم الحرفية، في الحفاظ على إيقاع الحياة الإجتماعية للقبيلة، فبدونهم سيضطرب إيقاع الحياة، كما يمثلون الدّور السياسي الذي يقوم به المقدِّمون (إمزوارن) في الوحدات القبلية الصغيرة (الدوار -المدشر –الجماعت –إيخس..).
العْواويدْ:
جمع “العوّاد”، هم العازفون على النّايات (تالعْوّاتْ)[1]، ولا يتجاوز عددهم الثلاثة، وإليهم يعود ضبط الألحان التي تُؤَدّى الرقصة على إيقاعاتها، فعندما يرتفع إيقاع الرقصة بشكل يستحيل معه إرفاق ذلك بالغناء، يتخلى الراقصون على الغناء الجماعي وترديد الأهازيج التي يبدؤون بها رقصتهم مع الإيقاع الموسيقي البطيء، فيصير دور “العْواويدْ” محوريا في الضبط والحفاظ على الألحان. رمزيا يحيل وجود “العواويد” في الرقصة، على الحضور الكبير للرعي في الحياة الإقتصادية في المناطق الجبلية، بحكم الإرتباط الوثيق بين رعي الأغنام والمعز من جهة، والعزف على النّاي من جهة ثانية.
أعْلّامْ:
لا يمكن أن يكون في الرّقصة إلا واحدا، وهو قائد الرقصة ومُوجِّهَها، ويكون من ذوي المعرفة والتجربة والخبرة في التقاليد الغنائية والموسيقية بالقبيلة، ويحيل من حيث رمزيته على شيخ القبيلة (أمغار).
الدلالات الرمزية لرقصة تاسكيوين
وباعتبار”تاسْكِوينْ” رقصة استعراضية حربية، ومناورة عسكرية رمزية، جعلها تتميز بمجموعة من الحركات الفنّية المتناسقة في الإيقاع[2]، والمتنوعة في الأداء. والمرتبطة بعضها ببعض (أجْغايْمي- بوتْسْكا- أسْكاوْرْ- إيكْسا- حْرْكْ أوشْنْ- الميزانْ – أهْياضْ – بْجّْرْ أفُلُّوسْ – مْرْزْ أكْبالْ – فتش أكالْ – أمْكْلْبْ – هْرْدْ- عايْدْ – أوفوغْ- أَسُّوسْ)[3]. وتقوم الرقصة بتصوير فني للمعركة الحربية, حيث الاستعداد للمعركة والتأهب لها في (أجغايم) ومهاجمة العدو في (أسْكاوْرْ- بوتْسْكا- حْرْك أوشن- أسّوفْغْ) وركوب الخيل وقفز الحواجز في (أهياض – عايد – الميزان- بجر أفلوس)، ومراوغة العدو وترهيبه ومصارعته في: (أمكلب- مرْزْ أكبال – هرد) وهزم العدو في (تاسكرفت)، وتعقب العدو في (فتش أكال)، والانتشاء بالنصر في ( أوفوغ –أسوس )[4].
فالرقصة في مجملها وبكل مكوناتها، وما ترمز إليه من احتفالية بالانتصارات الحربية، وفرجة وابتهاج بالتآزر والتلاحم في مواجهة الخصوم، واستعراض للإمكانيات البشرية للقبيلة، عبارة عن لوحة فنية، تحيل على القبيلة أو اللف بكل مكوناتهما والعناصر الفاعلة فيهما، فالمشاركون المشكّلون لدائرة الرّقصة، هم الجماعة القبلية وقاعدتها البشرية، وفي نفس الوقت جنود القبيلة وحماتها، في حالة نشوب حرب مع غيرها من القبائل أو الحلف المعادي. والعواويد الضابطين للألحان والرّوايْسْ الضابطين للإيقاع الموسيقي للرقصة وفق التعليمات وإشارات “أعلّام” يحيل هؤلاء في دلالاتهم الرمزية والاجتماعية، على المقدّمين أو “إمزوارْنْ”، الذين يديرون شؤون الوحدات الصغيرة في القبيلة (المدشر – المُوضْعْ – إيخْسْ..)، التي يمكن أن تكون القبيلة (تاقبيلت) أو فرقة منها (إيخْسّْ) أو جماعة دوّار (المُوضْع)، و”أعلّام” باعتباره رئيس الرقصة ومديرها، يرمز لشيخ القبيلة وقائدها، والراقصون يحيلون دلاليا على “الجماعت” وجمهور القبيلة، ومشاركة العنصر النسوي فيها في بعض القبائل يحيل على حضور المرأة في كل مناحي حياة القبيلة، بما في ذلك المعارك والحروب القبلية.
وكانت الأشعار التي يرددها الراقصون في مواويلهم، التي يفتتحون بها رقصاتهم، تعبر رمزيا وفنيا عن مواضيع وتيمات ذات علاقة بالهموم المحلية والقضايا الاجتماعية والوطنية.
ويظهر من أحد المقاطع الغنائية المشهورة، الذي كان يتم ترديده في رقصة تاسكوين بمنطقة سكساوة، خلال فترة الاستعمار، كيف كان يتم التعبير عن القضايا المحلية والوطنية في هذه الرقصة، بإيحاءات رمزية، وكيف توظيف للرصيد الثقافي والرموز الدينية بالمنطقة من أجل ذلك، المقطع الغنائي من بيتين شعريين، يعبّران بضمير الجمع عن استحالة صعود السيّارة ( طاموبيل) إلى جبل سكساوة، فهو جبل مُحَرّمٌ على السيارة الصعود إليه والمرور به، ليس لوعورة تضاريسه وصعوبة مسالكه أو عدم وجود الطريق به، وإنّما لوجود الولية الصالحة لالة عزيزة بن ابراهيم السَّكسيوية فيه:
أدْرارْ نّـاغ إيحْرْمـامْ أ طاموبيلْ
أشْكو تْلّا كِيسْ لالة عيزة بيهي
الفترة التاريخية أو الظرفية السياسية التي قيل فيها هذين البيتين الشعريين، والتي ظهر فيها هذا المقطع الغنائي في رقصة تاسكيوين، هي مرحلة بداية الاستعمار، عندما شرعت القوات الاستعمارية الفرنسية في إخضاع قبائل الأطلس الكبير الغربي المجاورة لإمنتانوت، التي اتخذتها مركزا لانطلاق عملياتها العسكرية التوسعية، في إطار عملية “التهدئة” (pacification)، وكانت جبال سكساوة آخر منطقة تمّ إخضاعها سنة 1931م، حيث أعلن أمغار احماد أوموليد شيخ فرقة أيت حدّو يوس تمرّده ورفضه الخضوع للاستعمار.
فالسيارة (طاموبيل) في البيت الشعري الأول (أدْرارْ نّـاغ إيحْرْمـامْ أ طاموبيلْ) تحيل على الاستعمار، فهذا الأخير هو أول من أدخل السيارات إلى المغرب، ووصول السيارة إلى المناطق النائية (الجبال) بالمغرب كان في البداية على يد إداريي وضباط الاستعمار، ولذا كانت جبال سكساوة في المقطع الغنائي لتاسكيوين محَرّمة وممنوعة على سيّارة الإستعمار، كما في البيت الشعري الثاني، وذلك ليس لوعورة تضاريسها الجبلية وانعدام الطرق فيها، وإنّما لوجود الولية الصالحة لالة عيزة بيهي بها (أشْكو تْلّا كِيسْ لالة عيزة بيهي)، كرمز من رموز الحرية والمقاومة، فهذه الولية الصالحة، بحكم تاريخها في الصلاح ورفض الظلم والخضوع، وبكراماتها المشهورة، تحيل في البيت الشعري الثاني على المقاومة والحرية والاستقلال، فوجودها بهذه الجبال والتوسّل بها هو الذي يجعل جبالهم منيعة ومحصّنة ضد الإستعمار، لما يبعث ذلك في نفوس السكسيويين من عزة نفس وحماس لمقاومة الإستعمار.
خـاتـمـة
وختاما، يمكن للدّارس للتاريخ الإجتماعي والثقافي للأطلس الكبير الغربي أن يرصد من خلال رقصة تاسكيوين، كيف استطاع مصامدة أعالي جبال الأطلس الكبير الغربي بمَلَكَتهم الإبداعية القبلية وموهبتهم الفنية الجماعية نقل جزءا كبيرا من صراعاتهم الإجتماعية وحروبهم القبلية، من ميدان السياسة والحرب والقتل والتدمير، إلى مجال الثقافة والسلم والفرجة والفرح والبهجة، حيث كانت رقصة تاسكيوين تقوم بدور طليعي في تمتين أواصر الأخوية والنصرة بين أبناء الحلف القبلي الواحد، وكانت تساهم في التعبئة السياسية والعسكرية ببعثها لشعور الإنتماء للأحلاف وصيانته، وبالاعتزاز به، من خلال الإحتفال والاحتفاء به.
وعبر هذه المقالة يمكن لنا أن نلمس في رقصة تاسكيوين تكثيفا رمزيا، لتاريخ طويل من التحوّلات الاجتماعية والسياسية والثقافية في سفحي الأطلس الكبير الغربي، حيث رصدنا كيف استطاعت ملكة الإبداع الفنّي عند قبائل أعالي جبال الأطلس الكبير الغربي، أن ترسم جزءا من تاريخها وتختصره في لوحة فنية من الرقص والغناء، التي هي اليوم كلّ ما تبقى من هذه رقصة تاسكيوين بعدما أنجزت كل الأدوار الإجتماعية والسياسية والعسكرية الموكولة إليها عبر مسار نشأتها، هذه اللوحة الفنية التي تحتاج اليوم إلى العناية والصيانة باعتبارها جزءا ثمينا من التراث اللامادي لمنطقة الأطلس الكبير الغربي.
المراجع
[1] Mungo Park – Les trois voyages de Mungo Park au Maroc et dans l’intérieur de l’Afrique (1787-1804) – Bibliothèque d’aventures et de voyages 34ème Volume – Maurice Dreyfous Editeur- Paris- P : 40-41.)[2] المتابعة الميدانية الشخصية لرقصة تاسكيوين كدميوة، لمجموعة “تيكْسيتْ” بأعالي منطقة أسيف المال، وعلى لقاء مع رئيس هذه المجموعة، الرّايس الحسين بوبكر، يوم 31 دجنبر 2013.
[3] الكنساني أحمد أبوزيد: أحواش- الرقص والغناء الجماعي بسوس: عادات وتقاليد- منشورات عكاظ الرباط الطبعة1سنة 1996 ص :124.
[4] Mariam Rovsing Olsen- Chants et danses de l’Atlas(Maroc)- CITE DE LA MUSIQUE / ACTES SUD – Mai 1997- P :83.
(*) عن المجلة الالكترونية معلمة .
الثلاثاء 9 غشت 2022.
للاطلاع على المزيد من المقالات القيمة بنفس المجلة : /