كثيراً ما يجري الخلط، أو التداخل بين كل من مفهومي المجتمع الأهليّ والمجتمع المدنيّ، وهناك من لا يفرّق بينهما وكأنهما أمر واحد عنده, خاصة بالنسبة لبلادنا العربيّة التي لم تزل تعيش وتتعايش فيها أنماط إنتاج وأشكال ثقافات متعددة الخلفيات أو المرجعيات تعود لمراحل إنتاج هجينة غير واضحة المعالم, يغلب عليها ما يسمى بأسلوب “الإنتاج الآسيويّ”, أي الأسلوب الانتاجيّ الذي تتداخل فيه أساليب إنتاج متعددة من الرعي إلى أسلوب اقتصاد السوق الحر وما بينهما من أساليب, كأسلوب الإنتاج الصغير والمتوسط والريعيّ والاقتصاديّ الاجتماعيّ … الخ, وما يرافق هذه الأساليب من تداخل هجين في العلاقات الانتاجيّة والطبقيّة والسياسيّة غير واضحة المعالم, وما يقوم على هذه الأساليب الانتاجيّة من بناء فوقي هجين أيضاً تتداخل فيه الرؤى والأفكار الدينيّة والوضعيّة, وتضيع في هذا التداخل بعمومه القدرة على تحقيق نهضة للدولة والمجتمع. في حين أن الاختلاف بين المجتمعين, أي الأهليّ والمدنيّ جوهريّ ..
فالمجتمع الأهليّ: هو المجتمع الذي يتضمن بنى ومكونات المجتمع الهجينة والمختلطة في تكوينها ومرجعياتها, كالدينيّة والمذهبيّة والعشائريّة والمناطقيّة أو الجهويّة والعائليّة وغيرها, بمختلف مظاهرها التي تنتظم في أطر تقليديّة غالبا ما يكون الانتساب إليها جمعيّاً وفق الصلات القائمة (دينيّة أو عرقيّة) بين أفرادها، وليس بناء على خيار طوعيّ, أو قانونيّ مؤسساتيّ. (1) .
أما المجتمع المدنيّ: فيشير مصطلحه إلى كل أنواع الأنشطة التطوعيّة التي تنظمها جماعات مختلفة الانتماءات والتوجهات, اقتصاديّة كانت أو اجتماعيّة أو ثقافيّة او سياسيّة أو دينيّة, بهدف تحقيق مصالح وقيم وأهداف مشتركة, كتقديم الخدمات الاجتماعيّة بمختلف اتجاهاتها خيريّة أو غيرها، أو التأثير على السياسات العامة في الدولة والمجتمع. إضافة إلى ذلك, ففي إطار نشاطات هذه الجماعات أو المتحدات الأهليّة، يجوز مثلاً أن يجتمع مواطنون خارج دائرة العمل الحكوميّ, لنشر المعلومات حول السياسات القائمة اقتصاديّة أو اجتماعيّة أو ثقافيّة أو ما يتعلق بسياسة الدولة الداخليّة والخارجيّة، أو ممارسة الضغوط على الحكومات القائمة بشأن تعزيز سياسات ما, تتفق ومصالح هذه الجماعات أو الغاء سياسات أخرى لا تتفق ومصالحها.
بتعبير آخر: يشير مصطلح المجتمع المدنيّ, إلى جمعيات أو منظمات ينشئها أشخاص غير حياديين لديهم أهداف مشتركة أو يعملون لنصرة قضيّة مشتركة. وهي تشمل المنظمات أو المتحدات الاجتماعيّة غير الحكوميّة، كالنقابات العماليّة، وجماعات السكان الأصليين، والمنظمات الخيرية، والمنظمات الدينية، والنقابات المهنية، والاتحادات الثقافيّة ومؤسسات العمل الخيري. أما الميزة المشتركة التي تجمع بين منظمات المجتمع المدني كافة، على شدة تنوعها، فهي تتمثل باستقلالها عن الحكومة والقطاع الخاص أقله من حيث المبدأ. ولعل هذا الطابع الاستقلاليّ هو ما يسمح لهذه المنظمات بأن تعمل على الأرض وتضطلع بدور هام في أي نظام ديمقراطي بشكل خاص.(2).
السياق التاريخي للمجتمع المدني في العالم الثالث:
بدأ ظهور مصطلح المجتمع المدنيّ في الثمانينات من خلال الحركات غير الحكوميّة المعارضّة للنظم الاستبدادية الشموليّة في المناقشات السياسيّة والاقتصاديّة، ومحاولة التأثير على صانعي السياسات، فالمجتمع المدنيّ بدأ يتمتع في بعض الدول بالسلطة الكافية إلى حد ما في التأثير على سياسة الحكومات الشموليّة, ويدخل في تطور مستمر نتيجة التطورات التكنولوجيّة وخاصة المعلوماتيّة وما يخص التواصل الاجتماعي منها, كما ساهم في فعاليته واستمراريّة تطوره التغيرات التي حدثت تحدث داخل النظام العالميّ الجديد باستمرار، كظهور منظمة العفو الدوليّة، ومنظمة حقوق الإنسان, والصندوق العالميّ للطبيعة او البيئة، والاتّحاد الدوليّ لنقابات العمال، كما تختلف هذه المنظمات باختلاف حجمها وأساسها وسياساتها، فهناك منظمات غير حكوميّة دوليّة كمنظمة حقوق الإنسان، وهناك حركات جماهيريّة، ومنظمات صغيرة ومحليّة، ويُعدّ التعاون من أجل البقاء, أحد أهم أهدافها من خلال الممارسات الاجتماعيّة والتنسيق بينها بعدّة أساليب قديمة ومعاصرة. (3).
المجتمع المدني في الغرب:
ما أود الإشارة إليه هنا هو: إن المجتمع المدنيّ في الغرب بعد انتهاء الحرب الباردة راحت الدولة من خلال القوى الطبقة المسيطرة على سياسات هذه الدولة الغربيّة بشكل مباشر أو غير مباشر, تعمل على توجيه الفرد والمجتمع نحو العمل على تشجيع مؤسسات المجتمع المدنيّ, كخلق مؤسسات خيريّة بتوجهات متعددة, اقتصاديّة أو علميّة أو ثقافيّة أو تعليميّة وغيرها, تساهم إلى حد كبير في تخفيف أعباء مسؤوليّة الدولة في هذا الاتجاه. أي تخفيف الحمل على دافعي الضرائب من القوى الطبقيّة الرأسماليّة وهذا ما عبرت عنه “النظريّة العالميّة الثالثة” التي تبنتها تاتشر “وأنطون بلير” في بريطانيا آنذاك. فهذه “مارغريت تاتشر” تعلن وبكل وضوح مطالبة الطبقات الوسطى والدنيا بتحمل مسؤولياتها في مساعدة نفسها وتأمين حاجاتها بعيداً عن تدخل الدولة وانتظار دورها في هذا الاتجاه. حيث تقول: ((لا تنظر إلى فوقك أو تحتك أو إلى جانبيك, بل أنظر إلى داخلك, إلى أعماقك, حيث يكمن دهاؤك وقوتك وإرادتك والأدوات كلها اللازمة لتقدم الحياة. لن يوجد بعد اليوم قادة عظام يقولون لك ماذا تفعل ويريحيونك من المسؤوليّة المتعلقة بتبعات أفعالك.. هناك أفراد فقط يحيطون بك كباراً وصغاراً عليك ان تتعلم منهم وفقاً لمهاراتك وقدراتك الذاتيّة, وأنت وحدك من يتحمل نتائج ثقته بأعماله وما تختاره في هذه الحياة. إنه “مجتمع الأفراد”).(4). فلا خلاص إذن على يد التضامن الاجتماعيّ في هذا المجتمع المدني في صيغته الغربيّة التي عبرت عنه النظريّة العالميّة الثالثة, ولا دور للدولة في تحقيق هذا التضامن بعد اليوم.
وبناءً على هذا التوجه اللاأخلاقي في إدارة وتوجيه سياسة الدولة والمجتمع, تراجع الهم العام وتصورات الخير العام, وكل ما هو مشترك بالهم الإنسانيّ, أمام تغوّل الهم الخاص وتكريس قيم الفرديّة الشخصيّة وتفردها المطلق.
دور مؤسسات المجتمع المدني على الصعيدين الوطنيّ والدوليّ في حماية حقوق الإنسان:
لا شك أن لمؤسسات المجتمع المدنيّ في دول العالم الثالث ومنه وطننا العربيّ دورا هاماً تستطيع أن تعمل من خلاله إذا ما توفرت لها الأجواء الديمقراطيّة والحكومات الرشيدة وهو: تعزيز ونشر مجموعة من القيم والمبادئ التي تهدف إلى تطوير وتنمية المجتمع والدولة معاً. وتحقيق مبادئ الحكم الراشد, وخاصة في مجال حماية حقوق وحريات الإنسان. كما تتلخص طبيعة عمل المجتمع المدنيّ بأنها الرديف الحقيقي للسلطة في أي دولة، ذلك أن أحد أهم أعمال هذه المؤسسات هو الرقابة والتقويم، والمحاسبة والمساءلة، والمتابعة والتطوير، والاهم المساهمة الفاعلة في تطوير وتنمية المجتمع والحكم الراشد من خلال نشر مفاهيم الحياة المدنيّة والحقوق والحريات الأساسيّة, حيث أن حماية حقوق الإنسان ترجع في الأصل إلى الدولة صاحبة السيادة، التي يجـب عليها توفير الحماية اللازمة لمختلف الحقوق التي تضـمنتها الاتفاقيـات، والإعلانـات العالميّة لحقوق الإنسان. ولما كانت الالتزامات التي نصت عليها هذه الاتفاقيات، ترجـع إلى رغبة الدولة وقدرتها على تطبيقها، فنجد في كثير من الأحيان أن الدول – أي الحكومات المستبدة – تنتهك هذه الحقـوق، ولا تقوم بتوفير الحماية اللازمة للأفراد، وبالتالي تغليب مصلحة الدولـة (القوى الحاكمة) علـى حقوق الإنسان، وهنا ستتدخل مؤسسات المجتمع المدنيّ لرصد تلك الانتهاكات وحماية المواطنين. (6).
عدنان عويد : كاتب وباحث من سوريّة
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع
1- بين المجتمع الأهلي والمجتمع المدني.. موقع : publisher بقلم عقاب يحيى.
2- راجع موقع الوكيبيديا.