ورث المغرب عن زمن «الربيع العربي»، وتفرعاته، بشكل عام، دستور فاتح يوليوز2011، الذي مرت عليه 11 سنة، تماما كما ورثت شعوب كثيرة من المنطقة كتونس ومصر وبِمشقة أقل سوريا، تجربةً دستورية أو نصوصا دستورية اختلفت صيغة كتابتها، وتدوين تاريخانيتها، والفاعلون فيها…
بعض الدساتير لم تنجح في «جر..» رهانات القوى التي ملأت الشارع إلى داخل النص، لتهدئة عواقبها ويظل هو الوارث المعبر عن تطلعاتها، كما أن بعضها ما زالت صراعات التوازن وموازين القوى لم تنته حوله أو داخله كما هو حال تونس، التي تجرب نفسها في الصيغة الثالثة لتوازن الدستور والواقع…
في المغرب، لم تعد بين أيدينا حركة عشرين فبراير التي ولد الدستور في سياجها وسياقها، كما أن الشباب الذي ذرع الشوارع يومها، خرج من المعادلة ودخل النص الدستوري ليضبطها ويعلن لها عن تطلعات جديدة ومسارات أخرى أظهرتها الممارسة..
القوى السياسية، التي عبرت عن الاستعصاء الذي ولد الدستور لم تعد موجودة في المشهد بقوتها وإكراهاتها…
بدون الرجوع إلى تفاصيل كل ما سبق، لا يمكن أن ننسى في هذا الخضم ما قاله عبد لله العروي وهو يتحدث عن صناعة التاريخ مغربيا، من زاوية مزاوجة التمرد والدستور، والاقتراح والتفاوض .. فقد قال، في سياق حديثه في حوار مع الشهرية الجدية «زمان» إن شباب 20 فبراير «ليس هم مَن كتب الدستور الجديد، الذي سيكون الوثيقة الوحيدة التي سيدرسها المؤرخون القادمون. مؤرخو الثورة الفرنسية يؤكدون على دور الجماهير (الحشد) ودور تجمعات الأحياء، لكنهم يتوقفون أكثر عند أثر الدستور، لأنه ترك العديد من الوثائق، بينما تكلّم الحشد وكلامه ذهب في مهب ريح التاريخ». وبتجاوز «القسوة» في حكم العقل المغربي الكبير، فإن موضوع أثر الدستور موضوع جدي للتأمل اليوم ..
إن النص الدستوري في المغرب صار مكونا جوهريا في بناء التاريخ والديموقراطية معا، لأنه أجاب عن سؤال جمع التاريخ والديموقراطية في العقد الماضي. كما أنه جزء من لحظة مستمرة، بما فيه من مكاسب دفعت إلى تبنيه بما يشبه الإجماع الوطني، ومن ثقوب وجوده التي تنتظر استكمال ملء فراغها ليرتفع منسوب البناء، وما يستوجبه من قراءات سياقية متوازية…
ومن المحقق في زاوية النظر هاته أن النص مكسب أساسي، وهو قوي بتجاوبه مع لحظة تحول، لم تكن 20 فبراير فيها سوى عامل إنضاج بدأ بشكل سيادي وبإرادوية واضحة مع مجيء الملك محمد السادس. ودليل ذلك أن النص بحد ذاته كان »عملية دسترة« للكثير من القرارات والمبادرات والإجراءات الشجاعة…
وكما قال لي في حديث معه أمس السي محمد الطوزي، أحد الحاضرين في صياغة النص الجديد فإن »النص مكسب كبير، وهو موجود بين أيدينا اليوم »، وهو بحد ذاته تحول في الحياة الدستورية، وكذلك في التطور السياسي لبلدنا….
واليوم على بعد 11 سنة، ما من شك أن رهانات قراءة النص الدستوري، على ضوء التنزيل أو على ضوء المستجدات أو الإرادات المعبر عنها، قد بينت جوانب أخرى لم تكن متوقعة، ولا منصوص عليها، كا هو حال نصوص دستورية تخضع لقراءات وتحيينات متتالية، تخضع لموازين القوة، كما هو حال الدستور الأمريكي اليوم، الذي يخضع لقراءات «نزاع القراءات» التي لا تشبه قراءة الآباء المؤسسين..
وهناك دوما، كما شرح الأستاذ الطوزي، قراءات متباينة وأحيانا متناقضة..
نوع من القراءة «الوضعياتية المفرطة في الإيجابية»، إذا شئنا القول، والتي لا تزيد في الحسبان روح الدستور، ولا سياقه ولا تاريخانيته التي أشار إليها عبد لله العروي في بداية مقالنا. كما تلغي حتميته التوتر المطلوب في تنفيذه وتفعيله. كمقابل قراءة تطورية، «نشوئية» إذا شئنا، التي تجد مرجعها في خطاب 9 مارس، باعتباره المرجع الذي يحدد مهمة هذا الإصلاح ومداه، بالإضافة إلى اعتباره لبنة من لبنات البناء الديموقراطي التطوري….
ولا نعدم في أحيان كثيرة نوعا من الغموض في القرارات التي تقدم كعروض سياسية تكون قد وجدت جذرها في ما سبق التحرير والكتابة الأولى والثانية، مع الخضوع لموازين القوة التي سبق ذكرها، وهي موازين قد تتحول إلى فرامل في وجه التطور..
لقد بينت الحياة السياسية، بما فيها الحياة في الديموقراطيات العريقة، أن النصوص مهما كانت إيجابية لا بد لها من قوى محفزة تدفع بها إلى التطور وتطوير الأساسيات التي وضعها الدستور، خارج القرارات الملتبسة والمتضاربة…
السؤال عندما يكون هناك ورش التنزيل الدستوري في اتجاه التاريخ الصحيح هو : من يعمل على تطوير الثوابت والأساسيات؟
لتطوير الأساسيات وتجويدها عند التفعيل هناك بالدرجة الأولى المجتمع، باعتبار أن الرهان يهمه ويهم تطلعاته ومنها الأحزاب السياسية.. ومن المفارقات أن مواقفها لا تختلف عن مواقفها عند المطالبة به.
أي تتحكم في موقفها الطبيعة المحافظة أو الإصلاحية التي جبلت عليها ومنها..
وهي تعاني، ثانيا، بعد الطبيعة من جدواها الشرعية، أي إلى حد تبقى غير «مقيدة» بسؤال شرعيتها، سواء في طبيعتها أو في قوتها أو في مشروعها العام.
القوى السياسية ما قد يعيبها هو أن تكون قصيرة الظهر، أو تنظر إلى الدمى القصيرة في مجتمع يتفاعل بمنطق دستور على المدى البعيد!
أي البقاء في رهان انتخابي محصور وضيق، هو بدوره قد يخضع لمعيار سؤال الشرعية ( المال عوض الإصلاح والسياسة مثلا مثلا )…
الفاعل المركزي الذي قرأ التاريخ واللحظة إيجابيا منذ بداية العهد الجديد هو الملكية..
وهنا يكون دور الملكية دورا محكوما بوظائف عديدة متأتية من الشرعيات (الدينية السياسية الدستورية والتاريخية )، ولا يمكن إلا أن يحافظ على توازنات المجتمع، وإن كان هو المحفز الأكبر للإصلاح، وتدخلات الفاعل المركزي، تكون استثنائية وليست داعمة في قراءة الدستور لتحفيز الأساسيات ولا يمكن أن يفرض الأشياء، فهو يؤثر بدون أن يفرض التغيير في الكثير من الأساسيات التي يكون التطور قد فرض قراءتها قراءة دينامية وتحتاج إلى تعميق إصلاحي جديد…
الفاعل الآخر هو المؤسسات الدستورية نفسها ومنها المحكمة الدستورية والقوى الدستورانية في البلاد.. والتي يكون عليها في كل مرة إعادة موقعة الخطاب المؤسساتية للإصلاح الدستوري، بعيدا عن روح المحافظة التي قد تفرضها طبيعة تكوينها أو طبيعة التوازنات التي يخضع لها تشكيلها…
وفي موازاة ذلك فرضت الأجندة الدستورية الإصلاحية مدخلا جديدا في تطوير النقاش الدستوري وما يتفرع عن الواقع، كفضاء استثنائي يتعلق بالحسم في«دستورية القوانين»، فُتح في وجه المواطنين، وغيره من مبادرات شعبية يمكنها أن تحرض على تطوير الأساسيات والثوابت بقرارات جديدة وتستجيب للتوترات ..
ما من شك أن الزمن الدستوري هو زمن طويل، وقياسه لا يكون دوما بتوقيت الزمن السياسي، غير أن هذا الأخير يمكنه أن يعطله!
سؤال الآليات لا يمكن أن يخفي سؤال المضامين التي تستوجب قراءة جديدة، لكي يكون الدستور قاعدة للإصلاح السياسي.. وبلغة أخرى: بكم من مسافة زمنية نجد أن التوقيت السياسي متأخر عن الزمن الدستوري الإصلاحي، أو بكم تتأخر المؤسسات السياسية عن الإصلاح الدستوري من زمن ؟
وما هي المؤسسات التي ما زالت تنتظر قراءة إصلاحية للنص الدستوري لترى النور ؟
لقد ربحت السياسة الكثير من الدستور الجديد وتجلت مكاسبها في تقوية شرعيتها وربط الاستحقاق السياسي بالمكانة الدستورية وجعل المؤسسة الحزبية جزءا من الدولة، وكرست الشرعية الدستورية للاقتراع بتثبيت تعيين الحزب المتصدر للانتخابات رئيس الحكومة.. وعلينا طرح السؤال: ما الذي أعطته السياسة للدستور، غير تعطيله في حالات عديدة طوال العقد المنصرم أو في المرحلة التي تلوح في الأفق؟
(*) عن جريدة الاتحاد الاشتراكي ” الرابط :