هناك ما لايقل عن تسعة أسباب تجعل العسكر الجزائري يستشيط غضبا من ممارسة موريتانيا لسيادتها الديبلوماسية في ضبط علاقاتها مع جوارها القريب والبعيد.. وتحيين ترسانتها الديبلوماسية. وهو عمل ربما استأثرت فيه المصادقة على الاتفاقية بين مدريد ونواكشوط بحصة الأسد من الانتباه غير أنه يطبخ على نار هادئة منذ مدة، على الأقل عبر تاريخين مهمين، وهما زيارة العاهل الإسباني لموريتانيا في2022، ثم حضور بيدرو سانشيز لمؤتمر دول الساحل في يوليوز 2020…
أولا : اختارت موريتانيا الأسبوع الذي ودعناه لكي تعلن يوم 15 يونيو مصادقتها على اتفاقية تعاون وصداقة وحسن الجوار مع إسبانيا، الموقعة بمدريد منذ يوليوز 2008، بعد أسابيع قليلة فقط من إعلان قصر المرادية عن تجميد اتفاقيته مع الدولة الإيبيرية، والتي تحمل نفس المسمى والعنوان.. وهذا التزامن لم تنظر إليه الجزائر بعين الرضا، ويتبين من خلال أصواتها الإعلامية، من قبيل «الشروق» وأخواتها التي امتهنت الهجوم على المغرب كخط تحرير سياسي إعلامي، أن العسكرتارية الجزائرية غاضبة.
ثانيا : موريتانيا كخيار إسباني عميق وله بعد، يمر بالضرورة عبر المغرب، سواء في النشاط التجاري برا أو بحرا.. وما لا يمكن حسبانه على الصدفة ومكر الأجندات الزمنية، هو أن نعلم أن موريتانيا صادقت على الاتفاقية مع إسبانيا بعد أن اعترفت بحق المغرب في سيادته على صحرائه في الوقت الذي علقت الجزائر الاتفاقية بعد نفس الموقف.. فما جعل الطرف الجزائري يعلق اتفاقيته مع مدريد لم يعطل قرار نواكشوط في تعميق التعاون مع مدريد.
ثالثا : منذ أيام قليلة وقعت موريتانيا مع الاتحاد الأوروبي أو جددت بالأحرى اتفاقيتها حول الصيد البحري، وما يجعل للتوقيع معنى هو أن الاتحاد الأوروبي هدد الجزائر برد فعل عصيب وصعب، كما أنه دفعها إلى التراجع تحت وابل من الخجل والعار والتبريرات.
رابعا : هو نفس الاتحاد الأوروبي الذي ضمن الاتفاقية مع موريتانيا بندا (البند 5 إذا لم تخني الذاكرة) تسمح للنقالين والشاحنين بإفراغ حمولاتهم في ميناء الداخلة، وهو إقرار أوروبي بالسيادة. وموافقة موريتانيا عليه .. وقد كانت التكتلات المساندة للبوليزاريو عاجزة عن تغيير ذلك في أروقة البرلمان الأوروبي!
خامسا : حاولت الجزائر أن تلعب على استعمال موريتانيا وتأليبها ضد المغرب دوما، وزادت من ذلك في الآونة الأخيرة، بعد ما تبنت نواكشوط موقفا عقلانيا في كل التوترات التي حصلت. ومنها الكركرات وما تلاها…وحاولت العسكرية الجزائرية جرها إلى معاداة المغرب صراحة على إيقاع ما تفعله هي.
وما زلنا نذكر كيف أن الرئيس عبد المجيد تبون، حشر موريتانيا في زاوية عدائية ضد المغرب في حديثه الشهير أو ثرثرته الشهيرة عند زيارة وزير خارجية الولايات المتحدة لبلاده في مارس الماضي.وقتها لم يجد رئيس «المرادية» حرجا في أن يحشر بلاد المليون شاعر، في الدفاع عن توسعية متوهمة عنده يقوم بها المغرب، وفي نفس الوقت مرغها في الوحل عند الحديث عن حدودها الملتهبة، مما يعنى أنها في حاجة للجزائر لضمانها.. وكانت الجزائر اتهمت المغرب بقتل ثلاثة من مواطنيها في التنقل بين نواكشوط وورقلة في نونبر 2021 وعادت في أبريل 2022 لنفس التهم، وأوضح وزير التهذيب الوطني وإصلاح النظام التعليمي الموريتاني محمد ماء العينين ولد أييه خلال مؤتمر صحافي أنه “وفقا لمعلوماتنا فقد قضى موريتانيان في الحادث الذي وقع”. وشدد الوزير على أن «الحادث وقع خارج ترابنا الوطني»،! الجيش الموريتاني خاصة نفى وقوع الهجوم على أراضيه وسكت بدون أي امتداد للخبر والاتهام الجزائري!
وفي ذلك تدخل مبادرات عديدة من الطرف الجزائري منها إعلان فتح طريق موازي للطريق المغربية الموريتانية التي تمر عبر الكركرات، بدون أن يكون لذلك أثر عند الموريتانيين كما عرضت منتوجاتها الفلاحية على السوق الموريتانية ومن ورائها السوق الإفريقية بدون أي أفق.
وقد كانت الصدمة قوية ولا شك عندما «تتحرر» موريتانيا من التهديديات الجزائرية، والعروض التي تطرحها.
وهذا سبب آخر للغضب.
سادسا : فقد كانت الجزائر تعرض على موريتانيا زواجا ديبلوماسيا في نيتها خنق المغرب به، من جهة الجنوب، لكن الجارة الجنوبية للمغرب اختارت أن تلتحق بالتوأم الإسباني المغربي على حسابها…
سابعا : لا يغفل المتتبعون والعارفون بخبايا التحولات الجارية في غرب المتوسط وجنوب الصحراء، الموقع الجديد لموريتانيا في الأفق الإسباني المغربي، بناء على تطورات الواقع المحاذي للحرب الأوكرانية الروسية. والأزمات التي تجاور موريتانيا في الساحل ومنها الإرهاب والجريمة المنظمة..
هشاشة النظام الجزائري أو أفوله هو ما صار يؤخذ بعين الاعتبار. في التعامل معه من طرف الاتحاد الأوروبي أو بعض عواصمه، لاسيما بعد أن اتضح أنه يتخذ قرارات تناقض تعهداته، كما هو حال الدورية لتجميد التطوير البنكي والاتفاقيات التجارية نحو ومن إسبانيا، الشيء الذي اعتبره الاتحاد الأوروبي خرقا لمعاهدته مع الجزائر وفي نفس الوقت دليلا على أنه يتخذ مواقف بدون الأخذ بعين الاعتبار. تأثيراتها وعواقبها..
ثامنا : موريتانيا كانت محطة من محطات الحلف الأطلسي..في الوقت الذي نشر فيه الأخير تقريرا عن الجزائر سلبيا للغاية بخصوص استعمالها للغاز كسلاح سياسي، أضف إلى ذلك التقارب مع موسكو في منطقة تتعرض لانتباه استراتيجي كبيرمن طرف الناتو.. وفي هذه النقطة موريتانيا وقعت الاتفاقية أياما فقط بعد إعلانها اكتشاف حقول غاز طبيعي سائل في سواحلها قدرته الإنتاجية 10 ملايين طن سنويا .. ولن تقبل الجزائر من موريتانيا أن تضعف من ابتزازها لأوروبا في قضايا عديدة منها قضية الوحدة الترابية للمغرب… وهو ما قد يفتح أبواب لأنبوب غاز آخر، غير الأنبوب الأوروـمغاربي الذي أغلقته الجزائر، ينطلق من موريتانيا ويصل إسبانيا…
تاسعا : موريتانيا كانت ضد روسيا صراحة بإدانتها للتدخل الروسي في وقت كانت الجزائر مع الممتنعين، وتلقت زيارة لافروف في العاشر من الشهر الماضي.. كما أن موريتانيا تحظى بوضعية شريك للناتو في منطقة الساحل، التي تضعها الأجندة الأطلسية كأجندة ذات أولوية. بل كانت زيارة لابيير كولومينا نائب الأمين العام للناتو في الشؤون السياسية والأمنية إلى نواكشوط في بداية يونيو الجاري، مناسبة للتأكيد على قرار تقوية التعاون بينهما. وهو دور رئيسي ستلعبه موريتانيا في منطقة الساحل بدعم من الناتو، وهو الحلف الذي يربطه بالمغرب وضع متقدم للغاية ويشارك في وضعه في الاستراتيجيات الخاصة بشمال إفريقيا وغرب المتوسط…
طبعا الذي يغضب الجزائر أكثر، هو ما قد تنبئ به هذه المقدمات، فالعسكر لا يغفل بأن موريتانيا التي ما زالت من الدول الإفريقية القليلة التي تعترف بجمهورية الوهم بتندوف لا يمكن أن تسقط من حساباتها كل التطورات التي تقع سواء في الناتو والتحالف معه أو إسبانيا والتحالف معها أو في المغرب والعمل المشترك معه.. وبالتالي فلن يكون من المستساغ أن تدخل «براديغما» ديبلوماسيا وجيوـ استراتيجيا جديدا بأعطاب ومعادلات الماضي وبقايا التهديد العسكري الجزائري الذي فرض لظروف صارت معروفة اليوم…
عن جريدة الاتحاد الاشتراكي : الرابط