أنهكني تفكير عمر الكهولة المتقدمة. وقفت أمام مرآة غرفة نومي متصلبا. سئمت منظر ترتيب أسناني و”تقليدانية” هندامي وبدانة جسمي. خجلت من ابتسامتي وتعمدت تأملها مسترجعا آفات الماضي. داهمني ناب فكي الأعلى الوحيد مبتئسا من عناء عزلته، ومنهكا من العمل الشاق الذي أجهد كاهله، فزأر متلعثما في كلامه مشيرا إلي بسبابة يده اليمنى وكأنه يعاتبني: “مولاي، أنا لم أنس كرب غم اليوم الذي وَأَدُوا فيه أخي الشقيق وَأَخَوَيَّ من أبي في الفك الأسفل. أتذكر ذلك الحدث المؤلم كالبارحة. أجلسني الكهل بفمه الخالي تماما من الأسنان على كرسي حديدي وبيده اليمنى آلة تشبه مِلْقَط نزع المسامير من الخشب، فَاسْتَل بعنف الجبابرة وبدون رحمة أنيابي الثلاث الواحد تلو الآخر. أعطاني بعض الحلوى في نصف صفحة جريدة عربية، وأوصاني أن لا أزدردها إلا بعد أن تلتئم الجروح. وصف لأبي دواء تقليديا، وهو خليط من الماء المغلي والملح الحي، أتمضمض به مرات عديدة في اليوم.
تحمست وأنا أسمع ترديد نعتي بالوسيم، وتَحَدَّيْتُ مأساة الماضي بقهقهة فم مفتوح. أمرت جوارحي لتتغاضى عن شعوري بعدم رضاي على نفسي. عجزي عن ترميم جروح الأيام البائدة أتعبني. همس لي شيخ وقور في منامي محذرا “إياك أن تتجرأ، وحذاري أن تلتصق بك صفة العقوق في محيطك”. فهمت الرسالة، ثم تجلدت وكابرت لنصرة الخير. أدمنت العمل التطوعي لعلي أكسب عطف الناس. اشرأبت أفقا جديدا عنوانه الأمل. أقنعت نفسي أن ما أصابني خلال سنوات ترعرع جسدي من اعتداءات هو قدري المحتوم. صارعت توهماتي لتتخلى بحزم وبسالة عن كل توتراتها. أحملق في آثار الجروح في يدي ومحياي، فتنهرني القداسة، ثم تجدني أبلع عباراتي المكبوتة. أصارع الكدر وأتقدم في تجسيد شعارات التحدي في يومياتي. أصمم على الهروب إلى الأمام، لكن براثن الماضي تمزق أحشائي أشلاء. أداعب خوفي من نكبات صحية كلما انتابتني الشعور بذلك، لكني لا أفلح في صد كوابيس نومي. أنتكس منكسرا كلما تذكرت قولة ذوي الاختصاص: “جسم الإنسان لا ينسى الاعتداءات عليه مهما طال الزمن”. أشمئز عندما أفكر في الزمن المهدور والمغدور في حياتي. غليان ضميرى يفوق طاقتي. أتأمل ما راكمت من معارف وتجارب. أعترف كل مرة بتفاهة وعقم ما اعتبرته انجازات، فتخترقني طاقة سر كينونتي، فتطالبني بمضاعفة الجهد لتدارك ضياع زمن حياتي السابقة.
وأنا أواجه يوميا الضغوطات المنهكة، أضطر للتوقف متأملا بروية وحكمة. الحق في استمرار الحياة يفرض علي التميز صبرا وتجلدا، فتجدني أمام خيار التعسف على خلق السعادة. أتكبد العناء لتجديد أنفاسي، فأزأر مرددا كلمة انتفاضة. أتعب من التفكير في تحديد مقومات الثورة على النفس في فضاء موبوء، فأشعر بنوبات الحسرة والتحدي تغلي بداخلي، فتشتد عزائمي. أقولها على مرأى ومسمع الجميع: عدوي الأول هو الكسل الشيطاني الذي لا يكل ولا يمل من إبداع وساوسه وتقديمها لي على صحن من ذهب. انشغاله الوحيد هو شل حركتي جسما وعقلا. هو بيننا يجرنا إلى الوراء بكل ما لديه من قوة. أما نحن فلا سبيل لنا لحماية وجودنا إلا تكسير القيود بعيون مشرئبة الأفق المأمول.
نعم، لقد استيقظ ضميري، وأعلنتها فعلا ثورة على النفس لعلي أتدارك هفوات تدبير زمن أعدمه القدر. أنشغل باليوم والغد بدون أن أفكر هل كنت في السابق مخيرا أم مسيرا. لكنك أنتَ، أيها القريب مني دما وعطفا وتاريخا، أراك تسهب النظر في سماء حكايتي. أنا أمقت زفرات معاناتك، وعليك أن تكف عن إزعاج تركيزي وتأملاتي. خياراتك أخي تكهرب أجواء ساعات يومي المضنية. تَذَمَّرْتُ مرارا وأنا أتابعك تخطط بدهاء واقع مرير. استغربت من زهوك بتدفق أموال الريع في خزائنك بدون نقطة عرق واحدة. أنت لست نموذجي. أنت بمنظور ثورتي خائن أمانة وجود. تقهقه كل يوم قهقهات الرقص في علب الليل، وتستسلم جفونك للنوم ثملا فوق كواكب نساء الحاجة. نُصِّبْت بشرط الانشغال بملء صندوقك الأسود. رَدَّدْتَ مزمجرا بدون وعي غير ما مرة وأنت مُنْتَش “هذا حقي”. تفتح الصندوق المظلم على رأس كل شهر. تستحوذ على قسط الرائد، وتوزع تحت ضغط التنبيهات ما تبقى تقديسا لفكرة الحفاظ على مكانتك وارتباطاتك. ابتعد عن أجوائي. لقد اُسْتُهْلِكَ عنفوانك بإرادة منك. اتركني، لا تضايقني، ولا تطمح التغرير بي. أرجوك افسح لي فضاء استنشاق هواء نقي. انسحب من فضاء حياتي الآمن. قد أمتن لو ساعدتني من بعيد بمروءة الأجداد. اقترب وتأمل معي كيف يزهو الوطن عندما يتطوع جنوده لخدمة ناسه. وطننا أخي غير قاس على أبنائه، فهو لا يتعب من ترديد عبارة “أنا غفور رحيم”. العاق منا يا صديقي إذا اهتدى إلى الصراط المستقيم وثاب ثوبة نصوح، يصبح حليفا. كم رأيت فيك في السابق مدافعا عن تحصين الحاضر خدمة للمستقبل. لقد رددت مرارا عبارتك المدوية زمن البراءة بحماس درجة التعصب: “الوطن فضاء رحب يمنح أبنائه بِسَخَاءِ كُرَمَاِء التَّارِيخِ شَوَاهِدَ تَقْدِير. لا هم له سوى هزم مخلفات ومخالفات الماضي”.
لا أنكر، أنا مرتبك أمام قسوة زمن أنهكه الماضي. كلما تربصت بي الخشية، أرتعد خوفا من أن يقودني تكرار أحداث حياتي لكآبة النهاية، فيداهمني برهة الخيار الصعب المتبقي، فانتصب بكبرياء العظماء. أزأر، اشدد بنفسي، أمسك بقوة على مقبض حسام الصبر، أضع وجودي وجها لوجه أمام كل المعضلات، فتفور بداخلي رَغْبَتَيْ التجديد والتفوق.
أزداد كربا في المرات العديدة التي تَأَلَّمْتُ فيها مِنْ تَذَكُّرِ تهكم الكبار على لوحات رسومات صباه الفنية. أنكسر كل مرة، وأعدل قامتي لكي لا أهان مجددا، ثم أفتح الباب على مصراعيه لتكتسح وجداني طاقة التغيير الإيجابية. كلما أحسست بالضعف أغذي معنوياتي باستحضار أنوار الماضي الموءودة. صفحات كتب المعارف التي لا تقرأ زاخرة بها. أفكر وأدبر في أحداث حاضري حَالِما ركوب قاطرة وجود أفضل. أتخيل نفسي ضِرْغَاماً فأزأر ثم أزأر. ينتابني الخوف بفعل نوبات ارتباك كاسحة. أهدأ نفسي كل مرة مستحضرا نضج الحكماء. استسلم لتفكير عميق. أغوص في هذيان تأمل النوابغ. آمر نفسي برفض مسايرة الكبار. توالت أمامي منافذ النجاة. رفضت الانصياع لملذاتها بالكامل، ثم قلت : ما العمل ؟ تلكأت في الجواب لكي لا أنتصر للخيار الصعب. زأرت مجددا وكأني أستعد لافتراس نفسي. أتلمس أعضاء جسدي برفق العظماء. أصل إلى عنقي فأمَسِّدُه بكفيَّ معترفا بأفضاله علي. أمر إلى الجمجمة، فيلتصقا بها، أغوص في تفكير سارحا في حنكة عقول قيادات العالم. إذاك، حسمت أمري، وازداد وعيي بارتباط سر الحياة بالجمجمة. رتبت مراجع مكتبتي بحيوية شديدة مرددا : “لا وحدة ولا ابتئاس بعد اليوم”. قدمت مبتسما التحية لكبار رجال الفكر والأدب والفنون النادرة. لم أُدَاهَم مجددا بمنظر أسناني وهندامي وقبح بدانتي. تصفحت أول رواية من روايات المشاهير، قرأتها بتمعن في ليلة واحدة. استوعبت دروسها وعبرها وهيأت لها جدادةَ قراءةٍ مُبْهرة. أخذت قسطا من الراحة. التحقت في صباح اليوم الموالي بدار الشباب والثقافة. سردت بعد الزوال الحبكة للطلبة في الجامعة. قيل لي أنني نجحت في ترسيخ موعد الحلقية السردية الأسبوعية في العقول. عجبت لهذا الإقبال الجماهيري. قلت لا يمكن أن يتفاعل معي هذا الكم من النفوس الشابة. اهتديت معترفا بوجود روح الوطن في وجدان أمة تتطلع للمستقبل، وقلت ربما ساعدني أولو الألباب منا بعدما تيقنوا من نبل أهدافي ورسائلي. نقلت التجربة الإبداعية إلى الأحياء والدواوير في أيام معدودات. سادت الأنوار أَنَّا وأَيْنَما حَللت وَارْتَحَلْت. سَررت لنفسي ناهرا ومروضا إياها : “لا خيار أمامي سوى أن أزأر وأزأر لتشتد عزائمي. ألا بصقل سيوف المعرفة يُسْتأصل غبن النفوس البائسة، وتَسْتَأْسِدُ الأنوار على عَتَمَات الظلمة”.َ