أنا عبد الله الفرابي، العربي مسلم الديانة. مسقط رأسي قرية أَمْجادٍ من الأرض العالية المقدسة.
تمددت في يومِ يَقَظةِ الضمير فوق تحفة أريكة خشبية مزخرفة بفنون الأرابيسك وَرَثْتُها عن أجدادي.
حاصرتني سويعات أيامي في معقل غيبوبة غادرة. وجدتني حبيس مكان وزمان التمعن المرهق في انجازات الآخر….
التفت يمينا وشمالا. مددت يدي اليمنى ولامست خشب الأريكة براحة كفي وأصابعي.
انتابني غبن اشتدت حدته جراء ألم فقداني لإحساس الاعتزاز بإبداعات السلف الموؤودة.
طرقت أمي باب غرفتي، دخلت بتنهيدات نفس مقهورة، منفصلة عن جسد متحرك يقوده حنان الأمومة. كلمتني ولم أستجب بِمُخَيِّلَةٍ خارجة عن التغطية. تَفَهَّمَت وضعيات غيبوبتي المتكررة. غمرتني بعطفها وهي تمسد شعري بيدها اليمنى. انتابني شعور خفيف بالإحساس بأدوار كينونتها. ابتسمتُ مسترجعا أحداث مقاومتها لحماية فلذة الأكباد. كم مرة تزينت المسكينة لاستنزاف غضب الأب المغوار. كم أشفقت على أبنائها مستاءة من حجم مواد الحفظ والاستظهار، وطمس مكانة العلوم في مدرسة تنشئة الأجيال. استمرت غيبوبتي وهيامي. استسلمت لمداهمة القنوط والضجر. أفق تفكير غيبوبتي انحصر في بحثي عن جواب يشفي غليل هواجسي النكراء. أصررت على فهم سر الهوة المتفاقمة بين مصير أمتي وتسخير العلوم الصرفة لتلبية حاجيات أبناء موطني…
استمرت غيبوبة تفكيري بجسد مترهل ونفسية مأزومة منبهرة بعلوم الغرب. أنهكني التفكير في سر هاجس تدقيق معالم الهويات وتقنين مساطر الهجرة من الجنوب إلى الشمال.
امتقع وجهي وأنا أتذكر حبيبتي سيرين. استرجعت متعة راحة جنانها عندما تمددت على سرير العصر بحشية الأحلام والآمال في غرفة نومها الخلابة.
فصلتني غيبوبة تفكيري عن واقع حياة الأم والأب والإخوان والأخوات. غرقت لوحدي في فضاء فهم ابتكارات عالم حبيبتي سيرين. عَالَمٌ هَجَرْتُه بتسرع واستعجال بدوافع الاعتزاز بأمجاد الماضي المطموسة.
ولأنني تعودت بغيبوبتي الغوص في عالم افتراضي محسوس، أخذت هذه المرة هاتفي النقال بين يدي. حملقت في حجمه. ركزت على شاشته الرقمية المدمنة للمسات المرهفة الناعمة. استحضرت آفة الانتماء، وغصت في صفحات تراث غامض تنكرت له ابتكارات الغرب. اختنقت أنفاسي عندما لم أعثر عن جواب يفهمني أسرار ما ينبعث من هاتفي النقال من صور وفيديوهات وأحاديث التواصل الآني مع الأصدقاء والأحباب. قلت لنفسي، إياك يا رجل، إنك على حافة الجنون، استفق، اخرج من غيبوبتك، وتحمل واقعك المرير، فأنت لست من محترفي الرياضيات والفيزياء والفلسفة وعلوم الفضاء.
تكرر هذا النداء عدة مرات وبنبرة إلحاح متزايدة الحدة. تكدرت أنفاسي مجددا وأنا أنتقل بمخيلتي من صورة إلى أخرى. أصابني الهلع والارتباك من هول الصورة الأولى، لتتوالى ومضات صور أسلحة الدمار الشامل المتطورة ومآسيها، وتوهمت صواريخَ بسرعة الضوء تلاحق الديار العربية. مرت مخيلتي إلى مشهد سريع وفسيح بأبعاده الفضائية، وتابعت المركبات الأمريكية والصينية بألوف ركابها وهي تلتحق بكوكب مارس. داهمتني صورة ثالثة عكست مسارات الأسفار أرضا وجوا، والسيارات والشاحنات الإلكترونية والكهربائية تجوب العالم، مستثنية البلدان الغارقة في الفوضى والحروب والأوبئة ……
أصابني جوع المعدة، عدت إلى واقعي البائس رغما عني. تلقيت في ساعة واحدة مكالمات هاتفية عديدة من أفراد الأسرة والأصدقاء. إنهم منهكون ولا يتحملون إهمال ومضايقات الإدارة والمستشفى والاستسلام للخنوع وتقبل الأمر الواقع في الوحدات الإنتاجية. المقاولة المواطنة طعم لاستنزاف الطاقات لا أكثر ولا أقل. فعلا إنني على حافة الجنون…. ما العمل؟ … لم أجد من سبيلِ إنقاذٍ إلا الدخول في هذيان إدمان الخمور الرخيصة إلى أن يغلق ملك الموت باب الهوان. في نشوة عارمة، توهمت سفر روحي إلى عالم أنوار ساطعة، وجسدي الملتف بكفن أبيض مسجى في خندق ترابي عرضه شبر اليد. والإمام يحثو التراب على القبر ثلاثا بعد وضع جثتي بعناية ومهابة، ارتعش خوفا وذهولا ثم صاح بأعلى صوته “الله أكبر”. لقد رآني من الشقوق الخشبية متوسدا كتابَ تبشيرٍ كُتِبَت على غلافه الجلدي عبارة “ألباب جنة”.