كهف أفلاطون
كهف أفلاطون أو أسطورة الكهف مَثلٌ ضربه أفلاطون في الباب السابع من كتاب الجمهورية.
يقول جميل صليبا إن كهف أفلاطون «يرمز إلى أن النفس الانسانيّة في حالتها الحاضرة، أي خلال اتصالها بالبدن، أشبه شيء بسجين مقيد بالسلاسل، وضع في كهف، وخلفه نار ملتهبة تضيء الأشياء وتطرح ظلالها على جدار أقيم أمامه، فهو لا يرى الأشياء الحقيقية بل يرى ظلالها المتحركة، ويظن بها حقائق.». (1). الموسوعة الحرة.
إن الكهف في هذه الاسطورة هو العالم المحسوس، والظلال هي المعرفة الحسية، والأشياء الحقيقية التي تحدث هذه الظلال هي المُثُل. وعلى هذا فإن الفيلسوف – حسب أفلاطون – هو الذي يرتقي بنفسه ويفكر في المُثُل الجوهريّة التي تكمن وراء المظاهر الخارجية، ويعرف الحقيقة ويميز العرض من الجوهر.
الكهف في النص القرآني: أما بالنسبة لقصة أهل الكهف في النص الديني القرآني من المنظور العقلانيّ النقديّ, لم تأت برأيي قصة ذات طابع ديني مثالي لا هوتي فحسب, تحكي عن تلك المجموعة من الناس الذين آمنوا بعقيدة غير عقيدة الحاكم الظالم وأهل بلدتهم, الأمر الذي اضطرها إلى الهروب من المدينة واللجوء إلى الكهف خوفاً من سلطة وبطش حاكم مستبد, لتتبين فيما بعد قدرة الله عز وجل على إماتتهم وكلبهم عدة مئات من السنين, ليفيقوا بعدها ويجدوا أن العالم المحيط بهم, والذي هربوا منه تلك السنين الطويلة قد ِتغير كل شيء فيه, ولم يعد صالحاً لهم, فكان الحل الديني هو إماتتهم مرة ثانيّة لكي يُبَيَنَ للناس بأن هناك قدرة خارج عالم الإنسان هي من يتحكم في هذا الكون بشقيه الطبيعي والاجتماعي, وعلى الناس الخضوع والاستسلام والامتثال لها, وأن أية محاولة يقوم بها الإنسان من أرادته وتفكيره لتغير واقعه أو إعادة تكوينه كما يريد هي محاولة فاشلة وعبثية. أما الدلالة الثانية من قصة الكهف هذه, فهي محاولة ذات رؤى عقلانيّة تنويريّة تشير بشكل غير مباشر, بأن واقع الناس لا يظل على حالة واحدة, بل هو في تغير وتبدل مستمرين. ومن لا يستطيع التعايش مع معطيات الحداثة لن يستطيع مفارقة كهفه الماديّ والعقليّ والروحيّ معاً.
وعلى هذا الأساس نستطيع القول: إن قصة الكهف تمنحنا القدرة على كشف الكثير من الكهوف السلبيّة في حياتنا الفكريّة والاجتماعيّة والدينيّة والسياسيّة والثقافيّة والأخلاقيّة وغيرها في تاريخ حياتنا المعاصرة. يمكننا أن نبين أهمها في التالي:
كهف فلسفة اللاهوت:
عرّف قاموس “ويبستر” اللاهوت بأنّه علم الله أو الدين بحد ذاته. أي هو العلم الذي يتعامل ويناقش وجود الله, وصفاته, وقوانينه وحكمه، وما هي المذاهب التي يجب أن نؤمن بها والواجبات التي علينا أن نأتيها، والمحرّمات التي يجب علينا تجنّبها، فهو باختصار العلم الديني الذي يحاول ضبط حياة الإنسان من خلال النص الديني اللاهوتي، لذلك يعتبر اللاهوت هو علم الله الذي يضبط العلاقات بين الله والكون. هذا ويعتبر اللاهوت ثمرة النضال النفسيّ ومجاهدة النفس، وأعلى تمرين للعقل والروح الإنسانيَّن.
إن كهف اللاهوت هنا يعمل على إلغاء دور الإنسان وقدراته على تحقيق مصيره بنفسه, فهو مخلق لله وشريعته فقط, وأي خروج عن تعالم الدين ورسم حلول لخلاص الإنسان وتحقيق معارفه من خارج النص الديني هي خيانة لهذا النص وعدم الايمان به. لذلك من هنا حورب كوبرنيك وهارفي وغيلان الدمشقي وجعد بن درهم وابن رشد, وأصحاب التيار المعنزلي .. وغيرهم من المتكلمين الفلاسفة والعلماء العقلانيين.
كهف التصوف:
يرتبط المبدأ الأساس للتصوف بفلسفة اللاهوت إلى حد كبير, على اعتبار أن فهم الحياة والنفس البشرية ينطلق من الدين أو العقيدة. فالمبدأ الأساس للصوفية, هو أن تعاليم الدين تدل على إمكانية الوصول إلى الله عن طريق تجربة شخصيّة ذاتيّة هي التي تؤدي إلى المعرفة الحق المطلقة, من دون الاعتماد على الفلسفة العقليّة. وهذا يدل على أن الصوفيّ يعتقد بوجود ملكة شخصيّة تمكن الإنسان من توفير المعرفة من خارج العقل المنطقيّ. ويمكن الوصول إلى هذه الحالة باتباع شعائر معينة، حيث نجد أن لكل طريقة شعائرها، مثل ترديد الكلمات عند النقشبنديين, أو الموسيقى عند المولويين. ويؤمن الصوفيون أن التجربة الشخصيّة هي طريقة تصاعديّة سُلَميّة تنقل معرفة المريد من مرحلة المعرفة الماديّة إلى المعرفة النهائيّة التي يسمونها “اليقين” أو “الفناء بالله”.
ومن أسس الشعائر الصوفيّة أن يتدرب المريد على التغلب على كل الشرور النفسيّة مثل الغضب والأنانية والجشع) ومن كل أنواع الحب ما عدى حب الذات الإلاهيّة. ومن أهم السلوكيات الصوفية (التخليّة) أي تطهير النفس من رذائلها, و(التحلية) أي ملء النفس بالأخلاق الفاضلة.
إن الصوفيّة هنا بشقيها العرفانيّ والطرقيّ, تعمل على تبخيس الحياة عند الإنسان وضرورة تركها والالتحاق بالمتعالي المطلق (الله). فما الحياة الدنيا إلا متاع, وإن الآخرة خير وأبقى. وهنا تكمن الوجوديّة في شقها المثالي, أي الهروب من الواقع المادي إلى الواقع الروحي. وهذا الموقف السلبي من الحياة سيساهم في تعميق التخلف وتردي الحياة بكل مستوياتها كونها لم تعد الهدف من وجود الإنسان أصلاً عليها.
كهف السلفيّة الدينيّة و السلفيّة المعاصرة:
كهف السلفية الدينيّة: هي تيار فكريّ وسلوكيّ يعتقد دعاته أن الماضي (الفردوس المفقود), هو المنطلق الوجودي والمعرفي لكل ما هو تالٍ. وبالتالي كل جديد يحمل معطيات الحداثة التي يقرها تطور الإنسان وحياته, هو خروج عن علم الفردوس. فالتيار السلفي في الإسلام على سبيل المثال لا الحصر هو التيار الذي اعتبر ما مارسه وفكر به الرسول والصحابة والتابعون وتابعوا التابعين في القرون الهجرية الثلاثة الأولى, هو المنطلق الوجودي والعرفي للمسلمين. وعلى هذا الأساس تأتي مسألة الفرقة الناجية وتكفير المختلف مذهبياً أو طائفياً. وتحضر بكل قوة وحيويّة مقولة: كل جديد بدعة, وكل بدعة ضلالة, وكل ضلالة في النار.
كهف السلفيّة المعاصرة: فهي سلفيّة وضعيّة يعتقد دعاتها أن مجتمع ما أو حكومة ما أو نظام إنتاج ما وعلاقاته, أو مرحلة تاريخيّة ما من مراحل التاريخ, هي نهاية التاريخ وحدوده القصوى. فعندما اعتبر “فوكو ياما” المرحلة الرأسماليّة في صيغتها الاحتكاريّة ممثلة بالنظام العالميّ الجديد هي نهاية التاريخ, فهو يقوم هنا بإلغاء كل ما يأتي بعدها, وأن مسيرة التاريخ السالفة في سيرورتها وصيرورتها كانت تهدف الوصول إلى مرحلة النهاية بالنسبة لحياة البشريّة. وعليهم القبول بها والسير على هديها.. فمن ليس معنا فهو ضدنا. وهنا يلغى الآخر المختلف ويجب أن يقصى من التاريخ.
إن السلفيّة بكل اتجاهاتها هي موقف معاند لحركة التاريخ في سيرورته وصيرورته. فالمسيرة التاريخيّة لحياة الإنسان تقف عند حدود معينة وعلى الإنسان الرضوخ والاستسلام لها. وهذا يخالف منطق التاريخ العياني الذي يثبت يومياً حركة التاريخ البشري وتطوره وتبدل أجزاء منه. وهنا نقف امام مقولة “هيراقليطس” العقلانية بكل دلالاتها: (كما أنك لا تستطيع أن تسبح في مياه النهر مرتين, فكذلك هي الحياة). نعم الحياة في حالة حركة دائمة وكل من يقول بأنها ستقف عند حد معين هو يعيش كهفه اللاعقلاني.
كهف الفلسفة المثاليّة:
أولاً:كهف الفلسفة المثاليّة الذاتيّة:
من ناحية نظريّة المعرفة (الإبستمولوجيا)، تظهر المثاليّة الذاتيّة بصفتها شكوكيّة بالنسبة لإمكانية معرفة أي شيء مستقل عن العقل. على نقيض الماديّة. فالفلسفة المثاليّة تشدّد على أسبقية الوعي على الواقع بصفته أصل الظواهر وشرط وجودها وإن الوعي أو العقل «أصل» العالم المادي. بمعنى أنه شرط ضروري لافتراضنا عالمًا ماديًا, وتهدف إلى شرح العالم الموجود وفقًا لهذه المبادئ.
فأفلاطون مثالي بتصوره عالماً عقليّاً قوامه أفكار بمثابة النماذج للموجودات الجزئيّة الماديّة التي في عالمنا المحسوس. والعالم العقليّ عنده هو الحق، أما العالم المحسوس فأشبه بالظلال.
وجورج بركلي مثاليّ بقوله أن حقيقة الشيء هي إدراك العقل له، وما لا يدركه العقل عدم.
وإيمانويل كانت مثالي حين جعل المقولات العقلية شرطا للمعرفة.
وهيغل مثالي حين قال أن حقيقة الكون روح مطلق يعبر عن نفسه في الوجود .
ثانياً: كهف الفلسفة المثاليّة الموضوعيّة:
إن المثاليّة الموضوعيّة هي اتجاه فكريّ فلسفيّ يقر بجود وعي موضوعيّ ما موجود من قبل, وبصورة أو بأخرى بشكل مستقل عن نظائره عند البشر. من ناحية علم الاجتماع، توضح المثاليّة الموضوعيّة كيف تشكل العالم ومنه عالم الإنسان.
فاللاهوتيون يعتقدون في قدرة الله.
هيجل يذكر بقدرة الروح المطلقة.
وشوبنهاور – بإرادة العالم.
إن الفلسفة المثالية في حقيقة أمرها, وخاصة المثالية الحديثة التي ظهرت مع منذ منتصف القرن التاسع عشر مع انتشار المد الاشتراكي ومقاومة العلاقات البرجوازية التي راحت تمارس قهرها على شعوبها وشعوب العالم, بدأت الفلسفة المثاليّة تظهر من جديد بتوجه مدروس لمقاومة التفكير النقدي العقلاني وحوامله الاجتماعية المقاومة للطبقة الرأسمالية. فكانت الكانتيّة الجديدة, والحدسيّة, والوجوديّة, والوضعيّة الجديدة وغيرها من التيارات الفلسفية التي أفرزها عالم ما بعد الحداثة, وكلها تيارات تعمل على إلغاء العقل, ودرور الكتلة الاجتماعية, والتركيز على الفردية وعالمها الكهفي الذي سنيبن بعد قليل بعض تجلياته في السرياليّة والوجوديّة.
كهف الفن والأدب:
لقد تجلى عالم الكهف هنا في السورياليّة والوجوديّة بشكل خاص. فكلاهما مدرستان فلسفيتان نظر دعاتهما إلى واقع مكبوت في داخل النفس البشريّة، ولا بد من تحرير هذا الواقع وإطلاق مكبوته وتسجيله في الأدب والفن. وهما تسعيان إلى إدخال علاقات جديدة ومضامين غير مستقاة من الواقع التقليديّ في الأعمال الأدبيّة والفنيّة. وهذه المضامين تستمد من الأحلام؛ سواء في اليقظة أو المنام، ومن تداعي الخواطر الذي لا يخضع لمنطق السبب والنتيجة، ومن هواجس التخيل من عالمي الوعي واللاوعي على السواء. وبالتالي هي تعمل على الحد من تدخل العقلانيّة أو الوعي البشريّ في أعمال الأدباء والفنانين, على اعتبار العقل عندهم يعمل على ضغط و تحجيم خيال الإنسان، مما يجعله عاجزاً عن الإبداع و التعبير دون حدود.
يعاني أصحاب هذه التوجهات الفلسفيّة التي تصب في تيار (المثاليّة) من إحساس أليم بالضيق، والقلق، واليأس، والشعور بالسقوط والإحباط كما أشرنا قبل قليل. لذلك هم لا يمنحون شيئًا, يساعد على التمسك بالقيم الإنسانيّة, وضرورة العمل على تحقيق سعادة الإنسان الفرد والمجتمع من خلال تغيير علاقات الواقع القائمة على القهر والظلم والاستغلال والاستعباد والتفاوت الطبقي. بل هم يجردون الإنسان من قيمه الجمعيّة وبالتالي قدراته على تغيير الواقع من خلال تغيير علاقاته الاجتماعيّة, كونها تعتبر الإنسان قد أُلقي به هكذا جزافاً في هذا العالم, وسط مخاطر تؤدي به إلى الفَناء، ورغم كل ما أعطَوه للإنسان الفرد من حريّة ومسؤوليّة عن أفعاله, فإن فكرهم ظل يتسم بالانطوائيّة الاجتماعيّة والانهزاميّة في مواجهة المشكلات المتنوعة التي تحيط بالإنسان, والتي دفعته أصلاً إلى هذه الحالات من الانطواء والتفرد والتشيء والاستلاب والقهر والظلم.
علاقة أهل الكهف بالزمان والمكان:
كهف الزمان : فالزمن عند هؤلاء ليس تاريخيّاً مشبعاً بالحوادث التي يقوم بها الناس أنفسهم, بل هو زمن مجرد من تاريخيته الملموسة.. هو زمن اللحظة الذي يغيب فيه دور الإنسان, ليجد نفسه مسيراً لا مخيراً, هو زمن “كن فيكن”, وليس زمن الفعل والنشاط والتفكير الإنسانيّ. وهنا تكمن روح الجبر الذي يدفع الإنسان إلى كهف الاستسلام والوثوق والرضا بما يصيبه.
كهف المكان: فالمكان أرض لله, وأرضه واسعة, وعليه أن لا يتشبث بها ويدافع عنها عندما يتعرص لظلم الحاكم وقهره, (و”الذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة” (النحل 41 ). وهنا نجد غياب فاضح للمواطنة, فَالْمُلْكُ ليس للإنسان والأرض ليست له, ومع غياب المواطنة يغيب الوطن ومكانته, ويعاث به فساداً من قبل الساسة الظالمين وحاشيتهم. وبالتالي يغيب الإنسان ذاته, وهو جوهر الوطن.
كهف السياسة, الكاريزما أنموذجاً:
هي سلطة فرد يمتاز بمجموعة خصائص إنسانيّة إن كانت هذه الخصائص وهميّة أم حقيقيّة, وهذه الصفات هي من يمنح الحاكم الكاريزما القدرة التي يعتقد بها الأفراد في المجتمع وتأهله لمرحلة التقديس, وقد تكون هذه الصفات روحيّة أو ثقافيّة أو عسكريّة أو علميّة أو فنيّة.
يقول ماكس فيبر: طالما أن هذا النوع من سلطة الكاريزما لا يستند إلى قواعد متفق عليها سواء عن طريق عقلانيّ أو تقليديّ, وإنما يعتمد على الزعامة المطلقة وصفات الحاكم الخارقة, لذلك فإن هذا النوع من السلطة لا يتصف بالعقلانيّة, وبالتالي فإن شرعيتها تسقط مع سقوط أو انهيار سلطة الحاكم الكاريزما نفسه.
علينا أن لا ننكر دور الفرد في التاريخ وبناء حياة الدولة والمجتمع عندما يكون هذا الفرد المتميز في مواقع السلطة, ولكن ليس الفرد السوبرمان.. فرد نيتشه الذي يقود إلى عالم النازية والفاشية, بل الفرد الذي يؤمن بقضايا شعبه, ويومن بالشعب ومكانته وما يقرره لحياته في السياسة والاقتصاد والمجتمع والمثالية. أي الفرد الذي يؤمن بالعلمانية والديمقراطية ودولة القانون والمؤسسات والمواطنة والثقافية العقلانية التنويرة.. أي بالفرد الذي يعمل من اجل الدولة المدنيّة
كاتب وباحث من سوريّة