توقيع معاهدة “السلم والصداقة” يوم 15 يوليوز 1786

كان المبعوث الأمريكي توماس باركلي، القادم من فرنسا حيث كان قنصلا لبلاده بها، قد التزم بذات الإستراتيجية الأمريكية المتمثلة في إشراك طرف أروبي في أي اتصال مع المغرب ومع ولايات الجنوب المتوسطي العثمانية (الجزائر، تونس، طرابلس)، حيث توجه بداية صوب العاصمة الإسبانية مدريد، التي وضع رئيس حكومتها فلوريدا بلانكا في صورة مهمته التي كلفته حكومة بلاده للقيام بها في مراكش. فتم تسليمه رسالة من ملك إسبانيا حينها، سنة 1786، كارلوس الثالث موجهة إلى السلطان سيدي محمد بن عبد الله توصيه خيرا بالمبعوث الأمريكي وتعلي من أهمية عقد صلح مع بلاده. بالتالي، فقد غادر توماس باركلي ميناء قاديس بالجنوب الإسباني يوم 27 ماي 1786، متوجها صوب ميناء مدينة طنجة، ومنها سيتم بعثه مع حراسة خاصة من ممثل دار المخزن بها صوب مدينة مراكش حيث يتواجد السلطان، التي وصلها يوم 19 يونيو 1786، واستقبله سيدي محمد بن عبد الله أسبوعا بعد وصوله إلى مدينة يوسف بن تاشفين، ليكلف المسؤول المغربي في بلاطه الطاهر فنيش السلاوي بمباشرة المفاوضات مع المبعوث الأمريكي، التي دامت ثلاثة أسابيع، انتهت بالتوقيع على أول اتفاقية “سلم وصداقة” بين المغرب والدولة الجديدة الولايات المتحدة الأمريكية، متضمنة 25 فصلا، ممتدة على خمسين سنة قابلة للتجديد من الطرفين، وهو التوقيع الذي تم يوم 15 يوليوز 1786 (سيصادق عليها الكونغرس الأمريكي شهورا بعد ذلك في بداية سنة 1787). وقعها عن الجانب المغربي، كما هو متبث في نسختيها الأصليتين العربية والإنجليزية، الطاهر فنيش وعن الجانب الأمريكي توماس باركلي. باركلي الذي سيتقرر تعيينه خمس سنوات بعد ذلك، في سنة 1791، أول قنصل عام لواشنطن بالمغرب، لكن اضطراب الأحوال السياسية بعد وفاة سيدي محمد بن عبد الله سنة 1790، وتولي المولى اليزيد الحكم، قد أخر تنفيذ ذلك التعيين، حيث بقي بالجنوب الإسباني مدة طويلة في انتظار تيسر الأمور للعبور إلى الضفة المغربية، إلى أن توفي بها يوم 19 يناير 1793، دون أن يلتحق أبدا بطنجة ليمارس فيها مهمته الديبلوماسية المكلف بها (المرجع كتاب “العلاقات المغربية الأمريكية” للأستاذ محمد بنهاشم).

بالعودة إلى أرشيف مكتبة الكونغرس الأمريكية اليوم، في موقعها الرسمي على شبكة الأنترنيت، نجد ضمن خانة “المعاهدات والإتفاقيات الدولية للولايات المتحدة الأمريكية”، ترتيبا مدققا لكل المعاهدات والإتفاقيات الدولية لواشنطن (كل على حدة) منذ سنة 1776 ميلادية، ضمنها تلك المبرمة مع المملكة المغربية. في مقدمتها معاهدة 1786 والإتفاقية التعديلية لسنة 1836، واتفاقية إنشاء منار رأس سبارتيل بطنجة سنة 1864 وغيرها كثير. ولعل أهم ملاحظة يخرج بها المطلع على معاهدة 1786 المغربية الأمريكية، في ترجمتها الفرنسية، هو أنه يغلب عليها الطابع العام الذي يميز أي معاهدة تأسيسية أولى لترسيم العلاقات بين بلدين وحكومتين، حيث تشكل البنية اللغوية لفصولها مجالا لتحديد آليات تنظيم تلك العلاقة مؤسساتيا وديبلوماسيا، وكذا تحديد آليات التعاون سواء السياسية أو الأمنية أو التجارية، دون أن تغرق في التفاصيل الدقيقة لملف بعينه. بل هي في غالبيتها شكل من أشكال ترسيم سقف التعاون والإلتزام بين البلدين. وأن ذلك السقف يشمل الآلية الديبلوماسية وشكل ترجمتها على أرض الواقع من قبيل فتح السفارات والقنصليات ومجالات تواجدها وأدوارها بما فيها الشق القضائي.

لكن أهم ما جاء في أول معاهدة للصداقة المغربية الأمريكية تلك الموقعة في 15 يوليوز 1786، هو تنصيصها على اعتبار دولة الولايات المتحدة الأمريكية تحظى بصفة “الدولة ذات الإمتياز” مغربيا، مما جعل المدخل المغربي بالنسبة لكل ما هو أمريكي (أمني أو تجاري) بوابة راسخة وآمنة للإنفتاح على جنوب المتوسط وعلى الصحراء الكبرى. وأن لها الحق في اختيار من تراهم مناسبين لمصالحها من ممثلين تجاريين مغاربة وتراجمة (أغلبهم من التجار اليهود المغاربة أو من جبل طارق)، وأنه لا يجوز تحديد أنواع التجارة المسموح بممارستها عدا تلك التي تتعارض والمصالح التجارية الحيوية للمغرب على مستوى التصدير (القمح والشعير أساسا). علما أن من أهم واردات التجارة الأمريكية، عبر سفنها التجارية الخاصة والجديدة، ذات الإستقلال عن الرايات الأروبية سواء البريطانية أو الإسبانية أو الفرنسية، والتي لم يكن سهلا السماح لها بالولوج إلى الفضاء المتوسطي حينها، يتمثل في مواد القمح والسمك وشمع النحل والأخشاب والقطاني والأرز والبصل والعنب وقصب السكر (فيما كانت أغلب صادرات المغرب إلى السوق الأمريكية عبر ذات السفن، تتمثل في ريش النعام، الملح الأبيض والملح الأحمر، الزيوت ومشتقاتها والجلود).

إن أهم ملاحظة تسجلها كل المراجع التي اشتغلت على أشكال تأسيس العلاقات الديبلوماسية بين واشنطن والفضاء المتوسطي الجنوبي، هو أن المملكة المغربية لم تنافح كثيرا في مسألة الإتاوات والتعويضات المالية لقبول توقيع معاهدة 15 يوليوز 1786، مقارنة مع ما تم مع “داي الجزائر” أو “باي تونس” أو “باشا طرابلس”، عشر سنوات بعد ذلك. لأنه بالمقارنة بين الأرقام المسجلة والموثقة في الأرشيفات الأمريكية، فإن الإتاوة المقدمة إلى المغرب لم تتجاوز 5 آلاف دولار، فيما بلغت تلك الإتاوة في الإتفاق مع “داي الجزائر” 642 ألف دولار، وفي الإتفاقية مع “باشا طرابلس” 56 ألف دولار، وفي الإتفاقية مع “باي تونس” 107 آلاف دولار. مما يجد تفسيره، في أن سلطان المغرب كونه هو المبادر إلى الإعتراف باستقلال الولايات المتحدة وإلى ترسيم العلاقات معها عبر معاهدة (وليس اتفاقية)، كان يضع الأمر ضمن أفق استراتيجي للإنفتاح على سوق جديدة ودولة جديدة لا تمارس ذات الضغوط والشروط التي تمارسها دول مثل بريطانيا وإسبانيا وفرنسا. أي ما يوصف في العلاقات الدولية اليوم ب “تنويع الشركاء”. بالتالي فإن الغاية كانت سياسية بالأساس. وسيجد ذلك صداه في الرسائل المتبادلة بين السلطان سيدي محمد بن عبد الله وأول رئيس للولايات المتحدة الأمريكية جورج واشنطن، الذي أرسل خطابا إلى السلطان المغربي مباشرة بعد تعيينه رئيسا في أبريل 1789، يقدم له فيه شكر الأمريكيين على توسط المغرب لفائدة مبعوثي بلاده إلى كل حكام الإيالات العثمانية بشمال إفريقيا بغاية توقيع اتفاقيات تعاون معها بعد ارتفاع هجومات القراصنة من موانئ تلك الإيالات خاصة من ميناء الجزائر وميناء طرابلس. معددا له فوائد التجارة مع بلده أمريكا الغنية فلاحيا، واعدا إياه أنه سيظل صديقا وفيا له وللمغرب الذي يقدر له تشجيعه للتجارة الأمريكية في الموانئ المغربية، ومستعرضا أيضا متاعب التأسيس الإداري ببلاده الحديثة العهد بالإستقلال. فيما كان السلطان سيدي محمد بن عبد الله قد بعث رسالة إلى القيادة الأمريكية، مباشرة بعد توقيع معاهدة “السلم والصداقة” مع المبعوث الأمريكي توماس باركلي، مما جاء فيها بالحرف، كما وردت في كتاب “التاريخ الديبلوماسي للمغرب” للمؤرخ والأستاذ عبد الهادي التازي رحمه الله: “إلى كبير الإصطادوس الماريكانوس البريزضنت، السلام على من اتبع الهدى، أما بعد. فقد وصلنا كاتبك طوماس بركلي وبيده كتابك وكتاب عظيم إسبانيا كارلوس، فقرأناهما وعرفنا ما فيهما من طلبكم الصلح معنا، مثل أجناس النصارى المصالحين معنا. فقد قبلنا ذلك وجعلنا بيننا وبينكم الصلح والمهادنة برا وبحرا على الشروط التي طلبتم منا، فقبلناها وأثبتناها في الدفتر ووضعنا عليها طابعنا الشريف. وأمرنا جميع خدامنا الذين بمراسينا أن مراكبكم وتجارتكم التي ترد لمراسينا يفعل معهم عمالنا مثل ما يفعلونه مع الأصبنيول على الأمن والأمان معكم وعلى المعاهدة والصلح التامين. والسلام”.

بعد وفاة السلطان سيدي محمد بن عبد الله سنة 1790، في طريقه من مراكش إلى الرباط (بمنطقة عين عودة)، سينعيه المحرر الرئيسي للدستور الأمريكي توماس جيفرسون (وثالث رئيس للولايات المتحدة الأمريكية ما بين سنوات 1801 و 1809) أمام الكونغرس الأمريكي، مشددا على ضرورة الحرص على حماية استمرار تنفيذ معاهدة السلم والصداقة مع خلفه في الحكم، مبديا تخوفه من عودة تأثير القرصنة ضد السفن الأمريكية بشمال إفريقيا، بعد وفاة ذلك السلطان المغربي. وهي التخوفات التي ستتحقق فعليا على أرض الواقع طيلة العقد الأول من القرن 19. مما دفع لأول مرة الدولة الأمريكية الوليدة والجديدة، إلى أن تختار على عهد ثالث رؤسائها توماس جيفرسون (المعروف بتشدده وميله إلى الخيارات العسكرية)، إرسال سفن حربية إلى البحر الأبيض المتوسط، موجهة أساسا ضد القرصنة الليبية والجزائرية، مكونة من ستة سفن حربية هي التي ستشكل النواة الأولى لما أصبح يعرف اليوم في البحرية الأمريكية ب “الأسطول السادس”، الذي هو أسطول عسكري أمريكي متوسطي في المقام الأول.

(6)

دور المغرب في الحرب الأهلية الأمريكية سنة 1862

إذا كانت العلاقات المغربية الأمريكية قد ولدت ضمن حسابات عالم القرن 18، متوسطيا وأطلسيا، فإنها ستعيش كل تقلبات القرن 19، سواء في بعدها الشمال إفريقي أو المتوسطي أو الأطلسي. ذلك أنه منذ بداية سنة 1800 ميلادية، سيشهد العالم بداية انقلاب (انعطافة) في ترتيب المصالح بين القوى الكبرى الصاعدة المتحكمة في الثورة التكنولوجية الصناعية لذلك القرن، والمتحكمة في نظام السوق العالمي ومنظومة التجارة العالمية عبر البحار. مثلما أنها مرحلة تدشين اتساع المسافة بين سرعة تطور الشمال وسرعة تبعية الجنوب له، الذي من ضمنه المغرب.

كانت البداية مغربيا، قد دشنت عمليا مع وفاة السلطان سيدي محمد بن عبد الله سنة 1790، التي وضعت تداعيات الصراع على الحكم بعده بين ابنيه اليزيد وهشام خلال سنوات 1790 و 1792، نقطة النهاية لمشروعه الإنفتاحي على التجارة الخارجية عبر البحر ومحاولات التحديث العسكرية والجمركية والمينائية. ذلك أن السلطان الذي جاء بعده، مولاي اليزيد بن محمد الثالث، قد كان أصلا معارضا لوالده في حياته ومتمردا عليه لسنوات، التجئ في نهايتها إلى ضريح مولاي عبد السلام بن مشيش (شيخ جبالة) للإحتماء به، وأنه مباشرة بعد وفاة والده سيدي محمد بن عبد الله سينزل إلى فاس معززا ببيعة أهل الشمال لينال قيادة البلاد، مستندا على منهجية تعتمد العنف في الحكم (ضد كل ما هو إسباني وضد كل ما هو يهودي). فقد كانت خطته تعتمد أساسا التصعيد ضد كل ما هو أجنبي على مستوى التفاوض وتنظيم المصالح والعلاقات، متأثرا بما جاء به من أفكار وهابية متشددة خلال سنوات نفيه من قبل والده إلى الحجاز بشبه الجزيرة العربية. قبل أن تطاله رصاصة طائشة في إحدى معاركه ضد أخيه هشام بن محمد بضواحي مراكش أصابته في وجهه، كانت السبب في وفاته سنة 1792. وكانت النتيجة أن دخل المغرب في فوضى سياسية وتدبيرية لسنوات، قبل أن يتولى الحكم أخوه مولاي سليمان سنة 1795، حيث تطلبت منه تلك الفوضى سنوات من أجل إعادة ترتيب النظام، بفاتورة مالية وعسكرية كبيرة، من خلال مواجهات عنيفة مع قبائل الأطلس المتوسط وقبائل الجنوب عموما، التي كانت بعض أسلحتها أمريكية تدخل عبر ميناءي آسفي والجديدة.

بالتالي، فإنه حين كان المغرب غارقا في تلك الفوضى السياسية الداخلية، أصبحت علاقاته الخارجية شبه مجمدة، أو بتعبير أدق أصبحت “مبلقنة ومخترقة” حسب الموانئ ونفوذ كل قوة أروبية أو أمريكية فيها. بل إن السلطان المغربي الجديد، مولاي سليمان سيتبع منهجا حمائيا، إنغلاقيا في الحكم، أمام السوق الخارجية كنوع من رد الفعل لتحصين نظامه السياسي من الإختراقات الأجنبية، وكذا بسبب تخوفه من احتمال تعرض المغرب لما تعرضت له مصر من احتلال مع حملة نابليون بونابارت عليها وعلى فلسطين سنوات 1798 و 1801. دون إغفال تداعيات الطاعون الكبير لسنوات  1799 و 1801، الذي دخل المغرب مع الحجاج العائدين من مصر عبر ميناء الإسكندرية، ولقد جرف الآلاف من المغاربة (كان معدل الوفيات اليومية بمدن فاس ومراكش كمثال يتجاوز 500 فردا)، مما أضعف الجيش، أيضا، بسبب ارتفاع عدد الإصابات بين الجنود.

بينما كان واقع العلاقات بين القوى الأروبية، خلال الثلاثين سنة بين 1800 و 1830، قد دخل مرحلة المواجهات العسكرية العنيفة لإعادة ترتيب المصالح وقوى النفوذ بين فرنسا الإمبراطورية (وحلفائها من الأروبيين) وبين الإمبراطورية النمساوية (وحلفائها من الأروبيين)، ثم بين باريس وبين الإمبراطورية البريطانية. ثم الحرب الأهلية الإسبانية الأولى سنوات 1820 و 1823. دون إغفال باقي الحروب المشتعلة بين تلك القوى الأروبية  في جغرافيات بعيدة خارج القارة الأروبية من أمريكا الشمالية حتى أستراليا. وكذا الحروب بينها وبين الإمبراطورية العثمانية وبين هذه الأخيرة والإمبراطورية الروسية. ما يجعل القارئ يخرج بخلاصة مركزية هي أن عالم القرن 19، منذ بدايته قد كان عالم الصراع العسكري العنيف بين مختلف القوى الصناعية والتجارية الأروبية لترتيب نفوذها على السوق العالمية.

ضمن هذا الإصطخاب العنيف لإعادة ترتيب المصالح بين القوى الغربية عالميا، كانت العلاقات المغربية الأمريكية، قد دخلت منعطفا جديدا، عنوانه الأبرز هو “التواؤم” مع الواقع العالمي الجديد هذا، بما يخدم مصلحة كل واحد منهما. وهي العلاقات التي تأطرت من خلال محطات كبرى، يمكن إجمالها في محورين هامين هما: تداعيات الحرب المتوسطية ضد القرصنة بكل من موانئ الجزائر وتونس وطرابلس، التي أصبحت واشنطن (بالتحالف مع السويد) طرفا محوريا فيها. ثم صدور ضوابط السياسة الخارجية الأمريكية الجديدة سنة 1823 التي قدمها الرئيس الأمريكي الخامس جيمس مونرو أمام الكونغرس بواشنطن، عرفت ب “مبادئ مونرو”، والتي ستحكم السياسة الخارجية الأمريكية مع العالم طيلة القرن 19 حتى بدايات القرن 20. مع إضافة تداعيات الحرب الأهلية الأمريكية ما بين سنوات 1861 و 1865. لأن المغرب على عهد السلاطين مولاي سليمان ومولاي عبد الرحمان ومحمد بن عبد الرحمان، قد تقاطع مع هذه التطورات كلها، التي كيفت بهذا الشكل أو ذاك علاقته الديبلوماسية مع دولة الولايات المتحدة الأمريكية.

كانت واشنطن تسعى، من جهتها (خاصة من خلال مبادئ مونرو، التي تقول بالإلتزام بعدم الإستعمار وبعدم التدخل) إلى إعادة ترسيم لخريطة مصالحها الحيوية في علاقة مع القوى الأروبية التي كانت تستعمرها من قبل، في مقدمتها بريطانيا العظمى، من خلال ترسيم واقع علائقي مصلحي يقوم على أساس لجم أي طموح لها ضمن مجالات النفوذ الأروبية بالمتوسط وفي المحيط الهادئ وفي المحيط الأطلسي، في مقابل أن لا تعود القوى الأروبية الكبرى تلك إلى مجال النفوذ الأمريكي سواء في شمال القارة أو جنوبها.

بالتالي، فإن المغرب قد تقاطع مع الحسابات الأمريكية هذه، خلال القرن 19، من خلال ملفين كبيرين هما الحرب الأمريكية الليبية (التي وضعت عمليا نقطة النهاية للقرصنة بالبحر الأبيض المتوسط وأغلقت مصدرا ماليا مهما لإيالاتها العثمانية الثلاث)، ثم الحرب الأهلية الأمريكية. حيث إنه في الحرب الأمريكية السويدية ضد باشا طرابلس ما بين 1801 و 1805، فرضت واشنطن حصارا شاملا على ميناء المدينة، مما جعل الباشا العثماني بها “يوسف قرة مانلي”، يبادر إلى مكاتبة السلطان المغربي مولاي سليمان يطلب منه الغوت ودعمه بالقمح والشعير والسلاح. وهو الطلب الذي تجاوب معه السلطان المغربي في رسالة مما جاء فيها: “هيهات أن ندع إعانتكم أو نبدي في ذلك عذرا”، حيث أرسل إليه سفينة محملة بالقمح والسلاح، لم تسمح القوات الأمريكية السويدية بوصولها إلى هدفها. بل إن واشنطن ستصعد من موقفها تجاه المغرب من خلال قرارها أسر سفينتين مغربيتين بطواقمهما من قبل النواة الأولى للأسطول السادس الأمريكي بالمتوسط، مما عجل بالدخول في مفاوضات مباشرة بين القائد العسكري الأمريكي لذلك الأسطول والسلطان المغربي مولاي سليمان، الذي حل خصيصا بطنجة من أجل إيجاد حل للأزمة المغربية الأمريكية، انتهت بإعادة تفعيل معاهدة 1786، من خلال الإلتزام ب: عدم الإعتداء على أي سفينة أمريكية تجارية أو عسكرية/ الحياد المغربي في الأزمة الليبية/ تحرير سفينة أمريكية محتجزة بميناء الصويرة. علما أنه سبق وأن كلف الرئيس الأمريكي توماس جيفرسون، سنوات قبل ذلك، قنصل بلاده بجبل طارق جيمس سيمسون في ماي 1795 بالتوجه إلى المغرب للقاء السلطان مولاي سليمان لتجديد المعاهدة التي وقعت مع والده معه، وهو الأمر الذي تجاوب معه ذلك السلطان المغربي وأرسل رسالة تأكيدية إلى الرئيس الأمريكي.

لحظة ثانية مهمة في العلاقات المغربية الأمريكية، ستشهدها سنة 1862، زمن الحرب الأهلية الأمريكية، حيث رست سفينة إسمها “سامتر” بميناء طنجة تابعة للقوات الجنوبية الأمريكية، المناهضة للقوات الفدرالية الشمالية، بعد أن أغرقت سفينتين لتلك القوات بالبحر المتوسط. فتدخل القنصل الأمريكي بطنجة “براون” ليطلب من السلطات المغربية احتجاز تلك السفينة الجنوبية وطاقمها بتهمة أنهم قراصنة ومرتزقة، فتجاوب نائب السلطان مع طلبه، مما خلق ردود فعل ديبلوماسية كبيرة من قبل بريطانيا وفرنسا، دفعت في تجاه تدويل الحادث، الذي انتهى بترحيل كل طاقم السفينة في حالة اعتقال إلى سفينة من قوات الشمال الفيدرالية ونقلهم إلى ميناء بوسطن ومحاكمتهم هناك. مما عزز بقوة من علاقة المغرب مع من يمثلون الشرعية السياسية في تلك الحرب الأهلية الأمريكية، أي قوات الشمال، التي ستنتصر في نهاية المطاف وتعيد توحيد الولايات الأمريكية على عهد رئيسها الأشهر أبراهام لينكولن (الذي بعث السلطان محمد الرابع رسالة تعزية بعد مقتله إلى واشنطن). خاصة بعد أن تم تجديد معاهدة “السلم والصداقة” سنة 1836 مع السلطان مولاي عبد الرحمان، التي سرب السفير البريطاني الأشهر بالمغرب دارموند هاي بخصوصها معلومات تفيد بأن المغرب قرر منح واشنطن مركزا بحريا على البحر الأبيض المتوسط بالقصر الصغير، مما أغضب لندن وباريس التي أرسلت 4 سفن حربية إلى طنجة في رسالة عدوانية على أنها ترفض ذلك، وتعتبره إعلان حرب.

‫شاهد أيضًا‬

عمر بن جلون: القضية الفلسطينية ومواقف أُطُرنا * ترجمة : سعيد بوخليط

فقط مع الحالة الفلسطينية،شَغَلَ الالتباس الإيديولوجي أهمية أولية،وترتَّبت عن ذلك نتائج في …