كيف كان المغرب سنة اعترافه بالولايات المتحدة الأمريكية كدولة مستقلة؟ وما موقعه ضمن فضائه العربي والإسلامي والإفريقي والمتوسطي وضمن النظام العالمي للقرن 18؟. ذلك أنه لا يمكن تمثل قيمة ومعنى أن تكون المملكة المغربية أول دولة في العالم تعترف باستقلال الولايات المتحدة الأمريكية (بولاياتها 13 حينها)، بدون تمثل السياق العام المحيط بنا كمغاربة حينها.

كان المغرب قد دخل منذ سنة 1757 ميلادية، تاريخ تولي السلطان سيدي محمد بن عبد الله (محمد الثالث) الحكم، ما يمكن وصفه بمرحلة التعافي من الفوضى السياسية والتدبيرية التي كبلت كامل الجغرافية المغربية منذ وفاة السلطان القوي مولاي اسماعيل سنة 1727 ميلادية، بسبب تداعيات الصراع على الحكم من قبل عدد من أبنائه، دام 30 سنة. وهي المرحلة التي تزامنت مع بروز قوى دولية جديدة، متحكمة في البحار، مثل بريطانيا العظمى التي شرعت في بسط سيطرتها على المحيط الهادئ، خاصة شبه الجزيرة الهندية منذ إنشاء شركة الهند الشرقية الإنجليزية سنوات 1601 و 1612، والذي سيتوج سنة 1774 بإصدار مجلس العموم البريطاني لما عرف ب “قانون التنظيم” الذي خول لها، بعد معارك هنا وهناك على امتداد سنوات، من وضع اليد مباشرة على كبريات الموانئ الهندية ومدنها خاصة بومباي ومدراس ودلهي. مثلما عززت من موقعها العسكري والتجاري بأروبا وبالبحر الأبيض المتوسط، حين احتلت جبل طارق الإستراتيجي سنة 1704. حيث شهدت المنطقة القريبة تلك من المغرب، على بعد 14 كلمترا فقط من شواطئه الشمالية بين تطوان وطنجة، مواجهات عنيفة بين الإنجليز وبين الإسبان المدعومين من فرنسا، لاستعادة تلك الصخرة من بريطانيا العظمى، كان من أهمها مواجهات سنة 1779 التي امتدت لثلاث سنوات، كان يسمع صدى مدفعيتها في الضفة المغربية، دون أن تفلح لا إسبانيا ولا فرنسا في إخراج البريطانيين من تلك الصخرة الإستراتيجية ومينائها الحيوي. ولقد توازى ذلك مع الحرب الأخرى بين ثلاثتهم في القارة الأمريكية الشمالية (التي سبقت الإشارة إليها في ما سبق) ما بين سنوات 1756 و 1763 التي عرفت بحرب السبع سنوات. وهي حروب خرجت منها بريطانيا منتصرة على القوتين الفرنسية والإسبانية.

بالتوازي، كان عالم القرن 18 في ذات الفترة التاريخية يشهد اندلاع حرب أخرى في الشرق بين الإمبراطورية العثمانية والإمبراطورية الروسية، على عهد الإمبراطورة كاثرين الثانية، وهي حرب سنوات 1768 و 1774، التي كانت الغاية منها تحديد المتحكم في البحر الأسود والمضايق (خاصة مضيق جزيرة القرم ومضيق البوسفور)، وكان رد فعل سلطان المغرب سيدي محمد بن عبد الله هو قطع الإتصال مع روسيا ورفض استبقال سفارة لها أو قبول هدايا أرسلتها إليه الإمبراطورة الروسية تلك، تضامنا مع العثمانيين. فيما كانت باريس تعيش آخر سنوات الملكية على عهد الملك لويس السادس عشر وزوجته النمساوية الشهيرة ماري أنطوانيت، ما بين 1774 و 1789، قبل قيام الثورة الفرنسية التي دامت ما بين 1789 و 1793.

ففي هذا العالم، إذن، المصطخب بالحروب الكبرى بين القوى الأروبية الجديدة، خاصة بين البريطانيين والفرنسيين والإسبان، في جغرافيات متعددة عبر العالم من الهند حتى أمريكا الشمالية. وبين الإمبراطوريات القديمة (العثمانية والروسية)، والصراع للتحكم في مضايق البحار مثل جبل طارق، كان المغرب يستعيد قوة نظامه التدبيري السياسي داخليا، مع صعود الأمير سيدي محمد بن عبد الله بن إسماعيل إلى العرش وهو في 47 سنة من عمره، ليصبح السلطان محمد الثالث في الفترة ما بين 1757 و 1790. وهو السلطان الذي وجد أمامه واقع نظام عالمي يحكمه الصراع من أجل البحار ومن أجل التجارة ومن أجل التوسع لامتلاك أسواق جديدة عبر قارات العالم.

كان من حظ سيدي محمد بن عبد الله، أنه قد تم تأطيره سياسيا وتكوينيا ومعرفيا من قبل سيدة وازنة في تاريخ الدولة العلوية، هي جدته خناتة بنت بكار، التي لم تكن سيدة عادية في تاريخ الدولة العلوية وتاريخ المغرب خلال نهاية القرن 17 وبداية القرن 18 (توفيت سنة 1730). فهي واحدة من أهم زوجات السلطان المولى إسماعيل، التي تزوج بها أثناء انتقال محلته السلطانية صوب الجنوب المغربي، حيث جدد العهد والإتصال السلطاني والإداري والتنظيمي مع قبائل الصحراء وقبائل سوس، التي كان من بينها قبائل المغافرة الشنقيطيون من سلالة بني معقل، بزعامة الشيخ بكار المغافري الشنقيطي (الموريتاني)، سنة 1679 ميلادية. ولقد كتب عنها المؤرخ المغربي أحمد بن خالد الناصري في الجزء السادس من كتابه “الإستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى”، مما يجعلها علما كبيرا من أعلام الفكر والذكاء السياسي بالبلاط الإسماعيلي، مثلما كتب عنها عدد من الرحالة والديبلوماسيون الإنجليز والإسبان والهولنديون والفرنسيون. وأنه رغم ما عانته من محن بعد وفاة زوجها السلطان مولاي إسماعيل من قبل واحد من أبنائه، حيث تم تتريكها واعتقالها رفقة حفيدها سيدي محمد بن عبد الله (وعمره 13 سنة)، فإنها نجحت في أن تدفع بابنها مولاي عبد الله بن إسماعيل ليعتلي العرش أكثر من مرة، مثلما حرصت على التكوين الفكري والعلمي والتاريخي والسياسي لحفيدها سيدي محمد بن عبد الله (كانت قد أخذته معها إلى الحج).

بالتالي، فإنه حين اعتلى ذلك الأمير عرش المغرب سنة 1757، قادما من مراكش التي كان خليفة للسلطان بها، كان مستوعبا لدروس التاريخ، ولمعنى التجاذبات المصالحية في زمنه عالميا. بدليل رهانه منذ بدايات حكمه على عدم الإكتفاء بعاصمة ملك واحدة هي فاس، بل إنه من السلاطين الذي اعتبر كبريات المدن المغربية حينها كلها عواصم لملكه، مما جعله كثير التنقل لمباشرة سلطاته في الميدان. مثلما أنه باشر مهام قيادة العمليات العسكرية لتحرير كل المدن الشاطئية المغربية المحتلة، من محاصرته لمليلية حتى تحريره لمدينة “البريجة” من البرتغاليين سنة 1769 ميلادية وأطلق عليها إسم “الجديدة”. وانتبه لأهمية الإنفتاح على البحر وعلى التجارة العالمية، حيث حرص على إعادة تنظيم المراسي والموانئ، مثل ميناء الرباط النهري القديم، ومدينة الدار البيضاء (التي أعاد بناءها بالكامل) ومدينة العرائش (التي دحر عنها في معركة بحرية القوات الفرنسية)، ومدينة طنجة، وحاول استعادة سبتة لكنه أجل الحسم بخصوصها إلى حين الإستعداد البحري لها. وكان من أكبر موانئه التجارية يتمثل في بناء مدينة الصويرة وميناءها الجديد على الطريقة المتبعة في كبريات المدن الأروبية، حيث نجده يقرر تكليف مهندس معماري فرنسي هو المهندس ثيودور كورني سنة 1760 ميلادية لتنفيذ تلك المهمة، فأصبح مينائها لأكثر من قرن ونصف أكبر الموانئ التجارية بالمغرب.

كان لذلك السلطان المتميز، رؤية استراتيجية في ممارسة الحكم، تقتضي ليس فقط الإنفتاح على البحر وعلى السوق العالمية، بل أيضا التوفر على الوسائل ليكون ذلك الإنفتاح من موقع قوة، حيث نجده يراهن كثيرا على امتلاك أسطول بحري جديد ومتقدم من السفن الشراعية الضخمة والكبيرة، وإنشائه معملا لصناعة السفن وتجديدها وإصلاحها على ضفة نهر أبي رقراق، مباشرة جنوب صومعة حسان. حيث نجد تفاصيل عن ذلك في الجزء السابع من كتاب “الإستقصا” للناصري (الصفحات 94 و 95)، تخبرنا أنه قد اعتنى ب “المراكب القرصانية” أي السفن الحربية، التي بلغ عددها في عهده 20 سفينة حربية “كبارا من المربع”، وهي سفن حربية برتغالية في الأصل تتميز بقوتها في المناورة، وهي سفن شراعية سريعة وضخمة تصل ما بين 150 و 180 طنا، ولها قدرة حمولة تصل إلى 135 طنا، و 30 من “الفراكط” و “الغلائط” (هي الفرقاطات وسفن التدريب والحراسة في البحر الصغيرة). فيما بلغ عدد “رؤساء البحر” في عهده (مرتبة الأميرال الحالية) 60 رئيسا كلها بمراكبها الخاصة وبحريتها. وبلغ عدد البحارة العسكريون 4 آلاف، والطبجيون (المتخصصون في المدافع) ألفين. وكان من أشهر رؤساء البحر في عهده، الذين ذاع صيتهم خارج المغرب، نجد الحاج الهاشمي عواد وابنه الحاج الطاهر عواد (من سلا)، التهامي المدور، محمد العربي المستيري (من الرباط)، علي لوباريس، علي الصابنجي، الهاشمي كوار، قدور الشايب عينو وغيرهم. ولقد كانت تلك السفن المغربية (الحربية والتجارية الشراعية القوية والضخمة)، تصل حتى الدول الإسكندنافية شمالا وجزر الخالدات وخليج غينيا جنوبا وجزر الآسور غربا وطرابلس بليبيا شرقا.

ذلك كان هو المغرب الذي اعترف باستقلال الولايات الأمريكية سنة 1777، حتى قبل الإعتراف العالمي بها سنة 1783 بعد اتفاقية السلام بفيرساي بباريس بين التاج البريطاني وممثلي الولايات 13 الأمريكية. وكان قرارا سياديا مستقلا بكل المقايييس، يستحضر في المقام الأول المصالح التجارية للمغرب.

(4)

سفن أمريكية

يوم أسر المغرب السفينة الأمريكية “بيتسي” وطاقمها سنة 1785

سبق وقلنا، إنه لا يمكن تمثل سياق اعتراف المغرب باستقلال الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1777، بدون استيعاب للواقع المحيط بهما معا كدولتين في نهاية القرن 18، واحدة وليدة جديدة، والأخرى قديمة وعريقة. ولعل المثير في ما سجلته مختلف المصادر التاريخية، المشتغلة على أرشيفات المغرب وأمريكا (على قلة تلك الدراسات مقارنة بواقع الحال مع أرشيفات العلاقات المغربية الفرنسية أو الإسبانية أو البريطانية أو البروسية الألمانية والعثمانية)، أنه في قصة ميلاد تلك العلاقة بين الدولتين، كان المغرب هو المبادر لربط الصلة بالدولة الجديدة، رغم ما كان يكلفه ذلك من ثمن في علاقاته السياسية والتجارية والأمنية مع خصوم الولايات المتحدة الكبار آنذاك، الذين كانوا في حروب مفتوحة معها لسنوات، مثل بريطانيا العظمى وإسبانيا وبدرجة أقل فرنسا. وأن نخبة الولايات 13 الأمريكية الوليدة تلك حينها لم تتجاوب بسرعة مع ما يمكن وصفه باليد الممدودة من بلد عربي إفريقي من جنوب المتوسط.

 واقعة عدم التجاوب المثيرة تلك، تجد تفسيرها في أسباب مركبة عدة، لعل أهمها جدة النظام السياسي هناك بشرق أمريكا الشمالية، الذي لم يكن يتوفر على الإمكانيات المالية واللوجيستية والبشرية لممارسة دور ديبلوماسي واسع خارج المجال التقليدي الأروبي. ثم حرصه على عدم الإنجرار وراء ما قد يعتبره تورطا في مجالات جغرافية يتحقق فيها أصلا نفوذ القوى الأروبية الغربية الرائدة حينها، سياسيا وتجاريا وبحريا، وأنها أسواق لن يسمح لها من قبل تلك القوى الغربية بالولوج إليها. لأنه سيكون لذلك الإنجرار فاتورة على استقلاله الطري، وكذا على ماليته غير الكبيرة، وعلى أسطوله التجاري والحربي غير المتقدم ولا الكبير حينها. لهذا السبب تأخر الرد الأمريكي تقريبا عقدا من الزمن، قبل أن تفتح باب للتفاوض مع المغرب من أجل ترسيم العلاقات معه سنة 1786، بعد قرار الكونغرس الأمريكي في فبراير 1785 تعيين مبعوثين للتفاوض لعقد اتفاقيات مع المغرب ومع ولات الجزائر وتونس وليبيا العثمانيين وكذا مع الأستانة نفسها في إسطنبول (لا بد من تسجيل معطى تاريخي مهم هنا، هو أنه حين تم التوصل إلى تلك الإتفاقيات وكان أولها مع المغرب، فإن نصها الأصلي مغربيا قد كتب باللغتين العربية والإنجليزية، فيما نصوص الإتفاقيات، مع داي الجزائر وباي تونس قد كانت بالتركية والإنجليزية).

 كانت الخطة الأمريكية، قبل الدخول في تلك المفاوضات، تتمثل في إشراك وسيط أروبي، حتى يكون الدخول إلى المجال المتوسطي عبر واحدة من دوله، وليس في تنافس وتدافع معها. ولقد فشلت كل تلك المحاولات الأمريكية، حيث ماطلتها باريس، فيما أعلنت لها لندن بصريح العبارة في سنة 1783 أن ذلك المجال من ضمن منافع الأروبيين تجاريا وأمنيا وليس من ضمن مجال منافع الأمريكيين، فقررت واشنطن لأول مرة إنشاء لجنة وطنية محلية لها، خاصة بشمال إفريقيا والمتوسط (هي التي كانت منذ البداية تحرص بصرامة أن يكون المفاوض باسمها من الأمريكيين وأن يكون الأروبيون مجرد وسطاء وشهود)، تتكون من ثلاثة من كبار قادتها السياسيين هم جون آدامز (الذي سيصبح ثاني رئيس للولايات المتحدة الأمريكية بعد رئيسها الأول جورج واشنطن)، توماس جيفرسون (الذي سيصبح ثالث رئيس لها)، وبنيامين فرانكلين (أول سفير لها في باريس وممثلها الأول في كامل أروبا قبل توقيع معاهدة السلم مع بريطانيا بقصر فيرساي سنة 1783). حيث حددت مهمتها في بلورة آلية عملية للدخول في مفاوضات مع المغرب كبوابة للدخول إلى الفضاء المتوسطي الجنوبي، بغاية حماية السفن التجارية الأمريكية من التعرض المستمر للقرصنة المتعددة الجنسيات في المنطقة الأطلسية القريبة من المغرب والبرتغال وصولا حتى جزر الآصور (هنا كانت سفن القراصنة مغربية بدرجة أولى)، ثم في امتداد البحر الأبيض المتوسط من مضيق جبل طارق حتى الجزر اليونانية (هنا كانت سفن القراصنة مغربية وأيضا جزائرية وتونسية وليبية، تابعة لولات الجزائر وتونس وطرابلس الغرب العثمانيين). وهي القرصنة التي كانت تستهدف سفنها بصمت وتواطؤ أحيانا وتغاض في الغالب الأعم من السفن البريطانية والبرتغالية والهولندية والإسبانية.

 هنا، الإنتباه إلى أن تطور بناء الدولة بالولايات المتحدة الأمريكية، حينها، في نهاية القرن 18، قد مر بمراحل تدبيرية تراكمية شهدت مرحلتين كبيرتين، هما مرحلة ” المؤتمر الوطني القاري الأول” سنة 1774 الذي كانت التمثيلية فيه تتم بالإختيار والقرارات جماعية بالإتفاق، ثم مرحلة “المؤتمر الوطني القاري الثاني” ما بين سنوات 1775 حتى سنة 1781، التي بلورت مشروع دستور الدولة (الذي لا يزال ساريا إلى اليوم)، الذي دشن لما سبق وأسميته ب “الإختلاف الأمريكي”، حيث نظام الدولة فدرالي وأن السلطات محلية أكثر تدبيريا، وأن السلطة المركزية ليست ذات صلاحيات تدبيرية محلية كبيرة، وأنها حَكمٌ بين الولايات وأن سلطة القرار الأكبر هي في يد الكونغرس الذي ينتخب بطريقة مركبة مزدوجة بين الناخبين الصغار المحليين والناخبين الكبار في الولايات. وهو نظام دستوري معقد ومختلف (بإرادية منذ البداية) عن كل دساتير البلدان الأروبية الغربية، غايته حمائية في المقام الأول تحرص على عدم التورط في الحسابات الخارجية للدول الغربية حتى لا يفتح الباب لعودتها للتحكم في الداخل الأمريكي. ولا تزال هذه العقيدة السياسية قائمة إلى اليوم بواشنطن بهذه الدرجة أو تلك، لأن الشعار الراسخ من حينها، بسبب ظروف التأسيس، هو “أمريكا أولا” (دون إغفال أثر الإصطفاف المذهبي الديني بين الكاثوليكية الأروبية والبروتستانتية الكالفينية والإنجيلية الأمريكية، في خلفية المواقف هنا وهناك). مع التنبيه أنه حتى قرار اختيار العاصمة قد تم بتوافق بين الولايات 13 المؤسسة الأولى للدولة، بالشكل الذي يضمن أن لا تكون تلك العاصمة في أي من تلك الولايات 13، مما قد يقوي نفوذ نخبتها على حساب نخب باقي الولايات، فتقرر اختيار بقعة جغرافية محايدة أنشئت فيها العاصمة واشنطن كمدينة ومنحت صفة ولاية (فإلى اليوم العاصمة واشنطن هي ولاية مستقلة بأمريكا)، بعد ثلاث سنوات كانت فيها مدينة فيلاديلفيا من ولاية بينسلفانيا عاصمة مؤقتة.

 بالتالي، فإنه بعد ترتيب آلية بناء وتسيير الدولة الجديدة، الجمهورية الفيدرالية، بدستور تأسيسي ومركزية قرارات الكونغرس، ابتداء من سنة 1781، بدأ التحرك الديبلوماسي الأمريكي بشكل مختلف وجديد، عن المرحلة السابقة ما بين 1765 و 1781. وضمن هذا السياق بدأت أولى مبادراتها لربط الصلة مع المغرب كمملكة مستقلة، ثم مع الولايات العثمانية ذات الحكم الذاتي بشمال إفريقيا (داي الجزائر، باي تونس، باشا طرابلس). وأن ذلك إلزامي أن يمر عبر سفرائها بكل من باريس ولندن ومدريد. ووجدت تلك السلطات الرئاسية الجديدة، على عهد الرئيس الأول جورج واشنطن، نفسها أمام تحدي قلة الإمكانيات المادية والبشرية لتجسير تلك العلاقات، مما جعلها تتأخر كثيرا في ترجمة قرار ذلك الإنفتاح على منطقة شمال إفريقيا وعلى الفضاء المتوسطي عموما لسنوات.

 كان لابد أن يحرك المغرب من جهته ملف علاقاته مع الدولة الجديدة، الذي اختار بتلقائية الإعتراف بها والإنفتاح عليها (ضمن رؤية واضح أنها كانت تسعى إلى تنويع شركائها للتحرر من الإستفراد البريطاني أو الفرنسي بمجال التعاون التجاري معه)، حيث قرر السلطان سيدي محمد بن عبد الله أسر السفينة الأمريكية “بيتسي” وطاقمها سنة 1785، بعد محاولات اتصال مباشرة لم تفضي إلى النتيجة المرغوبة، مع ممثلي واشنطن بأروبا حددت تاريخيا في ثلاث محاولات (مهم هنا العودة إلى تفاصيلها في الكتاب القيم “العلاقات المغربية الأمريكية، دراسة في التمثيل الديبلوماسي الأمريكي بالمغرب (1786 – 1912)” للباحث المغربي، الأستاذ في مادة التاريخ الحديث والمعاصر بكلية الآداب ظهر المهراز بفاس، محمد بنهاشم). كانت أولى تلك المحاولات سنة 1779 من خلال تكليف دار المخزن لتاجر فرنسي مقيم بمدينة سلا، إسمه ستيفان كايي للإتصال بممثل واشنطن بأروبا وباريس بنيامين فرانكلين لنقل استغراب سلطان المغرب من عدم تجاوب بلاده مع قراره السيادي الأول من نوعه المعترف بدولته والذي “سمح بدخول السفن الحاملة للعلم الأمريكي (رمز استقلالها) بحرية إلى الموانئ المغربية للتزود بما تحتاجه كما أنها ستحظى بنفس الإهتمام والتقدير الذي تحظى به الأمم الأخرى والتي هي في سلام معه” (التعابير هنا من نص قرار المغرب الصادر يوم 20 دجنبر 1777). فبادر بنيامين فرانكلين إلى مراسلة سلطات بلاده فجاء الجواب يطلب الإنتظار إلى حين قرب تعيين مبعوث من قبلها إلى المغرب مع التنويه والتقدير بالقرار المغربي الأول من نوعه في العالم. تلتها محاولة من وسيط إسباني بتكليف من المغرب إسمه روبير مونغومري. لتأتي بعدها محاولة أخرى عبر قنصل أمريكي بفرنسا إسمه توماس باركلي بعث إليه مرسال سلطاني من مكناس حاملا توكيلا من السلطان المغربي.

 مباشرة بعد قرار المغرب أسر السفينة الأمريكية “بيتسي” قررت واشنطن، أخيرا، تكليف ذات قنصلها بفرنسا توماس باركلي بحمل رسالة إلى السلطان سيدي محمد بن عبد الله، الذي حل بمراكش يوم 19 ماي 1786.

يتبع

‫شاهد أيضًا‬

عمر بن جلون: القضية الفلسطينية ومواقف أُطُرنا * ترجمة : سعيد بوخليط

فقط مع الحالة الفلسطينية،شَغَلَ الالتباس الإيديولوجي أهمية أولية،وترتَّبت عن ذلك نتائج في …