(1)
زمن القرار المغربي الإعتراف باستقلال ووجود “الدولة الأمريكية الوليدة”، الذي تم في 20 دجنبر 1777
تعتبر سنة 1777 ميلادية، مفصلية في تاريخ العلاقات المغربية الأمريكية، لأنها البداية البكر لترسيم اعتراف المملكة المغربية بدولة “اتحاد الولايات 13 الأمريكية”، مع صدور مرسوم سلطاني، للسلطان سيدي محمد بن عبد الله (حكم المغرب ما بين 1757 و 1790 ميلادية)، يوم 20 دجنبر 1777، من القصر الملكي بمدينة مكناس، يحدد الشروط المسموح بها لممارسة الدول الأجنبية التجارة مع المغرب عبر مرافئه المتعددة سواء الأطلسية منها أو المتوسطية. حيث تم لأول مرة إدراج إسم “الولايات الأمريكية” بصفتها دولة من بين الدول الأجنبية، حتى وحرب الإستقلال لم تنتهي بعد في ذلك الجزء المركزي الهام من القارة الأمريكية الشمالية. لأنه لن تنتهي الحرب عمليا هناك سوى سنة 1783، ولن تعترف الدول الأروبية وأولها فرنسا باستقلال الولايات الأمريكية سوى في ذات السنة، بعد توقيع ما يعرف ب “اتفاقية فيرساي” بباريس بين بريطانيا العظمى وممثلي الولايات 13 الأمريكية.
ترسيم ذلك الإعتراف المغربي بدولة “اتحاد الولايات الأمريكية”، الذي يصنف على أنه الأول من نوعه في العالم، والذي تؤكده كل المؤسسات الرسمية الأمريكية، في مقدمتها مؤسسة الرئاسة الأمريكية ومؤسسة الكونغرس (مثال ذلك الخطاب الشهير للرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما بجامعة القاهرة يوم 4 يونيو 2009)، سيتعزز مع توقيع اتفاقية السلم والصداقة بين المغرب والحكومة الأمريكية الوليدة سنة 1786، ومصادقة الكونغريس الأمريكي عليها سنة 1787، والتي لا تزال سارية المفعول إلى اليوم بدون انقطاع (سيتم تعديلها وتجديدها سنة 1836). مما يجعل تلك العلاقات تمتد بين البلدين منذ 236 سنة.
الحقيقة إنه لا يمكن التمثل الكامل والشمولي لطبيعة العلاقات المغربية الأمريكية، بدون استعادة تفاصيل السياقات التي جاء فيها ذلك الإعتراف المغربي، مما يلزمنا بالإنطلاق من سؤال مركزي يتمثل في:
كيف كانت الولايات المتحدة الأمريكية في نهاية القرن 18، وكيف كان المغرب في ذلك الزمن؟. أي ما هي السياقات الدولية، تاريخيا، التي جاء فيها ذلك الإعتراف؟.
مهم الجواب على هذا السؤال، ضمن هذا البحث في قصة وتاريخ العلاقات المغربية الأمريكية، حتى نتمثل في كامل أبعادها دلالات قوة ذلك الإعتراف المغربي بالدولة الأمريكية الوليدة، وندرك الأسباب التي تجعل دوما مالكي القرار السياسي والأمني والإقتصادي في واشنطن يستحضرون ليس فقط رمزيته التاريخية، بل أساسا تقاطع الطموحات بين ضفتي الأطلسي إفريقيا وأمريكيا.
لا يمكن إدراك خصوصية ميلاد فكرة الدولة الأمريكية، بدون استحضار لواقع تشكلها اجتماعيا وتجاريا واقتصاديا وبشريا. ذلك أن “العالم الجديد”، منذ اكتشاف القارة الأمريكية من قبل البحار والتاجر كريستوف كولمبوس سنة 1492 ميلادية، قد شكل التدشين الفعلي لميلاد نظام عالمي جديد، أنهى مع واقع النظام العالمي القديم، الذي كانت للحضارة والجغرافية العربية والإسلامية الكلمة الفصل فيه. لأنه علينا الإنتباه إلى أن سنة 1492 لم تكن فقط تاريخ الوصول الملاحي الأروبي (المسيحي) إلى القارة تلك، ولا سنة سقوط غرناطة والأندلس نهائيا في يد القشتاليين الإسبان، بل هي سنة انتقال التحكم في التجارة من البر إلى البحر. وأن من أصبح يتحكم في البحار (إلى اليوم) هو الذي صار يتحكم في منظومة التجارة والإقتصاد بالعالم. لأنه باختصار من حينها فقد العرب والمسلمون الذين كانوا يتحكمون في التجارة برا، بين الشرق والغرب (حال العواصم الكبرى بالمشرق العربي) وبين الشمال والجنوب (حال الإمبراطورية المغربية) عبر القوافل، امتيازهم الحضاري والإقتصادي والتجاري والخدماتي ذاك، حين نقل الغربيون الأروبيون المسيحيون عصب التجارة العالمية من البر إلى البحر، بفضل ابتكار السفن الشراعية الكبيرة، فأصبحوا من حينها سادة العالم.
ضمن هذا السياق تطور استيطان القارة الجديدة، عبر مسلسل هجرات متتالية على مدى 3 قرون من بداية القرن 16 حتى بدايات القرن 19، من موانئ القارة الأروبية الكبرى (جنوة، مارسيليا، برشلونة، غاليسيا، لشبونة، أمستردام، ليفربول، مانشيستر … إلخ)، صوب شواطئ الكارايبي والجزء الشمالي من القارة الجديدة والجزء الجنوبي منها. وهي الهجرات التي تميزت، تاريخيا، بأمرين كبيرين:
أولها أن الهجرات الإسبانية والبرتغالية قد كانت هجرات عسكرية تجارية بالأساس، وأنها استهدفت منطقة الكارايبي وأمريكا الجنوبية أكثر، وأنها كانت هجرات بمسوح دينية كنسية كاثوليكية.
فيما ثانيها أن الهجرات الهولندية والبريطانية والفرنسية، قد ركزت أكثر على أراضي أمريكا الشمالية وأنها كانت هجرات اجتماعية أكثر منها حملات عسكرية، بسبب تداعيات الحروب الدينية الفظيعة بين الكاثوليك والبروتستانت بالقارة العجوز (خاصة بفرنسا وهولندا وألمانيا وبريطانيا العظمى). وليس اعتباطا أن أغلب الهجرات الأروبية صوب تلك الأراضي الأمريكية الشمالية قد كان من أتباع البروتستانت، خاصة من الكالفانيين. بل إن انتشار التيارات الإنجيلية منذ بداية القرن 20 بتلك الجغرافيات الأمريكية، يجد سنده من تبعات هذه الهجرات وأن غالبية الأمريكيين الأوائل هم إما من البروتستانت (الإيرلنديين والهولنديين والألمان والفرنسيين) أو من الإنجيليين. مثلما أن الهجرات السياسية والتجارية إليها قد كانت معززة بقوى عسكرية رسمية لدولتين كبيرتين هما بريطانيا العظمى وفرنسا دون غيرهما من دول أروبا.
بالتالي، فقد كان الواقع السياسي والتجاري والإقتصادي بالعالم الجديد، يتأسس سياسيا على مركزية قرار تدبيري من لندن وباريس، هو عدم السماح بأي استقلال للقرار السياسي أو التجاري أو الإقتصادي للجماعات البشرية المهاجرة تلك، وأن يكون الحرص كل الحرص، على بقائهم تابعين للقرار السياسي والإقتصادي لأروبا عبر البوابة البريطانية في المقام الأول ثم البوابة الفرنسية في المقام الثاني. فشكل ذلك نوعا من الحماية أو بتعبير أدق نوعا من الوصاية أو الإستعمار الغربي لأفراد غربيين لكن في قارة أخرى خارج مركزية القارة الأروبية. ولن يتخلص الأمريكيون من تلك المركزية الغربية الأروبية نهائيا، حتى سنة 1945، بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. مما يعني أن الإستقلال الأمريكي من هيمنة المركزية السياسية والإقتصادية والتجارية والعسكرية الأروبية الغربية، قد انطلق نعم سنة 1783، لكنه لم يصبح نهائيا سوى بعد أكثر من قرن ونصف، مع نهاية الحرب العالمية الثانية.
إن الخلاصة الأولى هنا، باختصار تاريخي شديد، هي أن منطلق الصراع في القرن 18، زمن القرار المغربي الإعتراف باستقلال ووجود “الدولة الأمريكية الوليدة”، الذي تم في 20 دجنبر 1777، يجد سنده في سعي مجتمع الهجرات الأروبية الغربية الجديد بأراضي أمريكا الشمالية، إلى امتلاك استقلالية قرارها الإقتصادي والتجاري في المقام الأول. وأن ما وقع منذ سنة 1775، تاريخ بداية ما يعرف في الأدبيات التاريخية الأمريكية ب “حرب الإستقلال” أو “ثورة الإستقلال”، هو تدشين عملي للتحرر من التراكم الذي سجل في العلاقة بين ما يمكن وصفه ب “الرأسمال المحلي الأمريكي” المتشكل من تيارين كبيرين، واحد فلاحي في الجنوب الشرقي والآخر تجاري صناعي في الشمال الشرقي للجغرافية الأمريكية (المشكلون عمليا للولايات 13 الأولى)، وبين التاج البريطاني. وهي علاقة كان في القلب منها خلاف حول الضرائب المفروضة من قبل لندن وتحكمها في القوانين التجارية بموانئ أمريكا (خاصة بوسطن وأمستردام الجديدة التي أصبحت نيويورك في ما بعد)، التي تمنع تصدير المنتجات المحلية سوى صوب الموانئ البريطانية.
(2)
شكلت الحرب البريطانية ضد كل من فرنسا وإسبانيا بأمريكا الشمالية، ما بين 1756 و 1763 (حرب السبع سنوات)، البداية لبروز ما يمكن وصفه ب “التيار القومي الأمريكي”، بعد أن قررت لندن تعويض كلفة الحرب تلك التي أنهكت خزينتها العامة، من خلال قرارات متعددة من ضمنها
فرض “ضريبة تداعيات الحرب” على ساكنة أمريكا الشمالية، في المرحلة الممتدة ما بين 1763 و 1773، وهي القرارات التي رفضتها النخب التجارية والفلاحية هناك، استنادا على الشعار الذي رفع حينها والذي يقول “لا ضرائب في غياب التمثيلية”، في إحالة على عدم وجود أي نائب أو ممثل لساكنة ولايات أمريكا الشمالية بمجلس العموم البريطاني بالعاصمة لندن، والتي كانت تتشكل من ولايات: جورجيا، كارولينا الجنوبية، كارولينا الشمالية، فرجينيا، ميريلاند، ديلاوير، نيودجيرزي، بنسيلفانيا، كونتيكي، روش أيلاند، ماساشوسيتس، نيوهامشر ونيويورك (هذه الولايات 13 هي التي اعترفت المملكة المغربية باستقلالها كدولة اتحاد الولايات الأمريكية سنة 1777).
دون إغفال تداعيات غضب المهاجرين الأروبيين بتلك الولايات الأمريكية، سنوات قبل ذلك، من نتائج هجمات قراصنة المحيط الأطلسي على امتداد شواطئهم، الذين كانوا في غالبيتهم من الإسبان والبرتغاليين والهولنديين، وقراصنة البحر الأبيض المتوسط وشرق المحيط الأطلسي الشمالي، الذين كان غالبيتهم من المغاربة والجزائريين والليبيين. حيث طالبوا عبر مراسلات عدة موجهة إلى الحكومة البريطانية حمايتهم من أولئك القراصنة، دون أن تستجيب هي لمطلبهم الملح ذاك. وهي المطالب التي كانت تعرضها بتواتر جريدة “نيو أنجلاند غارانت” التي كانت تصدر في البداية بمدينة بوسطن، باعتبارها لسان حال البورجوازية التجارية الأمريكية، وشكلت أعمدتها مجالا لبروز كتابات عدد من المحامين ورجال المال والصحفيين الشباب حينها، الذين سيشكلون نخبة مطلب الإستقلال عن التاج البريطاني، ومنهم من أصبح رئيسا للدولة الجديدة سنوات قليلة بعد ذلك مثل جورج واشنطن، جون آدامز وتوماس جيفرسون. واعتبارا للأثر الذي بدأت تخلقه هذه الجريدة في الولايات الشرقية الأمريكية، قررت لندن اعتقال مديرها جيمس فرانكلين ومنعه من ممارسة الصحافة والكتابة نهائيا، فانتقل بالجريدة بعد ذلك شقيقه بنيامين فرانكلين إلى مدينة فيلاديلفيا وهناك غير اسمها وأصبحت جريدة “بينسلفانيا غازيت” التي صنفت تحريريا على أنها تنتمي لتيار البورجوازية الإنجليزية التقدمية (الجبهة السياسية التي تبلور منها الحزب العمالي البريطاني في ما بعد). لتبرز بعدها بمدينة نيويورك، ابتداء من سنة 1733، جريدة “نيويورك ويكلي دجورنال” التي لم تتردد في وصف التواجد البريطاني (العسكري والإداري) ب “الإستعمار”. وأنه بسبب المقالات اللاذعة لرئيس تحريرها جون بيتر تسينغر قررت السلطات البريطانية اعتقاله، وبدأ يسرب من داخل زنزانته مقالات تحت عنوان “رسائل كماشة السجن”، حولته إلى بطل عند الرأي العام الأمريكي الوليد، إلى درجة أن يوم محاكمته قد تحول إلى مناسبة لمظاهرة ضخمة شارك فيها غالبية سكان المدينة أمام بناية المحكمة، فقرر القاضي البريطاني إطلاق سراحه، مما شكل أول نصر سياسي للبورجوازية الأمريكية الوليدة تلك حينها. والأهم من ذلك ميلاد جنيني لفكر قومي أمريكي محلي.
كان الطموح الذي يحرك تلك البورجوازية الأمريكية ما بين سنوات 1730 و 1776، بشقيها الفلاحي في الجنوب والتجاري والصناعي في الشمال، هو حيازة استقلال القرار الإقتصادي والمالي لهم عن لندن، وأن يمتلكوا حرية التجارة مع مختلف دول العالم. بالتالي فإن الصراع حينها قد أصبح بين رأسمالين غربيين معا، واحد جديد أمريكي والآخر رائد وسيد البحار هو الرأسمال البريطاني، وكانت فرنسا تلعب على التناقضات بين الطرفين. ولعل من مجالات بروز ذلك الصراع ما ستنشره صحيفة “بينسلفانيا غازيت” يوم 9 ماي 1754، على صدر صفحتها الأولى بتوقيع من بنيامين فرانكلين (الذي سيصبح في ما بعد أول سفير لواشنطن بباريس، والذي سيلعب أيضا دورا محوريا في توقيع معاهدة السلم والصداقة بين المغرب والولايات المتحدة الأمريكية سنة 1786)، من رسم كاريكاتوري يعرض خريطة أراضي أمريكا مجزأة إلى ولايات مفصولة عن بعضها البعض ووضع له عنوانا يقول: “لنتحد أو لنمت”. وهو الرسم الذي ستعيد نشره كل الصحف الصادرة بمختلف مدن تلك الولايات الأمريكية، ليصبح ابتداء من صيف 1754 الشعار السياسي لنخبة القومية الأمريكية.
كان رد بريطانيا على تزايد ذلك المد القومي الأمريكي سنة 1765، هو إصدار قوانين زجرية تشديدية بالتواتر على مدى عشر سنوات، من بينها قانون جديد للضرائب والرسوم الجمركية يهم سلع القهوة والورق والنبيذ والزجاج والشاي واللحوم والخشب، الذي كان يعتبرها كما لو أنها مستوردة رغم أنها تنتج داخل الولايات الأمريكية. ثم القانون الزجري الخاص بالرقابة على النشر والصحافة الذي عرف ب “قانون الخاتم”، حيث ممنوع طبع أي كتاب أو صحيفة ما لم يكن ذلك على ورق مختوم من قبل تلك السلطات البريطانية، وأن احتكار ذلك الورق قد جعل ثمنه عاليا في السوق.
بالتالي ليس مستغربا أن تكون الشرارة التي ستطلق “حرب الإستقلال” سنة 1773، قد انطلقت من مقر جريدة “بوسطن غازيت”، حين عقد اجتماع بداخلها لنخبة من بورجوازية ولاية ماساشوسيتس، الذين قرروا تكليف جمع منهم بالهجوم على السفن البريطانية الراسية بميناء بوسطن المحملة بالشاي والتي أصبحت تجارته حكرا عليها دون غيرها، متنكرين في زي هنود حمر، ورموا حمولتها في مياه المحيط. فكان ذلك ما أصبح يعرف في الأدبيات التاريخية والسياسية الأمريكية ب “حفلة شاي بوسطن” أو “حادث الشاي ببوسطن”. ولن تتطور الأمور سوى سنتين بعد ذلك، حين سينشئ الجنرال الأمريكي توماس كاج جيشا مسلحا من حوالي 7 آلاف محارب، جزء كبير منهم من السود المحررين بولاية ماساشوسيتس، واعتبرت معركة “لينسينفتن” بداية حرب الإستقلال الأمريكية، التي ستؤدي إلى نوع من تدويل الحرب بعد تدخل قوات من كندا وقوات فرنسية وتوزع جزء من الداخل الأمريكي بين الموالين للتاج البريطاني وبين المدافعين عن الإستقلال، الذين سيدخلون في مواجهات مسلحة عنيفة بشكل متواتر حسب المناطق والجهات. مثلما بدأ يتشكل تياران سياسيان أمريكيان هما التيار المحافظ اليميني بزعامة جورج واشنطن وألكسندر هاميلتون، وتيار ليبرالي ديموقراطي بزعامة توماس جيفرسون، جون آدامز، بنيامين فرانكلين وتوماس بين. وتعتبر الجريدة التي كان يصدرها هذا الأخير (توماس بين)، واسمها “ماساشوسيتس سباي” الواسعة الإنتشار حينها بالمدن الشرقية للولايات الأمريكية، بنسب مبيعات تتجاوز 3500 نسخة يوميا، أول منشور صحفي يطلق عبارة “الأمريكيين” بمعنى الهوية القومية وبمعنى الشعب والأمة الواحدة.
كانت أمريكا الجديدة تلك إذن تعيش تحديات شرنقة التحرر من التبعية للتاج البريطاني، وتطورت الأمور منذ العقد الثالث من القرن 18، بهذا التدافع العنيف أحيانا أو السلمي أحيانا أخرى، حتى جاءت لحظة الحسم العسكرية ما بين سنوات 1775 و 1783. وأنه بالتوازي مع اندلاع حرب الإستقلال تلك، شرعت السفن التجارية الأمريكية تجوب المحيط الأطلسي باتجاه القارة الأروبية والقارة الإفريقية والبحر الأبيض المتوسط وأمريكا الجنوبية. ولقد كانت تلك السفن موزعة بين المنتمين لتيار التحرير وبين المنتمين للتبعية إلى التاج البريطاني، واختار المغرب بإصداره لمرسوم 20 دجنبر 1777، المنظم للتجارة مع الدول الأجنبية بالموانئ المغربية، التعامل مع السفن التجارية لتيار التحرير، اعترافا منه بتلك الولايات 13 الأمريكية كدولة، حتى وإن لم تعترف بها بعد القوى الكبرى الأروبية المتحكمة في النظام العالمي حينها، في مقدمتها بريطانيا وفرنسا وإسبانيا والبرتغال وهولندة ومملكة النمسا. فشكل ذلك الإعتراف، الذي تم بشكل إرادي من السلطة المغربية، ضمن سياقات التحولات الكبرى للنظام العالمي للقرن 18 وامتداداته حتى القرن 19، سابقة في السياسة الدولية حينذاك، كان لها ما بعدها، خاصة على مستوى اشتداد الطموح الأروبي (الفرنسي والبريطاني والألماني والإسباني) لوضع اليد على الجغرافية المغربية والضغط عليه وتطويقه وفرض أشكال تعاون تجارية معه عبر اتفاقيات متعددة، ضمن تحول عالمي لميلاد منظومة الإستعمار.
(يتبع)