قصة تقشعر لها النفوس والأبدان الغيورة على مصير أمة مشرقية بأمجاد تاريخية. الكاتب لم يُسَمِّ البلد المعني بالضبط في فقرات نصه الرائع والمشَوِّق. لكن، إذا أضفنا انتماءه الهوياتي لبلاد الرافدين إلى حادث سقوط الدول الثلاث في المنطقة العالية المقدسة بين براثن العجز والفوضى الهدامة والتوترات الاجتماعية المنهكة (العراق وسوريا واليمن)، ينقشع الغموض أمام القارئ ليجد نفسه معنيا بقوة الهوية والانتماء الحضاري بمحيط أقطار المنطقة المعنية. هناك دول مشرقية مخنوقة في مياه بحيرة سممها القمع والاستنزاف وحولها إلى مستنقع آسن تعفن بفعل فاعل. هناك في المقابل دول خليجية، وعلى رأسها الإمارات وقطر، بواقع سياسي يستحضر إلى حد ما التحديات والرهانات، ويبين بجلاء انشغال أنظمتها السياسية بالمستقبل ومفاجآته العلمية والتحديثية (استثمار المال العام لخدمة المستقبل استعدادا لأفق الاستغناء عن البترول كونيا في العشرية القادمة). وهناك دول أخرى غير بترولية أدركت معنى قيادة التغيير الاجتماعي والثقافي والسياسي والاقتصادي بوطنية وحكمة وسيادة أوطان مسخرة كل وسائلها المادية والبشرية لحماية نفسها من الأطماع الأجنبية.
قرر الجَدُّ العَالِم مغادرة بلاده صحبة أسرته مبكرا مُضَحِّياً بإقامته الفاخرة وأثاثها ورفاهية العيش فيها مغمورا بانشغالين أساسيين لا ثالث لهما. الانشغال الأول أبرز من خلاله الكاتب، على لسان السارد، هوس الأنظمة السياسية بمنطق إجلاء العقول النيرة من بلدان الانتماء ودفعها للهروب، ومن تم تيسير عمليات استنزاف خيراتها ومواردها، مَنْطِقٌ انزلق بدهاء عن مقومات أمجاد الماضي، بحيث تعمد رواده تكريس هوس القواعد الشعبية المزمن بالبحث عن إشباع بطونها، وبالتالي توسيع هوامش خدمة أنانية الأقليات التي أدمنت البذخ والجشع معاكسة بذلك مسار تاريخ حضارة عريقة ومتطلبات مستقبل شعوب وأمم ريادية. لقد انتقى رواد هذا الخيار، بإصرار وترصد، التركيز على ابتداع كل السبل القمعية المادية والمعنوية الممكنة الميسرة لجمع ثروات المغادرة والارتماء في نهاية المطاف في أحضان الآخر الغربي بسلام بدون أن ينتابهم أي ندم أو حسرة على تخليهم الطوعي عن هويات انتماءاتهم التاريخية. أما الانشغال الثاني فيتجلى في إيمان الجَدِّ العَالِمِ باقتراب غَرَق سفينة هذه البلدان محددا سنتي 2081 و 2082 كموعد زمني لاشتداد الكساد والانزلاق في هوة الاندثار. بالرغم من سيطرة الانشغالين المؤرقين على وجدان الجَدِّ، احتفظ حفيده (الحاكي)، الذي ترعرع في كنفه، مُتشبثا بحق العودة، ومُقاوما بوجدانه الشعوري وبملاذ القراءة والكتابة الأدبية والفكرية الاستسلام لقرار المغادرة. أنهى الجَدُّ مذكراته بروح استباقية ثاقبة ووضعها في منضدة في الطابق العلوي بمكتبة إقامة موطن نشأته الأنيقة، طامحا أن تتحول يوما إلى مرجع توجيه أجيال الحاضر إلى مرافئ العلم والمعرفة استعدادا للمستقبل بفرصه وإمكانياته ومخاطره.
قرر السارد العودة إلى وطنه بمسار علمي بناه في بلاد المهجر التي احتضنته (أمريكا) باحثا عن مسكن جَدِّه ومسقط رأسه. نجح في العثور عليه مؤثثا ومجهزا بدون حياة بشرية. صعد إلى الطابق العلوي، ليجد نفسه أمام كنز ثمين. إنها مذكرات جَدِّه العارف، الذي شيد فضاء رحبا للمعرفة في فضاء جغرافي وزماني توقع من خلالها أزمات المستقبل وضياع مصير تاريخي لأمة عريقة.
بتقنيات المحترف الراقي في السرد القصصي والروائي، التقط القاسمي اهتمام القارئ منذ البداية بإعلان عثور السارد على المذكرات وانغماسه في قراءتها وكأنه كان على علم بوجود مرجع في مستوى إقدام ومروءة الأجداد. استهل القصة بتفرسه لحروفها المتراصة، وتلويك أصوات كلماتها المتعاقبة وألفاظها. تتبع معاني عباراتها المنسابة فأدرك مغزاها وعبرها. وجد نفسه في فضاء مهجور في مدينة مقفرة وأمام مذكرات جَدٍّ نبيه استبق التاريخ وعلم مآله مبكرا. تعجب لما وقع وكيف وقع، مستغربا من تفاقم التنافر والتناحر بين الشعور بغنى إمكانيات أوطان وأسرار صحاريها الدفينة وتاريخها الموغل في قلب الزمن، وسيطرة قيادات عسكرية ربطت استمرار أنظمتها بتوسيع الهوة بين مفهومي التواجد الترابي للشعوب وهويتها التاريخية بأمجادها ومعارفها.
عاد السارد إلى بلاده بزوجة أجنبية، مبرزا رمزية جنسيتها (الولايات المتحدة الأمريكية). نصحته في البداية بعدم جدوى العودة إلى الجذور معتبرة أن ما سيقدم عليه مرادف لرمي نفسه في لجَّة الخطر. تهكمت في البداية من دوافعه وتشبثه بالعودة إلى الماضي (العثور على المدينة التي هاجر منها جده إلى أمريكا) ناصحة إياه بالنظر إلى الأمام، وأن يكون ابن يومه والتوجه إلى المستقبل متطلعا إلى النجوم الشامخة. اعتبرت قرار عودته رجعيا ومجرد التفاتة إلى الخلف وارتماء في حضيض الوحل. جاملته عن مضض موافقة على مرافقته، لتجد نفسها في المكان المقصود منبهرة بمضمون مذكرات الجَدِّ، وفهمت معنى ثبات زوجها على إصراره الصلد.
توجه السارد وزوجته منطلقا من الغرب إلى الشرق الأوسط بوسيلة نقل تجاوزت بنيةً وشكلا تاريخ المنطقة وعاداتها وتقاليدها. عاد بسيارة فخمة صُنِعَت بأحدث المعدات التكنولوجية. إنها سيارة تعتمد على استهلاك الطاقات المتجددة لإنتاج قوتها وتوفير الراحة لراكبيها. إنها ابتكار آلي أوتوماتيكي مجهز للسير في الصحراء بمنبهاته الذكية الموجهة (شاشة حاسوب السيارة)، تنساب على الرمال بمحرك صامت مثل ضب مرتعب هارب. وصل إلى فضائه المقصود، فوجده مجرد أطلال وخراب. استرسل في وصف الفضاء المهجور بأسلوب ومضمون يفهم منه القارئ بسرعة كون المبالغ الضخمة من البيترودولار، التي تدفقت على المنطقة منذ مطلع القرن العشرين، قد تم هدرها لتحقيق رفاهية وجود الأبدان بتشييد الإقامات والعمارات السكنية بلوحاتها التسموية النحاسية وأثاثها الوثير وشوارعها ومطاعمها وأمكنتها الترفيهية العريضة والواسعة وسياراتها الفارهة. لقد تم التخلي على تنمية العقول بدافع التوجس من الوعي والمعرفة الجماعيين وارتباطهما باستمرار الأنظمة من عدمه.
الكاتب بخبرته جعل القارئ يتأرجح بحماس شديد بين وضعي البداية والوسط والنهاية متفوقا بموضوعية تامة عن السارد ومتحكما في مشاعره ومقاصده. عاد بنا في الوضعية الوسطية، ارتباطا بالبداية، لإبراز خصوصية أسرته ونباهتها وذكائها. لقد أعجب من كون اسم منزل جده كان مختلفا عن أسماء المنازل الأخرى، وتذكّر مواعظ أبيه في صغره الذي كان يدعوه بشكل متكرر لمخالفة الآخرين دوماً في أفعالهم كما كان جدُّه، قاصدا من وراء ذلك إبراز مصداقية قراره الرافض لمسايرة الأوضاع بالهجرة المبكرة إلى أمريكا.
عاد الكاتب مجددا بالقارئ متجها إلى النهاية بارتباط دائم مع البداية لإبراز معالم الكساد، داقا ناقوس خطر اقتراب مآل الهدم الحضاري الذي لن يتجاوز غضون سنوات القرن الأول من الألفية الثالثة. نباهة الجد مكنته من التنبؤ مبكرا باقتراب موعد تضحية الحكام العرب بشعوبهم وحقوقهم في أوطانهم، وتركها تتلاطم مع الأمواج العاتية التي لا تترك أي مجال للنجاة (ابتداء من 20 أبريل 2081). ابتداء من هذا التاريخ، سيشتد استفحال الأزمات بسرعة فائقة ما بين شهر وآخر، لتتكرر الانتكاسات المزلزلة في غضون أيام الشهر الواحد ( سنة 2081: 20 أبريل، 25 مايو، 3 يونيو، 30 يونيو، 25 يوليو، 30 يوليو، 20 أغسطس، 30 نونبر، 31 ديسمبر. وسنة 2082: 5 يناير، 1 فبراير، 18 فبراير، 20 فبراير، 21 فبراير، 22 أبريل، 5 مايو، 6 يونيو، 1 يوليوز، 8 يوليوز، 11 يوليو، 14 يوليو).
تحولت أوضاع البلدان المعنية في بداية أيامها العجاف إلى مستنقع آسن باقتصاد راكد. انخفض ثمن البترول إلى دولار واحد للبرميل، وبدأت تنتفي عنه صفة المورد الطبيعي الثمين. مصادر الطاقة البديلة حولته إلى مادة منبوذة تافهة لا قيمة لها ومعادية للطبيعة والتنمية المستدامة ولمقومات العيش الكوني المشترك. اعتبرها العالم المتقدم فحم القرن الواحد والعشرين الذي تتجنبه الأيادي. آلات ومعدات العالم بمحركاتها لا تعمل بالبترول مطلقاً. تقلصت مداخيل ميزانيات الدول البترولية، وغادرها العمال والمستخدمون الأجانب بسبب انخفاض الأجور. الاحتباس الحراري الخانق رفع درجة الحرارة لتتجاوز خمسين درجة (تحولت الشقق إلى قطع من جهنم لا تطاق).
سعيا في التثبيت الموضوعي لبراهين ارتباط النتائج بالأسباب منذ بداية القصة إلى آخرها، أبان الكاتب بين سطور فقرات قصته احتكام الأنظمة الجائر لمنطق سياسي هدام يختزل السياسية في ابتداع آليات التفرقة والسيطرة، منطق اعتمدته أنظمة داهمتها في غفلة منها سيول فيضانات التطورات العلمية والتكنولوجية وجرفتها إلى غير رجعة في بداية العشرية الثانية من القرن الواحد والعشرين. سقط البعض منها وخلفته أنظمة غارقة في فوضى غير خلاقة. قاوم البعض الآخر وتمسك بالأدران جاعلا الأوطان في منأى عن كنهها وجوهر وجودها. اسقاطات الجد مخيفة للغاية. تنبأ بنضوب المياه في الآبار والأنهار والسواقي ونفاذها في الصنابير، وتفاقمت آفة العطش ووأد الأشجار والأعشاب واكتساح الزوابع والعواصف الرملية للفضاءين العام والخاص. لقد سَرَّعَ جفاف العقول ومقت القراءة وتدهور التربية والتعليم وضعف أداء مؤسسات التنشئة لعقود في تجفيف مداد الأقلام بصورة مريعة (لمن سأكتب، غداً ستذرو الرياحُ أوراقي، وتطمس الرمالُ كلماتي). تفاقم الإحساس بالعزلة لدى الجَد، ولم يبق له إلا الذكريات منفذا للثرثرة مع نفسه.
والمآسي تتراكم وتشتد مع مرور الأيام، يزداد جَدُّ السارد إصرارا على المقاومة لنصرة قضية أوطان الانتماء التاريخي. إنه لا يكل ولا يمل في اعتبار جذور العرب في موطنهم جذورُ نخلةٍ تضرب بعيداً في أعماق التربة، وليس في مقدورها أن ترحل مع الريح كالأشنات. يجب أن تبقى الشعوب هنا متمترسة في مواقعها، حتّى بعد أن يتفتت المرمر ويتهرَّس الإسمنت. إن طبيعة جذورهم ملتحمة مع تربتهم التحاماً لا فكاك له. والمآسى المنهكة تزداد حدة، يزداد هذا العلامة إصرارا على البقاء بقوله ” بيدَ أنّا سنبقى، وستمتد جذورنا إلى أعماق الأعماق باحثةً عن قطرة ماء، ولتتساقط الأوراق الصفراء من أعالي الأغصان”. هاجر أخاه الكبير وأفراد أسرته جراء شدة الخوف من الكارثة، وثبت هو على موقفه حالما بإمكانية تحقيق النهضة قائلا: “إنَّ سعفات النخلة قد تهتز مع الريح، ولكنَّ جذورها ثابتة في الأعماق …لا أستطيع التخلّي عن مهد الذكريات…. “
تجاوزت المصائب في حدتها عتبة القدرة على التحمل، فوجد الجد نفسه مضطرا للإستسلام راضيا بمصيره المحتوم مرددا: “ما فائدة انغراز جذور النخلة في أعماق التربة، عندما ينقصم جذعها، وتهوي إلى الأرض؟ الجفاف يطلّ علينا بوجهه الكالح، من كلّ حدب وصوب … الجفاف يغيّض آخرَ قطرة في آخر بئر. الجفاف يشرب دماء قلبي. الجفاف ينشّف مداد قلمي”. أحاطت به المدافع المدمرة من كل الجهات، فأعلن منهكا متحسرا من خفوت نور آخر فانوس أمل قبل تعطله: “إني راحل”.
لم يترافع الكاتب بلسان السارد وجده من أجل نفسه بل من أجل المدينة العربية. إنه وضع مشابه بمحاكمة سقراط وقوله: “أنا لا أدافع عن نفسي بل أدافع عنكم”. انقلبت الأدوار، هو يحَاكَم ظلما وهم يحاكمون جورا. التزم السارد بالحقيقة كمطلب ومطمح سرمديين متشبثا بحق أمم منهكة لتعيش معاني السعادة الوجودية. وئدت المدينة العربية كما أعدم سقراط، وارتبطت اللاعدالة واللاوطنية بالانتساب للمنطقة المشرقية. تجبرت حقيقة القوة على قوة الحقيقة. أفرغت المدينة كمجمع بشري من مدلولها بابتعادها عن استهداف المصلحة العامة. لم ينبثق عن المدينة المشرقية مجتمعات قطرية وازنة تقابل المجتمع السياسي. تماهت الشعوب وسايرت الأنظمة الفاشلة. استجابت وتساهلت مع التدخل الأجنبي وغرقت في مستنقع الفوضى المسمومة.
تتحمل الشعوب المشرقية اتهامات القصور في المواطنة في زمن تتكاثف فيه الجهود غربا وشرقا لتجديد شروط الانتماء السيادي بعد استكمالها بالرغم من احتضار النيوليبرالية زمن ما بعد الحداثة. ضاع الفرد والجماعة مشرقيا في غياهب الظلام والظلمات، ضاع الحرص واليقظة المدنية وسهل ابتلاع المجتمعات. ضاع الحلم بمدينة أفضل …. ورحل الجَدُّ بعد مقاومة إلى آخر رمق.
بإبداع أدبي راق دق القاسمي ناقوس خطر يحذر فيه من مخاطر نفي المدينة العربية مقابل ترعرع وازهار المدينة الغربية والأسيوية. إنه يعتبرها سر بقاء الأمة المشرقية بأقطارها وحضارتها التاريخية، وأمل انتعاش الحلم بالنهضة مجددا، وانبعاث شروط انتصار العقلانية وتحقيق الخير الأسمى والسعادة الحقة والكمال الإنساني في زمان يفرض إعادة النظر في المكان
القصة تدعو الشعوب وأنظمتها إلى الارتماء في مستقبل مأمول ومنشود قبل فوات الأوان. رحل السارد واستسلم لوضع الغريب الذي تحدثت عنه الصوفية بنعته غريب بين دويه وجيرانه.
النص الكامل للقصة : المدينة الشبح للدكتور علي القاسمي
أتفرّسُ في الحروف المُتراصّة، أفترسها. ألوكُ أصوات الكلمات المتعاقبة، ألفظها. أتتبَّع معاني العبارات المنسابة، أُدركها. فيتملَّكني العجب لما حدث وكيف حدث. أُلقي نظرةً متسائلةً عبر النافذة المُغبرَّة، فلا تصافح عينيَّسوى كثبانٍ رمليَّةٍ صفراءَ، تنداح متراميةً، حتّى نهاية الأفق، حيث تلتصق بوجنة الشمس الغاربة، فتعفّرها. كثبانٌ صامتةٌ ناطقةٌ في آنٍ، كثبانٌ تفوح بعبق الصحراء بجميع أسرارها الدفينة، وبكلّ تاريخها الموغل في قلب الزمن، الغائر في خاصرة الغرابة. أُدير وجهي إلى زوجتي الأمريكيّة المتسمِّرة أمامي المحدِّقة بي، وأترجم لها ما وعيتُ، فتُبرِق الدهشة في عينيْها وتقول:
ـ عجيب، هذا أمر هائل! الآن لستُ نادمةً على الرحلة.
كانتْ قد حاولتْ أن تثنيني عن القيام بتلك الرحلة مُجادِلةً: إنّكَ ترمي بنفسكَ في لجَّة الخطرِ، حين تجوب مجاهل الصحراء.لأجل ماذا؟ لمجرّد العثور على المدينة التي هاجر منها جدُّك إلى أمريكا. وبمَ يفيدك هذا؟ وماذا ينفع الماضي من الناحية العمليّة؟ إنّنا نخطو حثيثاً نحو عتبة القرن الثاني والعشرين، وأنتَ ابن يومكَ. انظر إلى الأمام، وتطلَّع إلى النجوم الشامخة، ولا تلتفت إلى الخلف، وتحدّق في حضيض الوحل.
وعندما ارتطمتْ كلماتُها وتوسُّلاتها بجدار إصراري الصلد، عدلتْ عن رأيها، وقرّرتْ أن ترافقني في سفرتي، وأخذتْ تساعدني في الإعداد لها.
راحت سيَّارتنا الكهربائيَّة، المجهَّزة خصيصاً للسير في الصحراء وهي تجرّ عربة المؤونة المُلحقة بها، تنساب على الرمال مثل ضبٍّ مرتعبٍ هارب. وكان طنين محرِّكها يتلاشى في فضاءِ الصمت المطبق حولنا. وراحتِ الشمس تدلق أشعتها الذهبيّة الساطعة على الصحراء المتموّجة أمامنا، فتكرعها الرمال العطشى، ولا تذر في قرارة الكأس شيئاً، ما عدا سراباً تلمحه عيوننا، وهو يرتفع وينخفض مثل ماء بحيرةٍ نائية.
كانت المعلومات المنثالة على شاشة حاسوب السيّارة، بجانب المِقود تشير إلى دنوّنا من مقصدنا، ولكنَّنا لم نتبيّن شيئاً. لم تطالعنا أيّ أطلال أو خرائب. وكدنا نرفع راية اليأس على سارية الإعياء، حين بزغت في الأفق البعيد قدامنا، أعمدةٌ رمليّةُ اللون تطاول عنان السماء. حسبناها، أوَّل وهلةٍ، أشباحاً هائلةً متراصّةً، مثل صفٍّ من الكائنات الخرافيّة، القادمة من كواكب أُخرى. ثمَّ ما فتئت أن تبدّت لنا على هيئة عماراتٍ شاهقةٍ، أخذت تزداد ارتفاعاً كلّما اقتربنا منها.
وأخيراً ضمّتنا المدينة وعانقنا أوَّل شارعٍ من شوارعها. شوارعٌ عريضةٌ فارهة، وعماراتٌ كبيرةٌ فخمة. مدينةٌ قائمةٌ بكلّ مبانيها ومرافقها، لم يُصِبْها زلزال ولم يجتَحْها طُوفان. ولكنَّها مهجورةٌ خالية، لا إنسان فيها ولا حيوان ولا نبات. وكانت بعض أبوابها ونوافذها تتحرَّك بفعل الريح الخفيفة، فيصدر عنها صرير/أنين يبذر الرهبة والتوجّس في نفوسنا. وعلى الطرقات، تناثر زجاجُ بعض شبابيكها المُهشَّم، مختلطاً مع أكوام الرمل التي تجمَّعت هنا وهناك. وثمَّة مساحاتٌ فارغةٌ بين العمارات، لا بدّ أنّها كانت منتزهات، أو مواقف للسيّارات، ذات يوم. وبقينا وقتاً طويلاً، ونحن نتوجّس خروج إنسان أو حيوان من أحد الأبواب.
واخترقنا وسط المدينة متّجهين إلى أحيائها الغربية حيث انتشرتِ الإقامات السكنيّة الفاخرة المهجورة. أوقفنا سيارتنا وسط الشارع الرئيس وهبطنا راجلين وسِرنا على الرصيف المُدثَّر بالرمل، بمحاذاة الأبواب. كان بعضها موصَداً وبعضها الآخر مغلقاً وبعضها مفتوحاً على مصراعيْه. وكلّها تحمل قطعاً نحاسيَّةً أو خشبيَّةً كُتِب عليها اسم الإقامة. وأغلب الأسماء مؤنَّثة على غرار (فيلا حصّة) و (فيلا جوهرة 2). ندلف إلى بعض المنازل، فنلقي على جنباتها نظرةً بلون الحزن. وفي كلِّ منعطفٍ، شهقةٌودهشة. ووراء كلِّ بابٍ، يتلفَّع سرٌّ لا يخلع رداءه للتاريخ. وعلى كلِّ قطعةِ أثاثٍ فاخرةٍ، غفتْ بردة أسى.
تسمّرتُ في مكاني فجأةً، وأخذتُ أحملق في القطعة المُثبَّتة على أحد الأبواب، وأنا لا أصدّق عينيّ. لقد كانت تحمل اسم أُسرتنا. عجبتُ لكونها تختلف عن أسماء المنازل الأخرى. وتذكّرت ما كان يقوله لي أبي في صغري أحياناً على سبيل اللوم: تخالف الآخرين دوماً فلا تفعل ما يفعله الناس جميعاً. هكذا كان جدُّك!
وينفذ صوت زوجتي إلى أُذني مقاطعاً تجليات طفولتي: ماذا دهاك؟ ما لكَ ذاهلٌ هكذا؟ لقد بلغنا مقصدنا، بكلّ بساطة، أكاد لا أصدق نفسي!
دلفنا إلى المنزل، فألفينا أثاثاً بكامل عُدّته، حتّى الستائر المرتعشة بفعل النسيم على الشبابيك، كأن الأهل غادروه ذلك الصباح، لولا غلالةٌ رمليةٌ استوتْ على الأسرَّة والجدران. انتقلنا من غرفةٍ إلى أُخرى، وقلبي يحدوه الحنينُ، فيزداد خفقاناً، ويحرقه الوجد فيذوب ذوباناً. ثمَّ ارتقينا السلَّم إلى الطابق العلويّ. وهناك وجدتُ مكتبة جدّي برفوفها الأنيقة وكتبها المُسفّرة، يتوسّطها مكتبه الذي دوّن عليه معظم مؤلَّفاته، التي من أجلها علّمني والدي العربيّة. وعلى الجانب الأيمن من المكتب، كان دفتر مذكراته. قبضتُ على جمر الحنين بمهجتي، وفتحتُ الصفحة الأولى، بأنامل مرتعشة، مثلما يفتح طفلٌ كتابه الأوَّل في المدرسة. وأخذتُ أقلّبُ صفحاته، وأتفرّس في الحروف المتراصة، أفترسها، والدهشة تجلّل وجهي:
20 أبريل 2081
اقتصادنا راكدٌ تماماً مثل مستنقعٍ آسن.
25 مايو 2081
البترول الذي ننتجه، هو السلعة الوحيدة في العالم التي ينخفض ثمنها باستمرار، خارقاً بذلك جميع المبادئ الاقتصادية. منذ أربعين عاماً، وسعر البرميل في انخفاضٍ دائم، هبط من أكثر من مائة وعشرين دولاراً إلى أقلَّ من دولار واحد!
3 يونيو 2081
مصادر الطاقة البديلة تجعل من بترولنا سلعة بائرة، شيئاً تافها لا قيمة له، مادة قذرة تتجنبها الأيدي، إنّه فحم القرن الحادي والعشرين. حتّى في بلادنا لا نستطيع الاستفادة من البترول. فجميع الآلات والمحركات والسيّارات التي نستوردها، لا تعمل بالبترول مطلقاً.
30 يونيو 2081
العمال والمستخدمون الأجانب يغادرون البلاد بكثافة، لا لتمضية العطلة الصيفيّة مع أهاليهم، وإنّما إلى الأبد، بسبب انخفاض الأجور التي لم يقبضوها منذ شهور. قبل عشر سنوات، كنّا نسعى إلى طرد العمّال الأجانب الذين لا يتوفرون على رخصة إقامة صالحة؛ أمّا اليوم فيصعب علينا استقدام العمّال والتقنيّين اللازمين للتسيير. لقد نضب المال الذي كان يجذبهم إلى المدينة، فغادروها. أمّا نحن، فجذورنا جذورُ نخلةٍ تضرب بعيداً في أعماق التربة، وليس في مقدورها أن ترحل مع الريح كالأشنات.
25 يوليو 2081
اضطر كثيرٌ من الناس إلى تمضية الليل في العراء، ليصيبوا شيئاً من النوم.فقد بلغت درجة الحرارة اليوم ،أكثر من خمسين درجة مئوية. وأجهزة التبريد في عددٍكبيرٍ من العمارات معطَّلة، بسبب انعدام الصيانة. فأمست الصناديق الأسمنتية المسماة بالشقق، قِطعاً من جهنم لا تطاق.
30 يوليو 2081
الشباب الذين تهاطلوا على المدينة أيام ازدهارها، قادمين من الواحات القريبة والقرى البعيدة، طمعاً في حياة أفضل، شرعوا بالعودة إلى منابعهم. لم يعُد بوسع المدينة أن تقدّم لهم أحلامهم على طبقٍ من ذهب، فتخلّوا عنها. أمّا نحن، فلن ندير ظهورنا إلى مدينتنا. كنّا هنا عندما كانت بيوتنا مبنيّة من الطين قبل خمسين عاماً، وبقينا هنا عندما تحولت إلى إقامات من المرمر والإسمنت، وسنبقى هنا متمترسين في مواقعنا، حتّى بعد أن يتفتت المرمر ويتهرَّس الإسمنت. إنَّ الذي يحزّ في نفوسنا، هو الجفاف الذي أصاب عقولنا. لم يخرج أيٌّ منا بأيِّ بدائل مقبولة.
20 أغسطس 2081
لقد وقع ما كنتُ أخشاه. المياه التي تصلنا من محطة تحلية مياه البحر، أخذت في التناقص، ثمّ في الانقطاع ثلاثة أو أربعة أيام في الأسبوع. نلجأ الآن إلى تخزين الماء في صهاريجَ منزليّةٍ احتياطاً.
15 سبتمبر 2081
ها قد تغيّر طعم الماء كثيراً. إنّنا نشرب ملح البحر في قهوتنا، ولم يعُد بمقدور السكّر تلطيف مذاقها. ولكنَّ الأمرَّ والأدهى هو انقطاع الماء عنا لفتراتٍ أطول فأطول. لا ماء كافٍ للشرب، بله سقي الشجيرات اليتيمة الذابلة في المدينة. إنّها تموت واقفة. إنّه انهيار سدِّ مأرب الجديد.
10 أكتوبر 2081
مئات من الشقق التي غادرها ساكنوها، فارغة؛ وعشرات من العمارت مغلقة بكاملها، لا تجد من يستأجر شققها أو يشتريها بأبخس الأثمان. أزمةُ السكن التي عالجتها صحافتنا بإطناب قبل أربعين عاماً أمست نكتةً قديمةً مؤلمة.
30 نوفمير 2081
لم يعُد هنالك عمّال أجانب في المدينة ليغادروها. ولم يبقَ فيها من المهاجرين إليها ممن لم يعُد إلى واحته أو قريته. لذلك جاء دور أهلها الأصليِّين. فقد سمعتُ أن صديقنا عبد الله قد رحل وعائلته الأسبوع الماضي، دون أن يحاول بيع منزله أو أثاثه ودون أن يودّعنا. أمَّا نحن فباقون هنا. جذورنا ملتحمةٌ مع تربتنا التحاماً لا فكاك له.
31 ديسمبر 2081
غادر جارنا عبد المجيد وعائلته المدينة بسيّارته قبيل الفجر. لم يحتمل رؤية عيوننا وهي تشيّعه. ولم يحتمل الجفاف ونقص الخدمات التي اعتاد عليها. فاختار أن يتلفَّع بسواد الليل خارجاً من المدينة. بيدَ أنّا سنبقى، وستمتد جذورنا إلى أعماق الأعماق باحثةً عن قطرة ماء، ولتتساقط الأوراق الصفراء من أعالي الأغصان.
5 يناير 2082
تواترت الإشاعات حول احتمال انقطاع الماء من محطة تحلية مياه البحر بصورة نهائيّة. والآبار التي ما زالت في أطراف المدينة لا تسدُّ حاجتنا من الماء. شبح العطش يطلُّ علينا مع مطلع العام الجديد.
1 فبراير 2082
منذ شهر جفّ مداد قلمي بصورة مريعة، لأنّ الصحيفة اليومية المتبقية الوحيدة توقّفت عن الصدور في آخر يوم من أيام السنة المنصرمة. كنت أظن أنّني أكتب إشباعاً لحاجة ذاتيّة، أو رغبة في التعبير عن أحاسيسي، أو للهروب من واقعي الخانق إلى عالم متخيل أرحب. ولكنَّني اكتشفت اليوم أنّني كنت أكتب للتواصل مع الآخرين. وعندما انقطعت جسور التواصل معهم أحجمتُ عن الكتابة، أو بالأحرى أحجمتْ عني. لم أعُد أدوّن إلا مذكّراتي الحميمة بين الفينة والفينة. لِمن أكتب؟ غداً ستذرو الرياحُ أوراقي، وتطمس الرمالُ كلماتي.
18 فبراير 2082
أَسرَّ إليّ أخي الكبير اليوم أنّه وأفراد أُسرته عازمون على الرحيل قبل حلول الكارثة، ونصحني بمصاحبته، قائلاً إنّه على الرغم من إصراري فإنّ دودة القلق تمتصّ الدم من وجهي، وإنّ الخوف يتراقص على شفتي وأصابعي، ولا بدّ من الخروج من مملكة الخوف والقلق. أجبتُه قائلاً إنَّ سعفات النخلة قد تهتز مع الريح، ولكنَّ جذورها ثابتة في الأعماق. قال: “سنرى” وانصرف.
20 فبراير 2082
لم تبقَ لي سوى المذكّرات، هي ملاذي الوحيد. ألجأُ إليها هروباً من الصمت. أحتمي بها من العزلة التي تخنقني، العزلة التي يفرضها الجفاف، العزلة التي تُحكمها الصحراء على خناقي، العزلة الناتجة من تلاشي الحياة الاجتماعيّة في هذه المدينة المُحتضِرة. أبثُّ مذكّراتي أشياءَ لا قيمة لها، أشياءَ تافهة، أشياءَ لا تغيّر المصير المُترصِّد بنا أبداً، ولكنّها تمنحني فرصةً للثرثرة مع نفسي فتعوضني عن الصديق والرفيق، وتجعلني أتأمّل في مشاعري وسلوكي فأشعر أنّني ما زلتُ أحيا.
21 مارس 2082
يا لسخرية القدر! لقد اقتحم مدينتنا مسخ الجفاف ممتطياً صهوة الربيع. اليوم انقطع الماء من محطة تحلية مياه البحر بصفة نهائيّة. وهكذا يتضافر جفاف صنابيرنا مع جفاف أرواحنا.
22 أبريل 2082
أهالي المدينة يغادرونها جماعاتٍ جماعاتٍ كالطيور المهاجرة. إنّه موسم الهجرة إلى جميع الاتجاهات.
5 مايو 2082
درجة الحرارة تتمادى في الازدياد، والماء الذي نستدرُّه من البئريْن المتبقييْن، يوشك على النضوب. والصيف على الأبواب.
6 يونيو 2082
العوائل القليلة المتبقيّة في المدينة تجمّعت في شارعنا، وانتقت الإقامات التي تناسبها فيه، وأطلقنا عليه شارع الصمود.
1 يوليو 2082
معظم الصامدين يتحدّثون الآن عن التوجّه إلى الخارج لتمضية العطلة الصيفية. إنَّها مجرد ذريعة. ولكنّني لا أستطيع التخلّي عن مهد الذكريات.
8 يوليو 2082
لم تبقَ في شارع الصمود إلا عائلتنا. إنّه سجن انفرادي قضبانه مشرعة على الصحراء، وعزيمتنا يحملها صاروخ منطلق إلى تخوم الاستسلام.
11 يوليو 2082
ما فائدة انغراز جذور النخلة في أعماق التربة، عندما ينقصم جذعها، وتهوي إلى الأرض؟ الجفاف يطلّ علينا بوجهه الكالح، من كلّ حدب وصوب.
14 يوليو 2082 الجفاف يغيّض آخرَ قطرة في آخر بئر. الجفاف يشرب دماء قلبي. الجفاف ينشّف مداد قلمي. إنّي راحل