لا جدال في كون العلاقة بين المغرب وفرنسا في تطور مستمر منذ عقود، تطور أملته جهود المملكة في مجال قيادة التغيير بحكمة وتروي في أفق تحقيق مشروع المجتمع الديمقراطي الحداثي المعلن رسميا من طرف أعلى سلطة في البلاد. الطموح المشروع تاريخيا بالنسبة للشعب المغربي هو إقناع الجمهورية الفرنسية وأوربا بالبراهين الثابتة أن المغرب لا يستحق إلا مرتبة الشريك الإستراتيجي النافع لكل الأطراف بسيادته التنموية على ترابه وبروحه الوطنية الجامعة المتجدرة في أعماق التاريخ.
لقد مر العالم من هزيمة نابليون التاريخية وما تلاها من إجراءات تثبيت القواعد الداخلية لأوروبا، وتم الإجهاز على قرارات مؤتمر فيينا بنشوب الحرب العالمية الأولى وويلاتها على القارة العجوز، واستنزفت قرارات معاهدة فرساي بفعل تداعيات الأزمة الاقتصادية العالمية لسنة 1929 وظهور الفاشية والنازية، وارتباك وظيفة ومهام الأمم المتحدة بفعل الحرب الباردة، واختلالات النظام العالمي الجديد الذي لم يحقق الديمقراطية والسلم والأمن والرفاهية للشعوب والأمم. إنها الاعتبارات التي دفعت المتتبعين إلى الإفصاح بانتهاء هذه المنظومة. لم يعد اليوم هناك أي مبرر بالتشبث بالنزعة الإمبراطورية والشعور بالتعالي في العلاقات الدولية ما بين دول الشمال ودول الجنوب. المغرب يتشبث بحق المغاربة في التمتع بنعم انتمائهم المغاربي والعربي، ويسعى لتقوية العلاقات بشكل نهائي مع دول المنطقة الإقليمية والجهوية، وبالتالي تمتيع الشعوب بمزايا التكامل الطبيعي والاقتصادي والثقافي التاريخي. كما لا يدخر أي جهد لتأهيل ترابه في كل المجالات وتحويله إلى قاطرة لنماء دول القارة الإفريقية.
وعودة إلى قراءة مقال الأخ لحسن العسبي الذي تم نشره في جريدة الاتحاد الاشتراكي عدد 10930 بتاريخ 11 فبراير 2015 تحت عنوان “هل انتهت المشاكل بين الرباط وباريسỊ”، وجدتني متحمسا لتخصيص مقال ثان لهذا الموضوع الهام وفي هذه الظرفية الدولية الحرجة. موضوع العلاقة التاريخية ما بين المغرب الأقصى والجمهورية الفرنسية يستحق التحليل والمتابعة لما له من مزايا على مستقبل القارتين الأوروبية والإفريقية. هذا الاستحقاق دفعني كذلك إلى استحضار كتاب ادوارد سعيد حول “الاستشراق”، الذي حضي باهتمام كبير بالرغم من الانتقادات التي هاجمت الكاتب من بعض الكتاب الغربيين والمستغربين العرب.
وأنا أعيد قراءة مقال الكاتب لحسن العسبي، فكرت مباشرة في حاجة فرنسا إلى نوع من الإبداع السياسي لاستنباط الكنه والثراء الكامن للعلاقة التي تجمعها مع المغرب. لقد أسهب العسبي في حديثه عن كون العلاقة ما بين فرنسا والمغرب تحتاج اليوم إلى تجاوز أزمات سوء التدبير. الوعي الفرنسي بضرورة تجاوز المنطق القديم المؤطر للعلاقات بين الرباط وباريس (منطق مؤتمر الجزيرة الخضراء لسنة 1906 ومنطق عقد الحماية لسنة 1912) هو مطلب استعجالي تفرضه المصالح العليا للبلدين. في هذا الصدد، دعا الكاتب النخب الفرنسية بكاملها إلى ضرورة تغيير الرؤية بنظارات جديدة لا تترك أي مجال لإمكانية الرجوع إلى الوراء (القرن الماضي). المبررات التي قدمها لحسن، وهي تصب في تأكيد الاستثناء المغربي وخصوصيته على المستوى الإقليمي والجهوي، ليست نابعة فقط من اعتزازه بانتمائه، بل هي مبررات موضوعية دامغة ومقنعة.
إن دوافع العسبي تتناغم وتحليلات ادوارد سعيد في شأن تحليل وتفصيل العلاقة التاريخية ما بين دول الشمال والجنوب، والتي التقطت منها نقطتين هامتين:
- أعمال الاستشراق في القرن الماضي، كما جاءت في كتاب ادوارد سعيد، كانت أعمال سياسية خاضعة للسلطة، أي كونها أعمال خاضعة للطلب، والغرض منها تحويل العلاقة ما بين الشرق والغرب إلى قوة وسيطرة. بذلك يكون الاستشراق حالة حيوية بين الأفراد المؤلفين والمؤسسات السياسية، حالة لا يمكن أن تعطي المصداقية للصورة التي يريد الغرب تسويقها في شأن المستشرق (بطل تاريخي اجتماعي خرج من براكن الفكر الغربي لينتقد العالمين العربي والمغاربي لمنحه الحرية والعقلانية التي لا وجود لها في شخصه ومجتمعه). وهنا أشير أن الخصوصية المغربية في تحقيق التراكم السياسي يجب أن تكون مؤشرا يدفع الغرب بصفة عامة، وفرنسا بصفة خاصة، إلى تجاوز منطق القرن الماضي الذي ربط بالواضح الاستشراق بزمن الامبريالية (المغرب فرصة لا تعوض للغرب للتعبير على منطقه الإنساني في الدعم). وهنا، فالحديث عن الاستشراق في الوقت الراهن لا يعني الحديث عن الآليات، بل يعني المنطق والأهداف. وبذلك يكون الاستشراق بحلته القديمة متجاوزا ولا يمكن أن يكون عنصرا من عناصر الثقافة السياسية الحديثة. إن المغرب، كنموذج دولة عربية مغاربية استطاعت بالسياسة خلق الاستثناء زمن ما يسمى بالربيع العربي (فوضى بدون زعامات)، يحتاج إلى دعم غربي (فرنسي وبريطاني وأمريكي على الخصوص) بمنطق بناء الديمقراطية والحداثة. فما أبانت عليه التطورات من تحولات لدى القوى الغربية العظمى تميل منذ سنوات مضت إلى فتح المجال لإدماج التيارات الإسلامية المعتدلة وتمكينها من نوع من الامتياز والدعم للحصول على المراتب الانتخابية المتقدمة (التحولات التي عنونها المتتبعون بشعار إعادة تشكيل خريطة سياسية جديدة للشرق الأوسط الكبير ودول شمال إفريقيا)، لا يجب أن تصب منطقيا في آخر المطاف إلا في إطار إستراتيجية محكمة لترسيخ الديمقراطية السياسية والحداثة الثقافية في بلادنا. وبينت التجربة المغربية أن هذه الإستراتيجية أعطت ثمارها بشكل واضح، ليبقى تمتين منظومة إنتاج النخب من أولويات تحقيق ديمومة نجاعة السياسات العمومية، وتثبيت الأمن العام والاستقرار قطريا وإقليميا وإفريقيا.
- هناك صراع ذاتي للفرد الغربي تجاه الشرق والغرب شمال إفريقي يتأرجح ما بين المفهوم الإنساني والمفهوم الاقتصادي. وهنا نقول كذلك أن كل من يتتبع أوضاع المغرب يتأكد له حرصه الشديد على خلق التقدم في الواجهتين السياسية والاقتصادية بشكل متوازن، وبذلك يكون وضعه في ابتعاد مستمر عن منطق ربط امتلاك الأقليات للثروة الوطنية كأساس لتحقيق السيطرة السياسية. وهنا فالمصلحة الاقتصادية الغربية تقتضي مبدئيا دعم المغرب ليكون قاطرة لتنمية إفريقيا بدءا من الاعتراف بقدرته على التدخل لتقوية الوضع السياسي والأمني في دول الساحل جنوب الصحراء. لقد استطاع مغرب اليوم، بعد نضالات وتضحيات كبيرة، من تقديم نموذج للفرد المغربي البعيد كل البعد عن ما تمت إشاعته عن الإنسان الجنوبي زمن الاستشراق من أوصاف دونية كوصفه بالمتخلف وعدم المعرفة وأنه غير قادر على حكم نفسه بنفسه، وأنه في حاجة إلى وصي أو والي، أي المنتظم الغربي.
وبذلك تكون النَّزَعات، إن وجدت، للحفاظ على استمرار الترابط بين منطق القرن الماضي للدول الغربية (منطق الاستشراق) وأجندات الحاضر لا جدوى من ورائها ولا يمكن لها إلا أن تعطل مسار التاريخ. وأعتقد هنا لو كان المرحوم ادوارد سعيد حيا في زمن الوضعين المغاربي والعربي الراهنين، لتتبعنا بلا شك منطق تحليله لتقابل أحداث الماضي والحاضر بكل وضوح وجلاء. لقد عبرت التجربة المغربية كنموذج على نضج سياسي واضح بالرغم من ضعف موارد البلاد المالية (دولة لا تتوفر لا على بترول ولا على غاز). المسار الذي اتخذه المغرب ويسعى إلى ترسيخ مقوماته يحتاج اليوم إلى دعم غربي واضح لتحقيق الامتداد الإنساني عبر السياسة والاقتصاد إلى إفريقيا، امتداد يخدم أكثر، وبقدر كبير، المصلحة الغربية.
وعودة إلى مقال العسبي، في نفس السياق، تطرق هذا الصحافي، إلى كون المغرب، نتيجة لما حققه من تراكمات مؤسساتية واقتصادية وبنية تحتية هامة جدا، أصبح اليوم مؤهلا ليلعب دور الوسيط الجيوسترتيجي في مجال حركية السلع والخدمات والراسميل ما بين الشمال والجنوب، وبالتالي تحقيق المزيد من النمو في المداخيل المالية للأطراف المتعاونة والمتفاعلة والحد من توتر العلاقات ما بين دول الشمال والجنوب بسبب الهجرة. فالقراءة المتبصرة للمستقبل، يقول لحسن، يجب أن تدفع فرنسا بشكل خاص إلى الاعتراف بكون مغرب اليوم ليس مغرب 1912. لقد تحول إلى بلاد منفتحة على عمقها الجنوبي والأوروبي المتوسطي وجوارها الأطلنطي، ويستحق بذلك التعامل معه بمنطق الشراكة الإستراتيجية ليس بمنطق الوصاية. فبقدر ما تغير الشعب الفرنسي، تغير كذلك الشعب المغربي، وبقدر ما تحتاج العلاقة بينهما إلى عقل استثنائي، بقدر ما يحتاج الغرب الأوروبي إلى تقوية مكانته في صناعة القرار العالمي. إن تحقيق السلم والأمن وتنمية الجنوب عبر المغرب سيكون بدون أدنى شك عاملا أساسيا في الرفع من وثيرة التقدم الغربي اقتصاديا وعلميا وتكنولوجيا (الجانب المادي المصلحي في العلاقات الدولية). في نفس الوقت، سيشكل منطق التعامل ما بين الشمال والجنوب، بفعل التراكم، ثروة إنسانية ستعطي دفعة قوية لمبدأ حق الإنسان من الشمال إلى الجنوب، ومن تم من الغرب إلى الشرق، من تكريس قيم جديدة للعيش المشترك تقوده القوى الناعمة. إن بنية الدولة المغربية اليوم ليست اختراعا فرنسيا، بل هي مشروع في تطور مستمر، بنته وتبنيه أجيال هذا الوطن. إنه مسار سياسي يحد بشكل مستمر من تأثير الخونة ورواد الاستبداد والرجعية،…. ويتيح بمنطق تدرجي الفرصة تلو الأخرى للشباب لخدمة الوطن والمواطنين، ويقوي، برمزية ثورة الملك والشعب وتلاحم المغاربة مع العرش، الإجماع الوطني في شأن الديمقراطية والحداثة والحرية والوحدة الترابية.
على المستوى العقائدي، أصبح مغرب اليوم منفردا بطبيعة روحانيته نظرا للأدوار التي لعبتها وتلعبها مؤسسة إمارة المؤمنين مغربيا، ولامتداد صداها إلى العمق الإفريقي. فالتطور السياسي المغربي المستمر الطامح لتحقيق المزيد من العقلانية في ممارسة الشعائر الدينية (الإصلاح الديني) قد يجعله في المستقبل القريب ذا خصوصية ثقافية وأكثر قربا من العقلانية الغربية، وأكثر ابتعادا من التراث القديم ببدعه وخرافاته وأساطيره المكبلة لإرادة الفرد والجماعة. إنه الرهان الذي يحتاج إلى الدعم الإنساني والاقتصادي الغربي، دعم يمكن الدولة من تنفيذ سياساتها الطامحة لتعميم وترسيخ العقلانية في معتقد المغاربة، وبالتالي جعل الأساسيات والكليات في الدين الإسلامي آلية لخلق ثقافة حضارية في ملك المجتمع برمته، ثقافة لا يمكن لأحد أن يتجرأ على استغلالها “سياسويا”، ولا يمكن أن تساهم في إنتاج التطرف والإرهاب، ثقافة تقوي التضامن والتآزر والتسامح والمحبة ما بين أفراد المجتمع الواحد وما بين الشعوب كونيا. خيار الامتداد في اتجاه فضاء الحضارة الأوراسية أمر صعب، والانفتاح على إفريقيا بإمكانياته الزاخرة أفق واعد جدا.