بداية مفزعة دالة على ويلات حروب المصالح القاتلة التي لا تعبأ بالحق في الحياة. صرخة أليمة موجهة للضمائر الحية في المعمور ولمصادر القرار في مختلف الأمم. لم تحدد الكاتبة الزمان والمكان لتكرار حدوث هذه المصائب في زمن احتضار المنظومة النيوليبرالية. لقد جسد النص حالة ضياع وتيه ومعاناة ووأد الإرادات بدون منافذ. القنابل والصواريخ تتساقط فوق الرؤوس والمباني، وتحولت حوادث سقوط الضحايا أفرادا وجماعات وكأنها وقائع عادية (تناثر الصوت مع الحصى والأتربة، حتّت (سقطت) ريح القذائف البيوت، وإرادَتنا ).
كثرة الحروب تجاوزت طاقات المنظمات الإنسانية. المشردون والمهجرون قصرا تائهون (إلى أين سنذهب ؟!…. سكون كالموت رافق خطواتنا المرتجفة الباحثة عن مأوى)، ولا أمل في احتضان تراب الوطن الآمن مستقبلا. سائرون في طقس الصقيع ببراثنه التي تنهش لحم كل جزء من أجسام الفارين (برد يزوي الوجوه، يسيل الأنوف، يحجر العيون، صقيع يقشف الأبدان، يدق مساميره في الأعضاء، فتنتفض الأحشاء). يأتى الليل وتشتد الأزمات بأبعادها الجسمانية والنفسية بفعل ضغوطات الأوضاع وانعدام وسائل استضافة اللاجئين (في الظلام نتحسس أي قطعة قماش، أي بساط، أي وسيلة ندفع عنهم بها لحاف البرد).
تتقارع الأنظمة وتتناطح بالأسلحة الفتاكة. الأبعاد الإستراتيجية للمتصارعين لم تعد تعطي للروح البشرية وحقها في الوجود أي قيمة تذكر (لا ماء، لا كهرباء، لا كلمة حتى يحود بها اللسان لتكسر الوجوم).
قصة حزينة جدا تبين واقع الأمم المقهورة، وتجعل القارئ ينغمس في تأمل في شأن استعصاء بناء الأوطان الحاضنة والحضارات الحامية والرادعة لتداعيات صراع القوى المتقاتلة على المصالح القطرية. إنه وضع مأساوي أنهك الأبدان وشدد الحصار على التفكير في العودة إلى البيت المشيد فوق تراب الأجداد الذي اختزل في صور الماضي (مر يومان .. شهران .. سنة .. سنتان …مر زوجي مهاجرا أيضا.. مرت الأيام بعده …مرت على حواف الانتظار ….انتظار الفرج، انتظار لم الشمل؛ انتظار مبهم ختمته تأشيرة سفر .. .على باب المطار تأمّلت صورة بيتي الذي لم أودعه). تحدت البطلة المآسي بأوجاعها والكرب بلسعاته الماكرة، وتشبثت بأمل خافت، قبلت صورة بيتها، ثم قالت : سنعود بعد يومين.
النص الكامل للقصة
وين بدنا نروح …؟
قصة قصيرة / منى عز الدين
شقت صرختها جلباب المخيم المهترئ، و الفضاء، وصدري.
لمستُ قلبي المرتعش، على تواتر نبضه، ضبطت الروح، ستستيقظ رقصة الموت هناك.. …
– لا نملك الوقت، بسرعة إلى السيارة …يومان فقط ونعود
_وجبة ثانية للأولاد فقط..!
_ بسرع…
تناثر الصوت مع الحصى والأتربة، حتّت (سقطت) ريح القذائف البيوت، وإرادَتنا ..
انحشرت خطواتنا في الركام، مجاهدةً لمسابقة الحرائق حتى السيارة، وهناك بدأنا أخرى مع الموت الذي يتربص في منحنيات الطرق.
_إلى أين سنذهب ؟!
_لا أعرف
حطت بنا الرحال في بلدة مجاورة آمنة، تناثرنا في طرقات فرشها الجليد. برد يزوي الوجوه، يسيل الأنوف، يحجر العيون، صقيع يقشف الأبدان، يدق مساميره في الأعضاء، فتنتفض الأحشاء ..
لم أعد أسمع بكاء صغاري، بدوا كالتماثيل، تجمدت الدموع في الآماق، ويبست الأشداق …
سكون كالموت رافق خطواتنا المرتجفة الباحثة عن مأوى.
في بيت كبير ، كان قد خصصه أصحابه للتصييف، اجتمعنا مع عائلاتنا، تغطت أرضه الجرداء بأجسادنا وأقاربنا …
في الظلام نتحسس أي قطعة قماش، أي بساط، أي وسيلة ندفع عنهم بها لحاف البرد …
لا ماء، لا كهرباء، لا كلمة حتى يحود بها اللسان لتكسر الوجوم .
لا أدري أهو وجوم الحزن، أم الخوف، أم الترقب، أم كلُّ ما سبق.
كل صباح نكسر الجليد في البحيرة، ونكسر ضلعاً في الأمل، وتستعصي أضلاع الإرادة واالعزم …
تنتفخ الأيدي، تحمر ، تتخدر حتى ننتهي من الغسل ..
مر يومان .. شهران .. سنة .. سنتان …
مر زوجي مهاجرا أيضا.
مرت الأيام بعده …
مرت على حواف الانتظار
انتظار الفرج، انتظار لم الشمل؛ انتظار مبهم ختمته تأشيرة سفر .. .
على باب المطار تأمّلت صورة بيتي الذي لم أودعه، قبلتها قائلة :
سنعود بعد يومين..