مجموعة قصصية للأديبة الرائعة غادة اليوسف. أبت أن تغادر ذاك القاع الاجتماعي المنهك بكل مضامين قصصها التي انداحت في أزمنة وأمكنة وشخصيات مختلفة, ولكن ظل يجمعها كلها عالم واحد هو عالم الفقر والحرمان والجوع والتشرد والألم وغربة الجسد والروح… من جسر الشوك, مروراً بأنين القاع, و إيقاعات الليل, والخيام, ومن سفر المكابدات, وصولاً إلى سارة التي أعرف.
مع كل قصة من قصص المجموعة تجد نفسك أمام قاصة محترفة الكلمة وسرها.. تصوغ من كلماتها ليس روعة الوصف ودقته لمظاهر ما يقع نظرها عليه في حياة الطبيعة والإنسان, بل هي مصورة تشتغل على أحاسيس عالية الرهافة ومشبعة بمسؤوليّة الكلمة التي ترفض التعامل مع الواقع وإنسانه بمجانيّة بغية تحقيق شهوة الظهور والتبجح بالانا المجردة من وراء الاشتغال القصصي على قضايا الناس ومشاكلهم, لذلك جعلت من قلمها آلة فوتوغرافية مشبعة بالحدس المتخم بحب الإنسان وعالمه الداخليّ وبالوجدان والضمير, وهذا ما منحها القدرة على قراءة وجوه وحركات وسكنات أبطالها بعمق ليس له حدود, يساعدها في ذلك ثقافة أدبيّة وتجربة حياتيّة كبيرة قادرة على دخول أعماق النفس الإنسانيّة وما تقوم به من ردود أفعال تجاه الأحداث التي تتعرض لها.
غادة اليوسف.. مدهشة في قدراتها العقليّة وفرادة أحاسيسها المرهفة في معرفة الإنسان .. عندما تكتب عن شخصيّة ما تجعلك تشعر وكان هذه الشخصيّة هي من يتكلم.. هي من تعبر عن واقعها المعيش بفرحه وحزنه ورغباته وأشواقه وأحلامه وطموحاته… كما تشعرك وكأنك أمام حدث حقيقيّ, وما يروى لك هو جزء منك أنت أو منها هي. الأجمل عند غادة هو حسها الطبقيّ المرتبط بأهل القاع, حيث تشعر من خلال قراءتك لقصص المجموعة وكأنها هي من هذا القاع.. وربما هي منه, فمن لا يعيش الفقر والحرمان لا يمكن أن يُوَصِفَه أو يُعَبِرَ عنه.. ففاقد الشيء لا يعطيه.. غادة اليوسف, مرآة الفقراء في عيشهم ومعاناتهم .. في لباسهم ومأكلهم.. في فرحهم وحزنهم.. في طموحاتهم وآمالهم.. في بيوتهم وجدران غرفهم وطريقة عيشهم التي غالباً ما يبحثون فيها عن أفراح لا تتجاوز حضن دافئ لأم مريضة جسديّاً أو نفسيّاً أو حتى قيميّاً.. أو أب في أعلى طموحاته أن يسعى جاهدا لتأمين لقمة أفراد أسرته بشرف. أو هو منحرف يزيد في أسرته فقراً وشقاءً وغربةً جسديّةً ورحيّةً.
إن القاع الاجتماعي المعدم والمقهور والمستلب, لا يتجسد عند الأديبة المبدعة غادة اليوسف في بعده الاجتماعيّ فحسب, بل هو يمهد لعالم السياسة أيضاً.. ففلسطين وأهلها وخيامهم وتشردهم وعهر السياسة العربيّة في تعميق مأساتهم, يعيش في عقلها وروحها, فها هي تقدم لنا عبر قصة الخيام وقصة سارة المأساة الروحيّة لهؤلاء الذين لم يزالوا يحملون مفاتيح بيوتهم على رقابهم وعلى صدورهم وهم يأملون بالعودة, بكل ما تحمله ذكرياتهم التي عاشوها في وطنهم وتفاصيلها, وهي لم تزل في ذاكرتهم طريّة لم تشخ بعد أو يصيبها اليباس, وهنا يكمن سر الخلود عندهم, فهم لا يورثون أولادهم وأحفادهم تلك المفاتيح فحسب, بل يورثونهم كل أحلامهم بالعودة أيضاً.
غادة يا سيدة الكلمة.. لست ناقداً أدبياً يجيد النقد على أصوله.. إنما أنا كاتب ورجل استهواه الفكر والفلسفة, هكذا وجدتك يا سيدتي, فعذراً إن كنت قد قصرت في قراءتك كما ينبغي أن تقرئين.
د. عدنان عويد كاتب وباحث من سوريّة