لقد عبرت مجريات التاريخ أن فترات تسلط السذاجة والبساطة على تفكير مجتمع ما لا يترتب عنها إلا التخلف، وترعرع نزعات العنف وهدر الوقت وضياعه سدىً، وسيطرة الأفكار والبديهيات السطحية، وضعف النتائج النفعية للروح الجماعية. تتحول الفكرة السطحية إلى حقيقة مسيطرة، وتتجبر العشوائية في الفعل والقول، وتجد الدولة نفسها أمام أفراد لا يتقنون لا الدفاع على الفردانية بالطرق السلمية المشروعة ولا حماية الأمة بروح وطنية تعتز بسيادتها من الاختراقات الهدامة بشقيها الداخلي والخارجي.
إن كل متتبع للمشاهد السياسية العربية في تعاطيها مؤسساتيا ودبلوماسيا مع وباء كورونا المستجد منذ بداية انتشاره، وما تخللها من خطابات رجعية، فضاؤها المجتمع وروادها انتهازيون، لا يمكن له أن لا يلاحظ الربط التعسفي الجائر بين إجراءات الوقاية القانونية والميدانية ضد هذا الوباء ومحاربة الدين مؤسساتيا. طبعا، الغرض من هذا التشكيك في قرارات الدولة القطرية للحد من انتشار هذه الجائحة، خصوصا قرار إغلاق المساجد وأماكن العبادة الجماعية، وما أثارته من ردود أفعال، هو استغلال للأوضاع السائدة وتقلباتها من أجل خلق الفتنة.
بدوري، وأنا أتابع تلك الأحداث، خيم على مخيلتي سؤال محير في شأن حماية المجتمع من نفاذ “الحقائق” السطحية والساذجة بيسر إلى روحه وضميره الجماعي. لقد ثبت تيسير استفحال هذا النفاذ، وتم بالفعل الاستبداد على الفكرة العقلانية وتهميش مدلولها ووقعا، ولاذ أولي الألباب إلى الصمت خوفا من التهلكة وتهييج الرأي العام ضدهم. لقد برز بالملموس أن التماهي مع مثل هذه الممارسات الهدامة لا يمكن أن يترتب عنها إلا تردي ثقافة الحوار والتشاور والتضامن وهشاشة آليات إنتاج النخب، وبالتالي تصاب البنية المؤسساتية/المجتمعية بآفة رداءة معايير الاختيار وقصور الأجهزة الرسمية في أوقات الحاجة إلى اتخاذ القرارات المصيرية وتفعيلها. أما الوضعية الحرجة المهددة للاستقرار، كأساس للتنمية، فتتجلى في تمكن رواد التقليدانية والتفاهة والفساد من إفراغ الدورة السياسية الديمقراطية من مدلولها. تتفشى العشوائية بالتدريج، ويتكرس تقابل غير طبيعي ما بين عقل الأمة ونوابغها ووقع السياسات العمومية للدولة، وتنبثق عن هذا الواقع المتناقض مؤسسات بقدرات فعل ضعيفة في سياق زاخر بالطاقات والكفاءات في مختلف المجالات. المرأة مثلا تغزو فضاءات المؤسسات التعليمية والجامعية والمعاهد المختصة بنتائجها المرضية، ولا تجد الدول العربية من وسيلة لانتقاء البعض منهن للولوج إلى المؤسسات إلا اعتماد آلية ما يسمى بالتمييز الإيجابي (الكوطا والضمانة).
والعالم يعيش حربا ضروسا لمواجهة هذه الآفة الحانقة بطبيعتها، انتابني نوع من الانطباع، وأنا أتابع عددا من التفاعلات وردود الأفعال عربيا، الإعلامية منها على الخصوص، وكأن نتائج محاولات المواجهة المؤسساتية للمشككين، لم تكن في خدمة الهدف المطلوب. الهدف المحقق كانت نتائجه معكوسة. توجت مجريات الأحداث بانطباع أضفى طابع الفاعلية على رواد الفتنة. فما ترتب من تشنجات ونتائج غير منتظرة جراء سهولة الاختراق الوجداني للجماهير مكن تيارات الفكر التقليدي من كسب عطف فئات واسعة من المجتمع من خلال تصنيف المنتقدين العقلانيين في خانة العلمانيين المعادين للدين، ومهاجمتهم بعبارات لا تخدم إلا مصالح “الأنا” الابتزازية.
إن الاعتراف باستمرار تسلط الحقائق السطحية الساذجة على الروح الجماعية في منطقتنا العربية/المغاربية، وسهولة نفاذها إلى عقول الأفراد والجماعات، وسهولة تحقيق انسجامها وتنظيمها بزعامات فنون الخطابة الروحية، لا يمكن اعتباره إلا إعلانا رسميا مؤكدا لاستفحال المخاطر المهددة للاستقرار واستمرار الأنظمة السياسية. طبعا لا يكفي الوقوف أمام هذه المعضلة الفتاكة والوعي بتهديدات تطوراتها فقط، بل تستوجب استنهاض الهمم من أجل تقوية الروح الوطنية وإبراز حقيقة كون الأقطار السيادية بالمنطقة ليست عاقرة، وأتربتها لم تعد تطيق الاستغلال أو الاستعمار المباشر أو غير المباشر.
على عكس ذلك، المطلوب اليوم هو بذل الجهود المضنية للوقوف على الأسباب الموضوعية لتفشي الظاهرة التقليدانية بمرتكزاتها الواهية. الاستعجال في هذا الأمر تفرضه التطورات الكونية. لم يعد ممكنا العزف على وتر “ربح الوقت” والتخطيط على المدى البعيد لخلق توازن القوى السياسية. إن ضغط التطورات اليومية يستدعي الاستثمار في إبداع الحلول والاستراتيجيات الناجعة لخلق رأي عام عارف يعقلن النقاش داخل المجتمع، ويجود قدرة الأفراد على الفعل الجاد الانتقاء البناء.
التسليم بالحاجة إلى نقد ذاتي أمر ضروري، نقد ذاتي موضوعي ودقيق يضع النقط على الحروف بكل شفافية ونزاهة، ويعترف بمآسي سهولة نفاذ واستغلال الخطابات الشعبوية التقليدية، ويحدد لائحة روادها وتراكم ثرواتهم، ويمأسس لحرية البحث العلمي في مجال فحص إشكالية ضعف التعامل التاريخي لمجتمعاتنا الحالية مع الحقائق العقلانية لتاريخ الأجيال السابقة، وانزلاقها السريع في حافة الأوهام والتيه والتفاهة والعشوائية في الاختيار، وما يتمخض عن ذلك من عزوف سياسي ومن تفاقم للهشاشة في تفكير وتفعيل المؤسسات الانتدابية والتمثيلية المنبثقة عن التعبير المجتمعي.
كل كتاب المنطقة وأدبائها وعلمائها ومفكريها الصادقين يأملون أن تشكل التطورات الدولية، وتفاعلات الأقطار الممتدة من المحيط إلى الخليج مع المستجدات والتقلبات السريعة، رصيدا ثقافيا وسياسيا يستحضر معيقات السياسات العمومية لسنوات ما قبل وما بعد تسعينات القرن الماضي، ويفتح المجال على مصراعيه للانكباب بمستويات عالية من النجاعة والدقة في التفكير والتفعيل على خلق ضمير جمعي على مستوى كل قطر. ضمير واع بأهمية أبعاد انتماء الأفراد والجماعات إلى منطقة ترابية حضارية عالية، بصمت بأمجادها حقبا تاريخية بارزة، وارتقت عاليا جهودها المتواصلة للتكيف النافع مع مجريات الأحداث الكونية. والشعوب تعيش اليوم مطلع العشرية الثالثة من القرن الواحد والعشرين بتراثها الإيجابي والسلبي، لم يعد يخفى عنها أن الحقيقة اليقينية ليست مرتبطة بزمن دون آخر، وأن حقائق الحاضر ليست هي حقائق الماضي، وليست منفصلة عنها تماما.
في هذا الشأن، يمكن تصنيف الجرأة على اتخاذ قرار العودة لقراءة التراث على صعيد كل قطر كبداية، وقيادة الحسم في التمييز بين مرتكزاته العقلانية والتقليدانية من خلال حوار وطني مؤسساتي/مجتمعي منظم وعلمي، بالتركيز ثقافيا على مراحل الاستعمار وما قبلها وحقائق عقود الاستقلال، من أولويات الأولويات. إنها الفرصة التي ستمكن أجيال الحاضر من الاستعداد للمستقبل بتقوية قدراتهم على قراءة الحقائق العقلانية لتاريخ بلدانهم الزاخرة بالدروس والعبر وكنوز القيم والمعارف، والتفكير في تطويرها، متسلحين بمناهج فلسفة التاريخ وتاريخانية الأحداث المتعاقبة، وبحرص شديد لتحقيق جودة حقائق المستقبل التقدمية، حقائق تعتمد مبدأ تحقيق المنفعة الشاملة في التعاطي مع الماضي وتطورات الحاضر وتطلعات المستقبل.
الشيء الإيجابي في حياة شعوب المنطقة في هذه المرحلة الحساسة كونيا يتجلى بالواضح في رفض أجيال اليوم التسليم بطغيان السطحية في الفعل المجتمعي، والتعبير باللامبالاة أمام الخطابات الهادفة إلى ترسيخ استمرار التعسف الثقافي، تعسف فرض عليهم إهمال أو طمس حقائق أنوار الماضي المجيد ومقومات هويتهم الحضارية. إنها تعبيرات، تنبعث من حين لآخر هنا وهناك، مطالبة بتعميم آلية التنشئة العقلانية والتمكن من المؤهلات الذاتية لقياس المحسوسات والمعقولات التي تخيم على ذواتهم وعقولهم ليل نهار بفعل سهولة الولوج إلى فضاءات التواصل الاجتماعي المتعددة والمتنوعة. فصراع الأجيال، كظاهرة، أبرز الحاجة إلى توفير مقومات الأسرة العارفة بآباء وأمهات وأولياء يتمتعون بدرجات مقبولة في زعامة القيادة التربوية. الشباب تائهون ومستاؤون من اختلالات منظومة تلاقح أفكار ثلاث أو أربع أجيال متعاقبة. إنهم واعون أن هذه الإختلالات تشكل العرقلة الحقيقية الكابحة لعملية تأمل الأحداث التاريخية، واستخراج الملاحظات والدروس والعبر الضرورية، وطرح الفرضيات اللازمة، وإخضاعها للتمحيص والتحليل البرهاني أو التجريبي، ومن تم إعادة تركيبها بمنطق تطوري، ليفسح المجال لهم، أفرادا وجماعات، لتحويلها إلى حقائق يقينية صالحة لزمانهم، ونافعة لهم في الحاضر، وملهمة لهم لتوقع أحداث المستقبل.
إن استمرار وجود السطحية والسذاجة كسلطة مؤثرة في المجتمع، سلطة تعيق وتضايق الإبداع والابتكار والاجتهاد والتسامح والانفتاح عن الآخر، ليس بالمستوى المخيف المشابه لأزمنة إعدام الحقائق اليقينية وروادها. إن الشعوب العربية/المغاربية، بعدما تأكد لها قوة ارتباط واقعها مع شعوب العالم المتحضر، أصبحت تواقة، بوعي طافح، للتغيير والتحديث خدمة لمستقبلها، مطالبة بذلك بآليات حديثة لتجديد نخبها في مختلف مستويات المسؤولية المجتمعية والمؤسساتية، والانطلاق بوثيرة مقبولة في ورش الكشف عن أخطاء وعوائق الماضي التي حالت دون تمكينها من توسيع هوامش مجالات التفكير العلمي لأجيالها على أساس احترام تساوي الفرص، والاحتكام للوسائل المعرفية والمادية لمجابهة مختلف السلط الواهية التي كانت ولا زالت تستمد شرعيتها من شيوع الآراء السطحية والساذجة في المجتمع.
خلاصة
أمام التطورات الأخيرة التي عرفها العالم، لا يمكن لأحد أن ينكر كون شعوب المنطقة تحتاج اليوم إلى مخطط استعجالي حقيقي في مجالي الثقافة والتحديث. لقد حان الوقت لتوجيه الدعم المؤسساتي المادي والمعنوي، على أساس الاستحقاق ومعيار قوة الوقع، للفنون والثقافة والرياضة والفكر لخدمة الحداثة والديمقراطية. طموح التغيير الذي نلامسه لدى الشعوب لا يمكن أن تعطى انطلاقة تجسيده إلا من خلال التركيز على تفنيد الحقائق الساذجة والسطحية السالفة الذكر وزعزعة المنظومات الفكرية المقاومة للتطور، والمناوئة للمحفزات المجتمعية للرفع من مستوى الجدال العقلاني المكرس للشك المنهجي في الثقافات البالية السائدة، وبالتالي انتقاء الآليات والمناهج العصرية المساعدة على تحديد يقينيات جديدة، تمكن المجتمع من تجاوز بديهياته الزمانية والجغرافية الواهية.
إن الاستثمار الجدي في هذا التوجه الواعد لا يمكن موضوعيا إلا أن يحقق التكامل المأمول ما بين بلورة وتنفيذ الاستراتيجيات العمومية والخاصة، والتنشيط الثقافي والفني والرياضي المجتمعي، والتثبيت القانوني للحقائق اليقينية، وتقوية الروابط ما بين العلم والسياسة والأخلاق، وتحويلها إلى منبع لقيم الألفية الثالثة الضامنة لتصالح مصلحة الفرد مع مصلحة المجتمع وتقوية تلاحم الشعوب مع أنظمتها.