اعتاد المرحوم المهدي بنبركة التردد على مقر جريدة “العلم” في المساء، في إطار مهامه المتعددة كعضو في اللجنة التنفيذية لحزب الاستقلال. وبحكم المهام المسندة إلي شخصيا في الجريدة، والمتمثلة في الإشراف على عملية إعداد الجريدة للطبع، أي التنسيق بين أعمال المطبعة وقسم المحررين والمصححين، وتتبع ما جد من أخبار مهمة، فقد كان لي اتصال مباشر مع المرحوم المهدي بنبركة، الذي كان يزور الجريدة ليزودها بالمقالات الافتتاحية، أو بنصوص محاضراته وعروضه، خصوصا منها ما كان يلقيه من عروض توجيهية في المتطوعين في ورش تشييد “طريق الوحدة” الذي استهدف ربط شمال المغرب الذي كان خاضعا للاستعمار الإسباني مع جنوبه الخاضع للاستعمار الفرنسي.
وكما كنت ألاحظ، فقد كانت سنة 1958 أكثر السنوات نشاطاً في حياة الزعيم اليساري وأزخرها عطاء، من حيث التدبير السياسي، لا بالنسبة لحزب الاستقلال فحسب، بل وبالنسبة لعموم المغرب، مما كان يثير حفيظة خصومه السياسيين بمن فيهم المنتسبون للدوائر العليا.
في تلك الفترة كان قد تم نشر استجواب مطول باللغة الفرنسية، تعرض فيه المهدي بنبركة لما تنوي الدولة المغربية تطبيقه من سياسة اقتصادية واجتماعية وتنموية كما يراها، فسألت مرة السيد أحمد بنكيران أحد مساعدي المرحوم عبد الرحيم بوعبيد وزيرالقتصاد والمالية، وأنا أستعرض معه محتوى الاستجواب عن دور المهدي رحمه الله في إعداد ما ذكره من مشاريع في الاستجواب، فأجابني بأن المخطط الذي تعمل حكومة عبد الله إبراهيم على تنفيذه تم إعداده مع الملك الراحل محمد الخامس وبالاتفاق معه.
كان المهدي بنبركة يتولى في تلك الفترة من التاريخ، التي أعقبت الحصول على الاستقلال، رئاسة المجلس الوطني الاستشاري، المتكون من أعضاء معينين من القصر الملكي وينتمون إلى مختلف الحساسيات السياسية والدوائرالاقتصادية والمهنية. وبحكم منصبه السامي وبما كان يتمتع به رحمه الله من حيوية ورحابة فكر وقدرة على الابتكار، كانت له مساهمة في مختلف ما كان يدبر من سياسة في الدولة، ولم يكن ذلك يشغله عن الاهتمام بالتوعية الموجهة لعموم المواطنين، إذ كان رحمه الله يتنقل في مختلف المدن لإلقاء محاضرات أو للاتصال بمناضلي حزب الاستقلال، قبل أن يتسرب الانقسام السياسي وحتى المذهبي إلى هذا الحزب، ويؤدي إلى القطيعة في يناير 1959، مما أسفر عن تأسيس قادته اليساريين بعد ستة شهور الاتحاد الوطني للقوات الشعبية في سبتمبر من نفس السنة، وكانت هذه الفترة قد شهدت وجود تنظيمين: الأول، احتفظ باسم حزب الاستقلال. والثاني، تأسس باسم “الجامعات المتحدة لحزب الاستقلال”. وقد تصدى لهذا التنظيم، الذي انبثق عن تجمعات شعبية في أهم المدن، قادة عديدون من الحزب، بزعامة المرحوم الزعيم علال الفاسي وبالتحالف الواضح مع ولي العهد الأمير مولاي الحسن، الذي تولى الملك إثر وفاة والده المرحوم الملك محمد الخامس في مستهل سنة 1961.
كان حزب الاستقلال الذي خرج قويا من معركة استرجاع المغرب لاستقلاله، قد شهد ابتداء من سنة 1958 صراعا بين جناحين، أحدهما يساري معزز بالاتحاد المغربي للشغل الذي كان المنظمة النقابية الوحيدة بالمغرب، بزعامة المرحوم المحجوب من الصديق، وبمنظمة المقاومة بزعامة المرحوم الفقيه محمد البصري. أما الجناح الآخر فكان يطلق عليه، ربما تعسفا، اسم “الجناح اليميني”، وذلك لأنه كان يضم نخبة من الأطر الحزبية القريبة في أفكارها من اليسار، لكن انضمام رجال الأعمال وكل الذين كانو يتطلعون إلى المساهمة في بناء اقتصاد البلاد عن طريق الكسب الشخصي إلى الجناح الثاني أضفي عليه صفة اليمين.
كان الصراع بين الجناحين قد بدأ قبل تأسيس حكومة عبد الله إبراهيم، التي أطلق عليها تجاوزا وصف “حكومة يسارية”، إذ ترجع هذه التسمية إلى تولي منصب رئيسها ومنصب وزير الاقتصاد فيها إلى يساريين حقيقيين في توجهاتهم، وإن كان من المرجح أنهم كانوا برغماتيين، أي عمليين أكثر منهم يساريين، وكان هدفهم بناء اقتصادي وطني يتخلص من هيمنة الرأسمال الفرنسي على اقتصاد البلاد.
كنّا نحن العاملين في” العلم” نشعر بوجود ذلك الصراع المحتدم بين جناحي حزب الاستقلال، وكانت التعليمات التي تلقيناها أن نتجنب نشر أي شيء عن ذلك الصراع، لتظل الجريدة الناطقة باسم الحزب محايدة، ولم نكن ننشر أي شيء عن اجتماعات اللجنة التي تشكلت لمحاولة تحقيق تصالح، ولو سياسيا في حظيرة القيادة الاستقلالية.
مرة تلقيت في الجريدة زيارة المقاوم مولاي عبد السلام الجبلي، الذي كان عضوا في لجنة المصالحة، جاء خصيصا ليحول دون نشر صور لاجتماع تلك اللجنة، ربما لأنه كان يعيش تحت اسم مستعار في أوراق تعريفه الإدارية، ولا يريد أن يعرف باسمه الحقيقي، الذي خول له عضوية لجنة المصالحة الحزبية نيابة عن منظمة المقاومة، التي كان لها صدى ونفوذا في البلاد، وكانت قد حولت نضالها المسلح تحت قيادة المجاهد بنسعيد آيت إيدر إلى الصحراء الجنوبية لتحريرها من الاستعمار الإسباني.
في جو الخلاف الذي كان سائدا في حزب الاستقلال، تأسست حكومة عبد الله إبراهيم سنة 1958، ولم يكن على ما يبدو قد أحرز تشكيلها على موافقة قادة الجناح اليميني لحزب الاستقلال الذين لم يحظوا بنصيبهم فيها. وعشية يوم تنصيب هذه الحكومة، بعد أداء القسم بين يدي الملك محمد الخامس، تلقيت أنا وزميلي المرحوم عبد الجبار السحيمي نص مقال للنشر في “العلم”، ولما رأينا أن محتواه لا يتطابق مع تعليمات التزام الجريدة بالحياد، اتصلنا بالمهدي بنبركة لنشعره بالأمر، فأبدى رغبته في الاطلاع على فحوى المقال. ونحن في زيارته بمكتبه بمقر المجلس الوطني الاستشاري، اتصل المهدي بعد قراءته للمقال بالمرحوم محمد بنشقرون، الذي كان يتولى السهر على شؤون الحزب بمقر الأمانة العامة بباب الحد في الرباط، وأبلغه استياءه من عدم استشارته في اتخاذ موقف معارض لما تمت عليه عملية تشكيل حكومة عبد الله إبراهيم، رغم كونه عضوا في اللجنة التنفيذية لحزب الاستقلال. وقد اتفقنا مع المهدي على عدم نشر المقال في الجريدة، وهذا ما أغضب أصحاب المقال الذين بعثوا به إلى الجريدة، بعد صياغته بتعليمات من الأمين العام لحزب الاستقلال الحاج أحمد بلافرج، الذي كان يتولى منصب رئيس الحكومة إلى جانب منصب وزير الشؤون الخارجية. وفي اليوم الوالي صدرت “العلم” خالية من المقال، فأثار امتناعنا عن نشره زوبعة سياسية، بدا فيها مدى أهمية دورنا كمنتسبين إلى الجناح اليساري للحزب، فتم إلحاق عناصر جديدة بقسم التحرير في محاولة لجعل الجريدة في خدمة الجناح اليميني، بعد أن أدى تأسيس حكومة خاضعة لتوجهات اليسار إلى استبعاد حدوث مصالحة في حظيرة قيادة حزب الاستقلال.
لم يكن ما حدث من شقاق وتصدع في حزب الاستقلال، بصفته القوة السياسية المهيمنة على الصعيد الوطني، قد أثر على شروع حكومة عبد الله إبراهيم في تنفيد المخطط الاقتصادي الذي تم الاتفاق على تطبيقه مع الملك الراحل محمد الخامس، وهو مخطط واسع استهدف تزويد البلاد بمؤسسات ومقاولات عمومية لتخليص الاقتصاد الوطني من هيمنة رأس المال الفرنسي، فكان أن تم تحويل البنك المخزني المغربي، الذي كان خاضعا للبنك الفرنسي (باري بايي با)، إلى بنك المغرب، وتحويل العملة المغربية من الفرنك إلى الدرهم وفصلها عن منطقة الفرنك. كما تم تحويل شركة السكك الحديدية إلى المكتب الوطني للسكك الحديدية، في عملية شبيهة بالتأميم، وتم تأسيس بنك الإنماء الاقتصادي، وصندوق الإيداع والتدبير، والبنك المغربي للتجارة الخارجية، الذي كان من المؤسسات التي تحولت إلى القطاع الخاص، بحيث أصبح من أكبر البنوك على الصعيد الإفريقي وينتشر بفروعه في مختلف أنحاء العالم،ويرأس هذا البنك اليوم السيد عثمان بنجلون أحد أكبر أغنياء المغرب.
لست هنا بصدد استعراض ما أنجزته حكومة عبد الله إبراهيم بالنسبة للاقتصاد الوطني، وهو كثير شمل أيضا ميدان الطاقة. وهذا ما ألب عليها الأوساط الرأسمالية المغربية، التي تحالفت مع الرأسمالية الفرنسية بالمغرب، وعملوا معا على إزاحة وإسقاط هذه الحكومة، لكي يتحول مسار الاقتصاد الوطني المغربي في الاتجاه الذي يخدم أهداف تلك الأوساط. ومن جهة أخرى، فإنه لم يكن خافيا أن ولي العهد الأمير مولاي الحسن كان يطمح في أن يمارس الحكم مباشرة لتدبير شؤون البلاد، وهو ما لم يكن متاحا له مع وجود حكومة تعمل مباشرة تحت إمرة والده. ويبدو أن محمد الخامس خضع لإرادة ولي عهده، الذي كانت له مبرراته لتتولى المؤسسة الملكية الحكم مباشرة، وليس عن طريق حكومة، ربما كان لأعضائها وأنصارها من القادة السياسيين توجهات لا تتطابق مع توجهات القوى السياسية التي تحالفت مع ولي العهد الأمير مولاي الحسن، الذي تولى الملك خلفا لوالده، واستمر في الملك من أوائل سنة 1961 إلى منتصف سنة 1999.
لنرجع إلى سنة 1958، لنتعقب ما كان يقوم به الزعيم اليساري المهدي بنبركة، ففي هذه السنة كان رحمه الله قد حقق إحدى أمنياته التي تمثلت في ورش “طريق الوحدة”، الذي كان يستهدف من ورائه تكوين جيل من المتطوعين المتمرسين على العمل، والمتكونين كأطر، لما كان يتصوره أو يتخيله من مشاريع البناء، إذ كان المتطوعون في ورش “طريق الوحدة” يتلقون تكوينا ثقافيا بواسطة عروض ومحاضرات يقدمها مناضلون ومثقفون، كان المهدي بنبركة يسهرشخصيا على تنظيمها، ويحرص على أن تنشر في جريدة “العلم”، التي كان يتردد على مطبعتها ويبدي تعاطفه مع العاملين بها. وقد أتاحت لي زياراته لمقر الجريدة الاحتكاك به والاستفادة من توجيهاته التي كان يحرص على تقديمها لكل من حواليه.
ولقد استغل عمال مطبعة “العلم” تعاطف المهدي معهم، فقدموا له شكوى تمثلت في عدم استجابة مدير الجريدة عبد الجليل القباج لطلبهم الاستفادة من قرض لمواجهة متطلبات عيد الأضحى، الذي كان على الأبواب، فكانت الاستجابة منه على الفور، إذ استدعى المكلف بصندوق مداخيل الجريدة، واسمه سليمان، وقد غاب عني لقبه العائلي، فطلب منه الإتيان بكل ما في الصندوق وقدمه لمندوبين عن العمال ليوزعوها عليهم، وأعطى تعليماته بأن يكون ما قدم إليهم منحة العيد، تقديرا منه رحمه الله لما يقدمونه من خدمات لفائدة جريدة الحزب.
لقد أتاح لي انتسابي إلى أسرة “العلم” أن أحتك بالفقيد المرحوم المهدي بنبركة، من خلال زياراته المتكررة للجريدة، وأتاح له هو شخصيا التعرف على نشاطي في الجريدة، وكان ذلك سببا في ترشيحه لي لأنتسب إلى أسرة جريدة “التحرير”، وقد استدعاني لأصاحبه إلى الدار البيضاء في سيارته قصد الحضور في اجتماع كان أول فرصة أتعرف فيها على المجاهد عبد الرحمان اليوسفي، وعلى الفقيه محمد البصري. وبانتسابي لجريدة “التحرير” التي انتقلت من أجل العمل بها من الرباط إلى الدارالبيضاء، بدأتُ حياة جديدة في عالم الصحافة النضالية، التي كانت تمثلها هذه الجريدة، والتي استمر إشعاعها مع جريدة “المحرر”، وكان فرسانها من المناضلين والمجاهدين الذين تركوا ذكراهم الخالدة في تاريخ المغرب المعاصر، وأذكر من بينهم على الخصوص محمد عابد الجابري، ومحمد باهي حرمة، والشهيد عمر بنجلون، ومحمد الحبيب الفرقاني، ومحمد الوديع الأسفي، ومصطفى القرشاوي (رحمهم الله جميعا)، والشاعر أحمد صبري شفاه الله.
أتيت على بعض ما اختزنته الذاكرة عن تلك الفترة الخالدة من تاريخنا المعاصر، التي كتب لي أن أعيش أحداثها وأن يكون لي حظ الاحتكاك ببعض رموزها، ممن ذكرت أسماء بعضهم، لأضيف إليهم في نهاية مقالي اسم المناضل الكبير المرحوم عبد الرحيم بوعبيد، الذي لمست من التعامل معه في جريدة “المحرر” مدى تواضعه وإخلاصه لهذا الوطن، وهو الرجل الذي أجمعت الأمة المغربية، من خلال الجنازة العظيمة التي شيع أثناءها جثمانه الطاهر إلى مرقده الأخير، على تخليد اسمه من بين الرجال العظام لهذا الوطن العظيم.
الدار البيضاء 21 مارس 2022.
عن صحيفة ” السؤال الان :
(1)
(2)