خاص موقع صحيفة المثقف: يستضيف موقع صحيفة المثقف, الباحث الأكاديمي الأستاذ الدكتور عدنان عويّد، ضمن مرايا فكريّة، وحوار شامل أجراه معه الأستاذ الباحث مراد غريبي، حول قضايا الفكر والهوية واللغة والنهضة في العالم العربي، فأهلا وسهلا بهما:
المحور الأول: قضايا الفكر والهويّة والتراث:
س11: ا. مراد غريبي: ثمة تناقضات أيديولوجية حادة في التراث الدينيّ أربكت الفكر العربيّ المعاصر، حيث عقدت طرح الإشكالات الاستراتيجيّة، الأمر الذي بات يتطلب مراجعة نقديّة للتراث تذهب إلى جذور المآزق التاريخيّ في مدوناته وإفرازاته، من أجل تجاوز دوامة الإخفاق التي تحاصر الواقع العربيّ داخل دائرة فوضى التنظير، هل الخلاص في العلمنة أم الدين وأي حاجة لكلاهما؟
ج11: د. عدنان عويد: إن مشكلتنا مع التراث لإسلاميّ بشكل عام، والنص المقدس منه (قرآن وحديث) بشكل خاص، ابتدأت بعد وفاة الرسول عملياً وذلك من خلال الصراع على الخلافة بين المهاجرين والأنصار وتوظيف حديث (نسبوه) للرسول يقول: (الخلافة في قريش)، ثم راحت المشاكل تتفاقم عبر تاريخ الخلافة من خلال تفسير النص وتأويله فيما بعد, وخاصة في الاتجاه السياسي, الذي فتح مجالاً واسعاً في تأويل النص القرآني وتفسيره, وفي ضع الأحاديث التي تجاوزت مئات الألوف كما تذكر مصادر الحديث وعلومه.
لا شك أن الرسول كان يدرك أن القرآن حمال أوجه وهو القائل: (القرآن ذلول حمال أوجه فخذوه على وجهه الحسن)، كونه يدرك دلالة الآية السابعة من آل عمران التي تقول: (هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ۖ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ۗ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ۗ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ). فالآية واضحة في دلالاتها المعرفيّة من جهة، وبالحوامل الاجتماعيّة ممن في قلوبهم زيغ، الذين سيوظفون هذا النص لمصالحهم ومصالح اسيادهم من جهة ثانية. لذلك على هذا الموقف المعرفيّ والسلوكيّ جاءت تلك الصراعات الفكريّة والسياسيّة التي كلفت الدولة والمجتمع منذ السقيفة حتى اليوم الكثير من الدماء، والتي لعبت على وترها السياسة، تحت مظلة تفسير النص الدينيّ وتأويله خدمة لأجندات كثيرة، أدت إلى انقسام المجتمع العربيّ الإسلاميّ إلى ثلاث وسبعين فرقة كل فرقة تقول هي الفرقة الناجية.
إن من يتابع المسيرة الفكريّة للخطاب الإسلاميّ من السقيفة حتى اليوم، يجد تلك التناقضات والخلافات على مستوى علم الكلام والفقه، فعلى مستوى علم الكلام، كان هناك المعتزلة وخطابهم العقلانيّ الذي يبجل العقل وحريّة الإرادة في تقرير الإنسان لمصيره، وقد اتكأ عليه المناوئون للسلطة الحاكمة الذين قالوا: إن الإنسان مسؤول عن أفعاله، وإن السلطات الحاكمة يجب أن تحاسب على أخطائها لكونها من فعلها هي. وكان هناك الفكر الجبريّ ممثل فكرياً بالأشاعرة والماتريديّة, وفقهياً بالتيار الحنبلي الذين اتكأت عليهم السلطة الحاكمة، وراحت عبرهم تسوق للرعيّة بأن سلطتها مقدرة من قبل الله وما عليهم إلا الطاعة والرضوخ لإرادة الله، وكل من يخرج على السلطات الظالمة سيخرج بالضرورة على ما قدره الله له، حتى ولو كان الحاكم فاسقا وفاسدا. وعلى هذا الصراع الفكريّ المتكئ أصلاً على النص المقدس كما أشرنا أعلاه، توقف عليه الموقف الفقهيّ ذاته، وظهور المداس الفقهيّة كالشافعيّة والمالكيّة والحنبليّة والحنفيّة وبقية المذاهب الأخرى كالظاهريّة وغيرها من المذاهب التي لم يعد الاعتماد فقهياً عليها والتي وصلت إلى أحد عشر مذهباً، علماً أن المذهب الحنفيّ من المذاهب الأربعة المتبقية يأخذ بالرأي، إلا أن بقية المذاهب الأخرى المغرقة بالجبر قد حاربت أصحاب هذا المذهب ذاته، وعملت على تحجيم دعاته، رغم أن السلطات الحاكمة تعتمد عليه أحيانا لتمرير مشاريع تصب في خدمة سير الدولة ومصالحها, مجاهلة موقف المذاهب الجبرية الداعمة لها, كما جرى في مصر في نهاية القرن التاسع عشر عندما أرادت الدولة استخدام الحنفيات في مياه الشرب والوضوء, حيث وقف الحنابلة والشافعية ضد المشروع فلجات السطة إلى أصحاب المذهب الحنفي لتمريره, ومن يومها سمية (الحنفية) نسبة إلى المذهب الحنفي.
إذن إن الصراع الفكريّ جاء من خلال تفسير وتأويل طبيعة النص المقدس ذاته كونه حمال أوجه من جهة، ومن موقف الذين في قلوبهم زيغ الذين فسروا هذا النص وأولوه لمصالحهم ومصالح القوى الحاكمة التي يعملون في خدمتها من جهة ثانية. أما الضحيّة فهم الرعيّة، الذين لا حول لهم ولا قوة… الرعيّة التي كان ولم يزل وعيها مغيباً عن حقيقة هذا النص المقدس، وعن من قام بتفسيره وتأويله عقلانياً لهم. وبالتالي كانت الرعيّة في المفهوم القروسطيّ، والجماهير في المفهوم المعاصر، ليست أكثر من حطب وقود لأيديولوجيا مفوّته حضاريّا، ولقوى اجتماعيّة تشتغل عليها حتى اليوم خدمة لمصالح أنانيّة ضيقة. وأن كل ما جرى ويجري اليوم من حروب أهليّة وصراعات طائفيّة ومذهبيّة، وراءها قوى اجتماعيّة وسياسيّة لها مصالحها التي تريد تمريرها عبر الخطاب الدينيّ نفسه، مستغلة تلك التناقضات العميقة فيه التي أشرنا إليها أعلاه.
أما بالنسبة لمسألة الخلاص من المأزق الذي نحن فيه اليوم، أعتقد أن الخلاص منه لن يأتيّ بالنوايا الحسنة، ولا بالأمنيات أو الدعاء لله كي يخلصنا مما نحن فيه من مآسي، راحت تزداد علينا يوماً بعد يوم، بالرغم من تكاثر عدد المساجد في عالمنا العربيّ والصرف عليها مليارات الدولارات لتزيينها بالموزايك والصدف والأرابيسك وحتى بالذهب. ولن يأتيّ الخلاص أيضا من قبل القوى الحاكمة التي وظفت الدين لمصالحها الأنانيّة الضيقة، وتاجرت بالعلمانيّة والديمقراطيّة ودولة القانون، ووظفت كل ذلك لمصالحها أيضا. إن الخلاص بحاجة لقوى اجتماعيّة مؤمنة بوطنها ومصالحه، وبالتالي مصالح الجماهير المعذبة والمسحوقة والمغربة والمستلبة والمشيئة والمقموعة والخائفة.. إن الخلاص بحاجة أيضاً لثورة عقلانيَّة تنويريّة تؤمن بالإنسان ودوره في تقرير مصيره.
ربما يسأل الكثير اليوم من هي هذه القوى الاجتماعيّة المؤهلة لحمل المشروع النهضويّ التنويريّ في عالمنا العربي؟.. أقول: هي القوى التي ستظهر من أقبية الظلام والجهل والمعاناة والفقر والجوع والحرمان والغربة والتشيىء والاستلاب والمحاصرة في حركتها وفكرها.. وإن كل الظروف القاسية التي تعيشها شعوب دولنا الشموليّة في مضمونها والعلمانيّة في شكلها ستخلق بالضرورة القوى الاجتماعيّة القادرة على تحقيق الخلاص لو وعت نفسها واستخدمت عقلانيتها استخداماً صحيحاً في العمل على تحقيق مصالح الشعوب. وهذا الفرق بين فكرة الإمام المنتظر لتحقيق الخلاص لدى الشيعة والسنة، أو المسيح المخلص لدى المسيحيّة وحتى اليهوديّة. وبين اعتبار إن المخلص هنا هم هذه القوى المسحوقة من الشعب التي فقدت كل شيء إلا كرامتها وقدرتها على التغيير.
كاتب وباحث من سوريّة