إن الحافز الذي دفعني لنشر هذا المقال هو قراءتي للحوار المفتوح للدكتور ماجد الغرباوي المعنون “حاكمية الأخلاق على الأدلة الأولية”. فالحضارة العربية الإسلامية بخصوصيات ثقافات أقطارها تزخر بالفعل بالمعارف العقلانية المتراكمة، التي لا تمت بصلة بالرائج الرجعي من تعودات وعادات بالية. إن طرحه لتقابل حاكمية الأخلاق والأدلة الأولية، ودعوته إلى تأسيس منهج جديد لاستنباط الأحكام الشرعية، خلقا لدي نوع من الطموح المعرفي للعودة إلى أهم المحطات التاريخية التي ميزت بروز أهم الحضارات الإنسانية. التاريخ العقلاني، كمزيج حضاري وأخلاقي وديني، كان له دور الريادة في تقدم المجتمعات عبر العصور وصناعة أحداث التاريخ البارزة. كما يشكل اليوم، بلا شك، ثروة علمية تحمل في طياتها المناهج والمعايير لاستباق، أو على الأقل التكيف، مع التطورات الكونية باستناد تام على الدلائل والبراهين العقلانية الصرفة. الدين الإسلامي، المحتكم إلى العقل الإلهي، لا يمكن له إلا أن يضع مصالح العباد في جوهر مقاصد نصومه. فإضافة عبارة “ما لم يكن حرجا على الصائم” مثلا لحكم “وجوب الصوم” تبرهن عن انتصار حاكمية الأخلاق في عقيدتنا السمحة.

واستحضارا لأبعاد كتابات الدكتور الغرباوي الهامة والمفيدة والبناءة، أطمح أن أجعل من مقالي هذا مقدمة للبحث في روابط المنطق السياسي عبر العصور بطبيعة أنظمة الحكم عربيا ومغاربيا، ومدى اعتماد هذه الأنظمة على رواسب الماضي العقلانية وأهدافها لتحديد المقومات المعتمدة لمنطق ممارستها للسلطة، وبلورة السياسات العمومية لقيادة شعوبها في هذا العصر شديد التقلب. إن شعوب المنطقة، وهي تعيش تأثيرات ما بعد الحداثة الغربية، تحتاج إلى إضاءات كافية لتكوين فكرة سياسية عن مدى تجديد الإرادات السياسية في المنطقة لتجاوز الممارسات اللاعقلانية من خلال تطوير وإنضاج مفاهيم جديدة للسلطة، مفاهيم مندمجة اجتماعيا تعتبر كل فرد من الأمة الواحدة مواطنا وفاعلا ومشاركا في الحكم. إنها الأوضاع الجديدة التي يجب أن تتطلع إليها الأنظمة والشعوب لترسيخ القطيعة مع مفهوم الرعية والراعي وما ارتبط به من مفاهيم تقليدانية مفرملة للتنمية، وفتح المجال على مصراعيه للاستفادة من الغير، والاتجاه إلى جعل قوة سيادة النظام في كل دولة عربية مرتبطا بقوة سيادة الشعب على أرضه.

إنه الاتجاه الذي فرض نفسه اليوم على كل شعوب عالم الجنوب زمن انتشار فيروس كورونا ووباءه القاتل الكوفيد 19 وما بعده، الوضع الذي أبرز مؤشرات ظهور منطق إمبراطوري جديد بآليات ومعدات ووسائل جد متطورة، تجاوزت قوة السيف والجسم وشحن النفوس بالمقدسات الدينية. في نفس الوقت، أرى أنه من المفيد جدا التفكير في إمكانية مرور المؤسسات والنخب المثقفة إلى مرحلة تقوية التأمل المعرفي في منطق ممارسة السلطة في مختلف دولنا من المحيط إلى الخليج من خلال قراءة التجارب التاريخية بمنطق مغاير وكذا مضامين الكتب الهامة الفلسفية والفكرية والفقهية ذات الارتباط الوثيق بالحكم والسياسة، والوقوف عن مدى تفاعل أنظمتنا مع مقاصدها سواء من باب الاستنباط أو التطوير أو من باب التجاوز. هنا أذكر على سبيل المثال لا الحصر تقابل طروحات مبدعين غربيين هما ميكيافيلي وسبينوزا، واستنتاجات كتاب وفلاسفة عرب ومغاربيين كابن خلدون، وابن رشد، والغزالي، وابن تيمية، ورواد المذاهب الإسلامية الأربعة، وكذا جل الكتب الريادية في التاريخانية الغربية والعربية…. إلخ. كما يبقى في هذا الصدد التعاطي النقدي مع الأطروحات الشرقية في تفسير الأحداث وتأويلها ذا أهمية بالغة. وتزداد أهمية هذا التعاطي كلما فتح النقاش في أسس تقابله مع الخصوصية التاريخية والمعاصرة للمغرب الأقصى وتفاعل ومآل أفكار رواده النظرية والتطبيقية بخصوص مفهوم الصحوة الدينية والثقافية.

إن ما يميز تاريخ منطقتينا العربية والمغاربية ومنطق حكم شعوبها هو القوة الجسمانية الحاملة للسيف وشحن نفوس الأفراد والجماعات بالعصبية الدينية الموحدة (القومية) المغذية للعصبيات القبلية. كما سجل تاريخ الصراع الكوني تميزه بالاقتتال ما بين كبار الإمبراطوريات الكبرى التي مرت من مراحل التأسيس والتوسع والسقوط. لقد أبانت التجارب كلها عن تفاعل مؤقت وغير دائم ما بين جهود التقديس العقائدية بتأويلاتها المختلفة والمتباينة مع القوة الجسمانية الفقهية الحاملة للسيف في الحكم. لقد اعتمدت أشهر الإمبراطوريات في مرحلة تأسيسها على فوران الحماس العرقي والعقائدي، واستجمعت ما يكفي من القوة والعزيمة لتحقيق التوسع الترابي وغزو شعوب قريبة أو بعيدة. شهد التاريخ كذلك على فتور الإرادات الحماسية لدى الشعوب المسيطرة بفعل التطورات الزمنية المستنزفة للشعارات والمعتقدات الواهية.

لقد تتابع تاريخ حكم الحضارات عبر العصور معبرا عن قوة الارتباطات المتباينة/المتشابهة بين مفهوم الدولة وطبيعة السلطة الممارسة وآليات شرعيتها، والتي نذكر منها الإمبراطورية الاخمينية (الدولة الفارسية القديمة)، ومقدونيا القديمة عند وفاة الإسكندر الأكبر، ومملكة أرمينيا القديمة) في عهد ديكرانوس الثاني)، والإمبراطورية الرومانية في عهد تراجان، وإمبراطورية المغول، ودول الخلافة الإسلامية بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم (الخلافة الراشدة، الدولة الأموية)، والإمبراطورية الساسانية (الدولة الفارسية الثانية) تحت حكم كسرى الثاني، ودول الممالك الأربعة الكبرى:  الدولة العباسية وعاصمتها بغداد، والدولة الأموية في الأندلس وتسمى إمارة قرطبة، ومملكة الفرنجة أو الإمبراطورية الرومانية المقدسة، والدولة البيزنطية….

الحدث البارز بالنسبة لنا كمسلمين، الذي ميز تاريخ ما بعد ما فترة نزول الوحي ونشر الإسلام، يتجلى في ظاهرة الردة التي قلصت بشكل كبير حدود الدولة الإسلامية التي تركها الرسول (ص) موحدة. إنه حدث عبر عن انبعاث وتغليب العصبية القبلية من جديد في الجزيرة العربية (الرجوع إلى الوراء). فأمام هذا المعطى، غير المنتظر، ركز أبي بكر رضي الله عنه، من أجل الخروج من هذه المحنة، على توحيد القبائل بالقوة، بحيث استثمر كل ما بجهده لتقوية الروح الدينية المقدسة والتعصب لها بشحنات كافية من خلال إعطاء الانطلاقة للفتوحات الإسلامية، لتتوسع بذلك دولة الخلافة خلال عهود الخلفاء الراشدين لترقى إلى مصاف الإمبراطوريات الكبرى. إلا أن فترة حكمها كان قصيرا بحيث تهاوت الدولة الخلافية لتنبثق على أنقاضها الدولة الأموية، ثم العباسية، لتليهما الدولة الأيوبية والعثمانية.

أما ما يتعلق بوضعية المغرب بمناطقه الجغرافية الثلاث الأدنى والأوسط والأقصى، فظاهرة سقوط الدول عبر التاريخ تحمل دروسا وعبرا ما أحوج شعوب المنطقة لمعرفتها والوعي بها لتجاوزها مكبلات الوحدة والتطور، سعيا في ضمان استمرارية مفهوم الدولة كعقد اجتماعي لتطوير مؤسساتها واقتصادها ونظامها الديمقراطي في إطار الخصوصية الحضارية لكل شعب على حدة. لقد تبين أن التعصب الديني الممنهج تحت قيادة داعية بارز، بعد بناء شهرته الإعلامية، لعب أدورا طلائعية في مرحلتي التأسيس والتوسع بالنسبة لجل الدول التاريخية التي تعاقبت على الحكم في المنطقة (عبد الله بن ياسين بالنسبة للمرابطين، ابن تومرت بالنسبة للموحدين، …)، لكن سرعان ما ينفذ نوع من التراخي والهشاشة في منطق الحماس الديني الموحد للقبائل ليحل محله من جديد منطق العصبية القبيلة، لتتهاوى الدولة، ويحل محلها دولة أخرى من خلال خطاب ديني حماسي جديد يتمازج فيه الفقه والحديث والتصوف والكلام. لقد عرفت المنطقة أنظمة متعددة ومتباينة عرفت بنفس المسار منها الأغالبة في تونس، والخوارج في الجزائر، والأدارسة في المغرب الأقصى، وصقلية الإسلامية، والمرابطين بالمغرب، وصنهاجة في تونس، وبني حماد في الجزائر، والموحدون ثم المرينيون والسعديون والعلويون بالمغرب. وهنا لا بد من الإشارة أن النهج العلوي بالمغرب الأقصى تميز بذكائه وجرأته العقلانية في سعيه لبناء خصوصية مشروعه المجتمعي الديمقراطي الحداثي.

إن علاقة امتداد المنطق السياسي القديم في الحاضر تشكل إشكالية كبيرة بالنسبة لكل قطر عربي على حدة، سواء فيما يتعلق بالتعاطي معها، أو الاستنباط منها أو محاولة تطويرها ثقافيا لدخول العالم الحديث بتحدياته ورهاناته المستقبلية بخصوصية شخصية قطرية تتنافس بسلمية خطابا وممارسة في مسار تراكم المكتسبات في الترقي في سلم المواقع الحضارية الكونية. وهنا أجد مفيدا للغاية أن أقتسم مع القارئ الملاحظة التالية. إن قراءتي الأولية لعدد من الكتب التاريخية، المعروضة بالمكتبات المغربية، والتي أذكر منها “مجمل تاريخ المغرب” بجزأيه الأول والثاني للمفكر عبد الله العروي، “المجتمع السياسي ونسق تداول السلطة بالمغرب: الدولة المرابطية نموذجا” للدكتور عز الدين جسوس (الذي أولت بعض أجزائه في مقال سابق)، و”التاريخ السياسي للإمبراطورية الموحدية” لأمبروسيو هويثي ميراندا، و”استبانة” و”الإصلاح والسنة” لعبد الله العروي، والكتب الفكرية المرتبطة بتفكيك وإعادة بناء العقل العربي للمفكر المرحومين محمد عابد الجابري ومحمد أركون،… جعلتني أطرح الخصوصية السياسية للدولة المغربية مقارنة مع الدول المشرقية. فموازاة مع فشل محاولات التوحيد المشرقية زمن الناصرية وما بعدها (والتي اعتبرها الجابري مبادرات متسرعة خاطئة)، واشتعال ثورات الربيع العربي، عاش المغرب خصوصية على المستوى الجهوي أفترض أن مسار بنائها ابتدأ مبكرا. فمجيء المكون العربي إلى المغرب الأقصى، يقول العروي، كان متأخرا جدا بالنسبة للعنصر الأمازيغي وبأعداد قليلة لم تؤثر في المجموع، ليضيف أن البحوث الأنتروبولوجية أكدت، عكس ادعاءات الإدارة الفرنسية، تجانس الشعب المغربي وافتخاره القوي بوطنيته وثقافته.

إذا انطلقنا من القاعدة الفقهية الصارمة عند القبائل بالمغرب وزواياه (في كتاب “استبانة” للعروي) التي جعلت في مرحلة ما قبل الحماية من واجب الأمير أن يجاهد الكافر مهما كانت الظروف والنتائج المرتقبة، إذ العون الرباني وارد، ومررنا بما وقع للملك مولاي عبد الحفيظ بفاس، الرجل العالم والحازم والمحنك، الذي طلب من التجار أن يسبقوا له بما يجهز الجيش لإخضاع الثوار وإيقاف زحف الفرنسيين، والمنطق المعتمد من طرف الحركة الوطنية في مقاومة الاستعمار الفرنسي وتشبثها بعودة الملك محمد الخامس رحمه الله إلى عرشه، وبعهد المرحوم الحسن الثاني وما أنتجه من مصطلحات أغنت القاموس السياسي المغربي كالصراع السياسي زمن الجمر والرصاص والراعي والرعية والتقليدانية والملكية الدستورية التنفيذية وبناء المؤسسات العصرية، والانتقال إلى مرحلة التوافق الديمقراطي، ووصولا إلى الدستور الجديد لعهد جلالة الملك محمد السادس ومفهومه الجديد للسلطة وأبعاده الوطنية الديمقراطية، يبقى التساؤل في شأن التطور السياسي للنظام المغربي مقارنة مع دول الجوار، وباستحضار منطق تغذيته من الماضي ورهانات مستقبله الديمقراطي، مطروحا ويتطلب البحث العميق لتحديد أوجهه التحديثية وحدة مقاومة رواسبه التقليدية (العرفية والعقائدية) التي لا زالت تصارع تطوره، وبالتالي استنتاج مؤشرات تطور آفاقه القريبة والمتوسطة والبعيدة.

وفي الأخير، وطموحا في إغناء النقاش في شأن هذه الإشكالية المعقدة، إشكالية الصحوة والتحديث مغربيا في القرن الواحد والعشرين، أختم بجواب عبد الله العروي عن سؤال “ماهي ميزات السيمات الخاصة للمغربي؟” حيث قال بالحرف :”لا أحد يعرفها بالضبط. لا إجماع إلا على نقطة واحدة وهي أنها موجودة. أظن شخصيا أن لها علاقة باستمرارية سلطة المخزن التي هي وطنية محلية، مستقلة عن أية قوة خارجية”.

‫شاهد أيضًا‬

دراسة نقدية لمجموعة (ولع السباحة في عين الأسد).للقاص (حسن ابراهيم) * د. عدنان عويّد:

التعريف بالقصة القصيرة ودور ومكانة القاص في تشكيل معمارها:      القصة …