عن موقع السياسة الدولية
يصدر هذا العدد من ملحق “تحولات استراتيجية”، ومنطقة الشرق الأوسط تشهد تصاعدا في الصراعات والصدامات، يتمثل فاعلوها الرئيسيون في مجموعات بشرية -أو أفراد ينتمون إليها- تنشط خارج نطاق دائرة الفاعل الدولاتي، حيث لا تعبر تلك المجموعات عن الدولة وسياساتها، ولا تتماهي معها بالضرورة. هذه المجموعات البشرية ليست جديدة في فضاء علم السياسة، بل إنها، ومنذ أمد غير قصير، باتت -على اختلاف أسس الانتماء التي تستند إليها في تكونها واستمرارها- موضوعا مهما من موضوعات الدراسة والفحص والتحليل في فروع السياسة المختلفة تحت عنوان واسع، هو “الفاعلون من غير الدول”.
وقد عنى ملحق “اتجاهات نظرية” -الذي يصدر دوريا مثله مثل ملحق “تحولات استراتيجية” مع مجلة السياسة الدولية- بدراسة هذه الفئة من الفاعلين وأدوارها، خاصة في مرحلة ما بعد الثورات. إلا أننا نعود في هذا العدد من ملحق “تحولات استراتيجية”، لدراسة أحد أشكال هؤلاء الفاعلين، ألا وهو المجموعات البشرية ذات الهويات المتمايزة بسبب عاملين رئيسيين، أولهما: أنه رغم حقيقة بروز دور هذه المجموعات البشرية في أكثر من دولة أو إقليم فرعي في الشرق الأوسط، طوال عقود عديدة مضت، فإن الانتفاضات الثورية العربية، منذ عامين ونصف عام تقريبا، يبدو أنها منحت تلك المجموعات البشرية زخما جديدا، سواء على مستوى التطور التكويني، أو على مستوى الفعل. ثانيا: أن تصاعد أدوار هذه المجموعات بات في كثير من الحالات يفوق أدوار الدولة، ويتجاوز حدوها عبر المنطقة، بل وبات يتعارض مع وجود الدولة ذاته في العديد من الحالات ويهدده.
يحاول هذا الملحق بالتالي الإجابة على عدد من التساؤلات التي يطرحها بروز العاملين السابقين بعد ما سمي “ربيعا عربيا”، وأهم تلك التساؤلات تتمثل بشكل رئيسي في الأسئلة التالية: ما هي أسباب تصاعد هذه الصراعات بعد الانتفاضات الثورية العربية؟، وهل هناك أي مفارقة بين عوامل هذا الصعود والعوامل المؤسسة لحضور تلك المجموعات البشرية كفاعل سياسي في المراحل التاريخية السابقة؟، هل يمثل هذا التصاعد ظاهرة عامة تصبغ وجه السياسة الإقليمية في المرحلة المقبلة؟، هل يتعارض هذا الصعود -بأي درجة من الدرجات- مع خريطة الإقليم المستقرة منذ اتفاقيات سايكس بيكو؟ لكن السؤال الأساسي -فيما نظن- هو: هل هناك من إطار مفاهيمي جامع لهذه المجموعات البشرية، على اختلاف أسس انتمائها وركائزها الهوياتية، يتيح تقديم تفسير عام ذي مصداقية حقيقية لتلك الظاهرة؟. هذا هو السؤال الرئيسي الذي سيحاول هذا التقديم الاقتراب منه، من خلال مناقشة بعض الأطر المفاهيمية الحديثة المفسرة لنشأة تلك المجموعات، ولمحددات سلوكها كفاعل سياسي.
اصطلح -خاصة في إطار علمي الاجتماع والأنثروبولوجي- على تعريف المجموعات البشرية المختلفة، وفق تصنيفات مختلفة لركائز الهوية الرئيسية الجامعة لها. وفي هذا الإطار، برزت تعريفات لمجموعات تستند إلى العرق، أو القومية، أو الدين – المذهب، أو الطبقة، أو الأيديولوجيا، أو غير ذلك من أسس الانتماء. وفي هذا الإطار، برز مفهوم الإثنية في التحليل الأنثروبولوجي كمرادف لمفهومي العرق، أو القوم – القبيلة بشكل أساسي. المشكلة الأساسية في مثل تلك التعريفات، عند نقلها إلى الفضاء السياسي، هي محاولتها ادعاء درجة من الموضوعية المستقرة نسبيا. بعبارة أخري، فإن كلا من هذه التعريفات يفترض أنه تتوافر له أسس موضوعية ثابتة نسبيا تتيح تعريف مجموعة بشرية ما بشكل ثابت. فجماعة عرقية يمكن تعريفها، وفقا لشروط موضوعية محددة ترتبط بخصائص وراثية متمايزة ومحددة، وبالمثل الدين، أو القومية، أو الطبقة. مشكلة مثل هذا الإطار الجامد نسبيا تبرز في بعدين أساسيين:
1- إن هذه الأطر الجامدة لا يمكنها تقديم تفسير حتمي للسلوك الإنساني الذي يحدده في الواقع إدراكه الذاتي لماهية الدوافع الأكثر أهمية بالنسبة إليه في تعريفه لذاته، وبالتالي كمحدد لسلوكه. ذلك أن أي إنسان يمكن أن ينتمي -من الناحية الموضوعية الجامدة- لأكثر من تصنيف من تلك التعريفات، كأن يكون منتميا لعرق معين، وفي الوقت ذاته ينتمي لدين معين، ولطبقة معينة كذلك. لكن ترتيب أولوية أي من تلك الانتماءات كمحدد لسلوكه هو مسألة ذاتية تحددها أنساقه الإدراكية، والمعرفية، والقيمية التي تعلي من قيمة انتماء بعينه كمحدد سلوكي، وليست الشروط الموضوعية لأي من هذه التعريفات بالضرورة. فيمكن للمرء أن يسلك وفقا لانتمائه العرقي، أو الديني، أو الطبقي، بحسب مدركاته وتفضيلاته هو، وليس بالضرورة وفقا لشروط محددة تدرجه على مستوى الفعل السياسي، بشكل حتمي ضمن أي من تلك التصنيفات).1 (
2- إن ترتيب أولويات الانتماء بقدر ما هي مسألة ذاتية، فإنها ترتبط كذلك بالسياق المكاني والزماني الذي يوفر شروطا قد تعلى من أهمية انتماء محدد بعينه لدي عدد كبير من البشر. وبتغير تلك الشروط، قد يتغير ترتيب هرم الأولويات هذا. وبالتالي، فإن هذا البعد يعد مهما عند محاولة تفسير السلوك السياسي، الذي يهتم بالسلوك الجمعي بقدر -إن لم يكن يفوق- الاهتمام بالسلوك الفردي.
بعبارة أخرى، فإن استعارة تصنيفات جامدة من علمي الاجتماع أو الأنثروبولوجي ثبت أنها لا تفيد بشكل ميكانيكي وتلقائي كإطار تفسير للسلوك السياسي. هذه المشكلة لاحظتها بجلاء المدرسة البنائية (Constructivism)، التي شددت -بدرجة عالية من الصدقية فيما نظن- علي أن الأفكار هي الفضاء الرئيسي الذي يعطي للظواهر المادية معناها الحقيقي كمحدد للسلوك البشري -الفردي، أو الجمعي. في هذا السياق، تطور مفهوم “الإثني” ليندرج ضمن هذا الإطار الفكري، الذي يتقاطع مع العديد من التصنيفات الأخري، ولا يتماهي معها بالضرورة(2). وبالتالي، فإننا سننطلق من هذا الفهم لتقديم تعريف للإثنية يحدد التساؤلات الرئيسية لهذا الملحق، ويتمثل هذا التعريف في كون الإثنية تعبر عن وعي ثقافي لدي مجموعة بشرية معينة بتمايزها استنادا إلى أسس محددة تعلي هي من قيمتها عن المجموعات البشرية الأخري. ويتحدد السلوك السياسي لهذه المجموعة بهذا الوعي المتمايز.
ولا يفترض الملحق أن المنطقة باتت تشهد ظاهرة إثنية بالفعل تحدد السياسات الداخلية والإقليمية في إطارها، ولكنها تحاول مقاربة أنماط الفعل الذي تمارسه مجموعات بشرية مختلفة عبر الإقليم ودوله مع هذا المدخل الإثني لمعرفة أي من هذه الأنماط يندرج في هذا الإطار، وأيها لا يندرج. وقد استقر الرأي على اعتماد هذا المدخل بالنظر إلى بعض المشكلات التطبيقية المرتبطة بمداخل أخري، خاصة مدخل الأقليات، الذي ساد في جزء كبير من أدبيات التحليل الأكاديمي لسلوك المجموعات البشرية في العالم العربي، وكذلك في الخطاب السياسي بشأنها. ويمكن تحديد ثلاث مشكلات رئيسية في هذا السياق:
1- إن مجموعة بشرية معينة قد تكون في بلد ما من بلدان الإقليم أقلية، بينما تكون في بلد آخر أغلبية.
2- إن التحليل في هذا الملحق لا يريد أن يقتصر على تحليل وضع تلك المجموعات البشرية بشكل منفصل في كل بلد توجد فيه، ولكنه يطمح إلى تحليلها سلوكها على المستوى الإقليمي، بحيث يكون أحد أسئلته المحورية هو: هل يتطور وعي إثني لدي كل مجموعة بشرية من المجموعات التي ستكون موضوعا للتحليل في أوراق هذا الملحق عبر الإقليم، أم أن كلا منها يبقي مقتصرا على إطار الدولاتي الوطني؟.
3- إن الملحق يحاول ألا يقع في أزمة نقص البيانات الدقيقة حول الأعداد الحقيقية لمجموعات بشرية معينة، وهو الأمر الذي عادة ما يستغل سياسيا للتقليل من شأن الحضور السياسي لأي منها في بعض الحالات، أو حتي للإعلاء منه في حالات أخري.
في هذا السياق، يحاول هذا العدد من ملحق “تحولات استراتيجية” تحليل طيف مختلف من المجموعات البشرية، كنماذج لأسس الانتماء المختلفة التي تعليها المجموعات البشرية -أو يفترض أنها تعليها- عبر الإقليم. فتم اختيار المسيحيين كنموذج لمجموعة بشرية تستند إلى المكون الديني، والشيعة كنموذج لمجموعة تستند إلى المكون المذهبي، والأكراد كمجموعة تستند إلى المكونين القومي – العرقي، وأخيرا الطوارق كمجموعة تستند إلى المكونات القبلية، والعرقية، والقومية. وقد حرصنا كذلك على أن يكون كل من تلك المجموعات له -أو لبعض مكوناته- سلوك سياسي فاعل مهم، أو موضوع لتفاعل سياسي مهم أيضا، على المستوى الإقليمي، خلال العامين الماضيين.
وقد كان لدينا طموح بتحليل وضع السنة في الإقليم، وهم من كان يعد أنهم يمثلون المكون الرئيسي للوحدات الدولاتية عبر الإقليم، وركيزة استقرارها. لكن بدا، خلال الأعوام القليلة الماضية، أنه تتم محاولات لتعبئتهم في إطار إثني منفصل عن سياق المجموعات البشرية الأخري في الإقليم، والتي تشارك السنة الأوطان القائمة. بدأ ذلك في إطار التعبئة في مواجهة صعود الدور والنفوذ الإيرانيين، وامتدادهما عبر الإقليم، لكن يبدو أنه بدأ يأخذ منحي تصاعديا يستند إلى أزمة بناء الدولة الوطنية في المنطقة التي يبدو أنها تفاقمت مع تطورات ما بعد الانتفاضات العربية، خاصة ما يتعلق منها بصعود تيارات الإسلام السياسي. ورغم أننا لم نتمكن من تحقيق هذا الطموح في هذا العدد، فإننا سنعمل على إنجاز مثل هذا التحليل في أعداد مجلة السياسة الدولية المقبلة.
لكن ما يعنينا أن نلفت النظر إليه، في هذا السياق، هو حقيقة أن هذا التصاعد في الصراعات التي تخوضها تلك المجموعات البشرية المختلفة -سواء فيما بينها، أو فيما بينها وبين الدول التي تعد جزءا من بنيتها السكانية- إنما يتعارض مع الطموح المبدئي الذي صاحب الانتفاضات الثورية العربية في إعادة بناء الدولة العربية الوطنية بشكل تكاملي استيعابي حقيقي، في إطار آليات ديمقراطية حقيقية.
لكن النموذج الديمقراطي الذي تطوره دول تلك الانتفاضات لا يبدو أنه يستجيب لشروط هذا الطموح الضرورية، ولكنه في الواقع يعيد إنتاج أسس الإقصاء الذي استندت إليه تلك الدول في نشأتها على يد العسكر منذ منتصف القرن الماضي، ولكن تلك المرة بالارتكاز على نموذج شكلي للديمقراطية، يتمثل في الاقتصار على صندوق الانتخابات فقط، بدون استكمال البناء القيمي والقانوني للديمقراطية الذي يضمن حقوقا وحريات متساوية للمواطنين جميعا، وتتجاوز متغيرات العملية السياسية لمختلف المواطنين من جهة، ومن جهة أخرى توفير آليات للمشاركة تتجاوز الصندوق الانتخابي لتكون مشاركة مستمرة وفاعلة لا تقصي المواطن في فترة ما بين الانتخابات. بعبارة أخري، فإن اعتماد أنظمة ما بعد الانتفاضات العربية على ما سماه فريد زكريا قبل سنوات “الديمقراطية غير الليبرالية” (Illiberal Democracy) يبدو أنه يكرس مرة أخرى نموذجا إقصائيا يدفع بالمواطن العربي مرة أخري إلى أحضان الانتماءات غير الوطنية على مستوى الدولة.