خاص موقع صحيفة المثقف: يستضيف موقع صحيفة المثقف, الباحث الأكاديمي الأستاذ الدكتور عدنان عويّد، ضمن مرايا فكريّة، وحوار شامل أجراه معه الأستاذ الباحث مراد غريبي، حول قضايا الفكر والهوية واللغة والنهضة في العالم العربي، فأهلا وسهلا بهما:
المحور الأول: قضايا الفكر والهوية والتراث:
س5: ا. مراد غريبي: العقلانيّة تدفعنا نحو سؤال الحريّة، برأيكم ماهي المعياريّة الناظمة لشروط تشكل العقل العربيّ الحر؟
ج5: د. عدنان عويد: دعنا بداية نعرف الحريّة، فالحريّة في سياقها العام، تعني وعي الضرورة، أو الضرورة الواعية كما يقول ” سبينوزا وهيجل وماركس “، أي وعي الإنسان للظروف الماديّة والفكريّة التي تتحكم بحاجاته الأساسيّة، الماديّة منها والمعنويّة (الروحيّة) في نطاق المحيط الذي يعيش وينشط فيه، بغية الحفاظ على وجوده وإشباع حاجاته بكل مستوياتها السياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة. أو بتعبير آخر، إشباع حاجاته الماديّة والمعنويّة بشكل عام، مع حضور شرطيّ المسؤوليّة والوعي اتجاه فهم وممارسة هذه الحريّة.
هذه هي الحريّة في سياقها العام كما أراها. فهي حريّة مشخصة وليست مجردة، مثلما هي حريّة ينتجها الواقع المعيش ويحدد صيغها كونها لا تُفرخ مجردة, أي لا تأتي من فراغ من جهة, وهي ليست صيغة واحدة مطلقة صالحة لكل زمان ومكان من جهة ثانية، إنها حريّة نسبيّة قابلة للتطور والتبدل وفقاً للمرحلة التاريخيّة المعيشة، وطبيعة حاملها الاجتماعيّ. فجوهر الحريّة في المرحلة البدائيّة كان يصب في تحرير الإنسان من سيطرة الطبيعة وتحكمها بحياة الإنسان. والحريّة في المرحلة العبوديّة تحرير الإنسان من سلعنة جسده, حيث كان يباع ويشرى في أسواق النخاسة، هي غيرها في النظام الرأسماليّ او الاشتراكيّ أو في دول العالم الثالث المتعدد الأنماط الإنتاجيّة.
من هذا المنطلق المنهجيّ في تعاملنا مع الحريّة يأتي موقفنا منها، فهماً ووظيفة وآليّة عمل.
إن نظرة سريعة للعقل العربيّ السائد اليوم، يُفصح لنا عن إشكالات عديدة تتحكم في طبيعته وآليّة عمله والقوى الاجتماعيّة المتحكمة فيه.
إن العقل العربيّ محكوم في وجود اجتماعيّ المفوت حضاريّاً، إذ لم تزل تتحكم به مرجعيات تقليديّة ضيقة من عشيرة وقبيلة وطائفة ومذهب وعرق. وبالتالي هو لم يحقق حتى اليوم وضوحاً واستقراًراً اقتصاديّاً أو اجتماعيّا أو سياسيّاَ أو ثقافيّا أو طبقياً، وهذا كما قلنا يعتبر إشكالاً كبيراً يقف أمام حريّة الإنسان بشكل عام في هذا الوجود، والمبدع والمثقف فيه بشكل خاص. وبالتالي فالحريّة تظل ملجومة ومحكومة هنا من قبل الدولة التي تريد حريّة على مقاس القوى الحاكمة لها، والمجتمع يريد حريّة توافق طبيعة علاقاته الاجتماعيّة المتخلفة والمحكومة بالغالب بالعرف والعادة والتقليد والوعي الدينيّ المؤسطر القائم على الثقافة الشفويّة المشبعة بالنقل على حساب العقل، والمدعومة أساساً من قبل الدولة ومؤسساتها الدينيّة، التي وظفت جوامعها لنشر ثقافة الخرافة والأسطورة وقصص الأولين، المرتكزة على الفضيلة المجردة، والتي تهدف إلى التركز على ثقافة كسب الجنة وحور العين وسواقي الخمر والعسل واللبن، وليس ثقافة حب الوطن وتكريس المواطنة. أما على المستوى الثقافيّ، فقد بينا المعاناة الكبيرة التي يعانيها المثقف النخبويّ الذي ظل عقله محكوما بمحيطه السياسيّ والاجتماعيّ والدينيّ، فكم من مثقف تراجع عن آرائه التقدميّة العقلانيّة التنويريّة بسبب الضغوطات التي تعرض ويتعرض لها دائما من قبل المحيط الذي ينشط فيه، كما جرى لعلي عبد الرازق وطه حسين وجلال صادق العظم وغيره الذين تعرضوا للمحاكمات أو السجن أو النفي بسبب أفكارهم العقلانيّ التنويريّة.
هذه هي الأجواء الاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة والدينيّة التي يعيش فيها الكاتب والمفكر والفيلسوف والأديب والفنان. وبالتالي لتحرير عقول كل هؤلاء والفسح في المجال لأفكارهم العقلانيّة أن تنتشر وتتجذر، يتطلب منا الأمر صراعاً تاريخيّاً مريراً مع من يَحُولُ دون نشر ثقافة العقل والتنوير في عالمنا العربيّ بغية تحقيق تلك التحولات العميقة في واقعنا المعيش. وهذا برأي لن يأتي بالنوايا الحسنة، ولا بالمواقف الإرادويّة أو الذاتيّة التأمليّة.. إن التحولات التاريخيّة العميقة، تتطلب ثورة حقيقيّة تطال الوجودين الماديّ والفكريّ معا في وطننا العربيّ المتخلف، ولكن المحزن أن هذه الثورات التي عولنا عليها الكثير مع ما سمي بثورات الربيع العربيّ، خذلتنا عندما وجدنا أن الكثير من توجهات حواملها الاجتماعيين الثقافيّة كانت أصوليّة سلفيّة تكفيريّة، أرجعت بعض دولنا قرنين من الزمان إلى الوراء، بعد أن دمرت معظم ما تحقق من إنجازات على مستوى التحديث بكل أشكاله ومستوياته خلال قرن ونيف من الزمان.
كاتب وباحث من سوريّة