د. عدنان عويّد

    نزولاً عند رغبة بعض الصديقات والأصدقاء بأن أنشر الحوار الفكري (مرايا الفكر) على حلقات, الذي أجراه معي الأستاذ الكاتب والباحث مراد الغريبي, والذي تبناه ونشره موقع صحيفة المثقف, وتم نشره أيضاُ على موقع ساحة التحرير. وبناءً على هذه الرغبة سأنشر اليوم الحلقة الاولى وأتابع نشر بقية الحلقات لاحقا. علماً أن رابط الحوار على صحيفة المثقف مرفق بنهاية كل حلقة.

(***)

مرايا فكرية – الحلقة (1)

مراد غريبي يحاور الباحث الأكاديمي النهضوي د. عدنان عويّد

خاص موقع صحيفة المثقف: يستضيف موقع صحيفة المثقف, الباحث الأكاديمي الأستاذ الدكتور عدنان عويّد، ضمن مرايا فكريّة، وحوار شامل أجراه معه الأستاذ الباحث مراد غريبي، حول قضايا الفكر والهوية واللغة والنهضة في العالم العربي، فأهلا وسهلا بهما:

 المحور الأول: قضايا الفكر والهوية والتراث:

س1: ا. مراد غريبي: بادئ ذي بدء، ماذا عن سيرتكم الذاتيّة ومنجزاتكم العلميّة والفكريّة والنقديّة التجديديّة؟

ج1: د. عدنان عويد: باحث وكاتب عربيّ سوريّ، يكتب في قضايا النهضة والتنوير.

     ولد في دير الزور عام 1950.

     دكتوره بالعلوم السياسيّة

    عضو اتحاد الكتاب العرب – لجنة البحوث والدراسات.

    أستاذ محاضر في جامعة الفرات – كليّة الآداب – قسم علم الاجتماع

إصداراته:

     1- الديمقراطيّة بين الفكر والممارسة. إصدار دار العلم، ودار والتكوين. دمشق. 1994-2006

     2- إشكاليّة النهضة في الوطن العربي من التوابل إلى النفط. إصدار دار المدى – ودار التكوين. دمشق. 1997- 2006

     3- التبشير بين الأصوليّة المسيحيّة وسلطة التغريب. إصدار دار المدى – ودار التكوين. دمشق. 2000- و2007

     4- معوقات حركة التحرر العربيّة في القرن العشرين. إصدار دار المدى. دمشق. 2002

     5- الأيديولوجيا والوعي المطابق. إصدار دار التكوين. دمشق. 2006

     6- رأسماليّة الدولة الاحتكاريّة. إصدار دار التكوين. دمشق. 2008

7- قضايا التنوير. (ترجمة عن اللغة الانكليزية). إصدار دار التكوين. دمشق. 2011.

     8- قيد الطباعة:

     آ- أوهام أيديولوجيا حركة التحرر العربيّة.

     ب- الخطاب السلفيّ وتحطيم العقل.

     ينشر في العديد من المجلات والجرائد والمواقع الالكترونيّة في الوطن العربيّ.

س2: ا. مراد غريبي: نستهل بحسب مناهج البحوث الأكاديميّة، قراءة في مفاهيم هذا المحور الأساسيّة: العقل، العقلانيّة، الهويّة، التراث، العلمانيّة، التثاقف، الحداثة، الايديولوجيا، الدين..؟؟

ج2: د. عدنان عويد: لا شك أن هذه المفاهيم المطروحة هنا… العقل، العقلانيّة، الهويّة، التراث، العلمانيّة، التثاقف، الحداثة، الايديولوجيا، الدين. تشكل في وضعنا الثقافيّ العربيّ الحديث والمعاصر، إشكاليّة قائمة بذاتها، لاعتبارات عديدة يمكننا الاشارة إلى أهمها وهي:

      إن معظم هذه المفاهيم في صيغها المتعارف عليها اليوم، قد طُرحت في الغرب مع بداية عصر النهضة الأوربيّة، مروراً بعصر التنوير في القرن الثامن عشر، وفلاسفة قرنيّ التاسع عشر والعشرين. وإن هذه المفاهيم راحت تتسرب إلى خطابنا الثقافيّ مع بداية القرن التاسع عشر، بفعل عوامل كثيرة منها:

     آ- تَأَثُر الطلاب العرب الذين أرسلوا إلى أوربا للدراسة هناك، وخاصة البعثات التعليميّة التي اشتغل عليها “محمد علي باشا” في مصر “وخير الدين التونسي” في تونس، أو بفعل حملات التبشير الأوربيّة في المشرق العربيّ التي فتحت المدارس الخاصة بها في هذه المنطقة، إضافة لما حققته البعثات أو المنح الدراسيّة إلى أوربا، التي خصصتها الإرساليات التبشيريّة للطلبة المتفوقين من خريجيّ هذه المدارس. الأمر الذي أوجد العديد من المثقفين والمفكرين العرب ممن تأثر بالفكر الغربيّ ومناهجه كأديب اسحق، وشبلي شميل، وفرح انطون، والبستاني، واليازجي وغيرهم الكثير.

     ب- بفعل الطلبة العرب الذين درسوا في أوربا أيضاً منذ بداية القرن العشرين حتى اليوم، وهم كثر في الحقيقة، حيث تأثر الكثير منهم بالفكر الغربيّ ومناهجه، وراح العديد منهم يشتغل بعد إنهاء دراساته في الغرب على مشاريع فكريّة تأثرت كثيرا بالمناهج الغربيّة، كالعروي الذي تاثر بالمنهج التاريخانيّ، وحسن حنفي بالمنهج الظاهري، والتيزيني بالمنهج الماديّ التاريخيّ، والجابري بالمنهج الابستمولوجيّ (المعرفيّ)… الخ.

     بيد أن التاريخ العربيّ في العصر الوسيط لم يعدم المفكرين والفلاسفة الذين اشتغلوا على العقل بشكل خاص، كابن رشد والفارابي والكندي والرازي وغيرهم، بالرغم من أن مفهوم العقل ظل عند الكثير من هؤلاء الفلاسفة والمفكرين الإسلاميين ينوس بين الدماغ والقلب، وقليلون هم الذين عرفوا العقل بالمخزون الثقافيّ الذي تكون أثناء إنتاج الإنسان لخيراته الماديّة والروحيّة تاريخيّاً، كابن رشد وابن خلدون والكندي والرازي، وبالتالي فصلوه عن الدماغ ككتلة عضويّة في الجسد البشري لها دورها الوظيفيّ في تخزين المعرفة ومعالجتها وفقاً لما يريد صانع هذه المعرفة وحاملها الاجتماعيّ. علماً أن الذين قالوا بهذا الرأي عن العقل من فلاسفة العصور الوسطى العرب والمسلمين، تأثروا أيضاً بالفكر الفلسفيّ اليونانيّ بعد أن قاموا بترجمة كتب الفلاسفة الماديين اليونان.

     وفي تاريخنا المعاصر، درس الكثير من الكتاب والمفكرين العرب الفكر الفلسفيّ العقلانيّ في العصور الوسطى، وسلطوا الضوء على الفلسفة الماديّة منها، كحسين مروة في كتابه (النزعات الماديّة في الفلسفة العربيّة الإسلاميّة) على سبيل المثال لا الحصر.

     عموماً نستطيع القول هنا: إن كل تلك المفاهيم الحداثيّة التي جاءت في سؤالكم: العقل، العقلانيّة، الهويّة، التراث، العلمانيّة، التثاقف، الحداثة، الايديولوجيا، الدين. يظل العقل النقدي يشكل العمود الفقري لها، إذ لا يمكن لأي مفهوم من هذه المفاهيم أن يحوز على حقيقته أو مصداقيته التي طرح من أجلها إلا من خلال ارتباطه بالعقل. فالديمقراطيّة بدون عقلانيّة تتحول إلى فوضى.. والهويّة بدون عقلانيّة قد تعود لمرجعياتها التقليديّة من عشيرة وقبيلة وطائفة.. والتراث من غير إدخال العقل فيه وتحليله وإعادة قراءته كتاريخ شعوب تحركه تناقضات وصراعات مصالح الناس، سيظل تاريخ ملوك وأمراء وأيديولوجيا دينيّة، الأمر الذي سيدفعنا إلى التعامل معه بعواطفنا أكثر من عقولنا، وسنتمسك بهذا الماضي كفردوس مفقود بِعُجْرِهِ وَبُجْرِهِ. والعلمانيّة التي يغيب عنها العقل تفقد مصداقيتها وتتحول إلى ترف فكري، بدل أن تمثل في واقع أمرها الدولة المدنيّة.. أو دولة المواطنة والقانون والمؤسسات… الخ ، وكذا حال التثاقف الذي سيتحول عند تبادل المعرفة، إلى مركزيّة أوربيّة أو شرقيّة، وظهور نرجسية الحامل الاجتماعيّ للثقافة عند تداولها مع المختلف إذا لم يتم تحكيم العقل.. وهذا حال الحداثة التي ستتحول إلى تقليد الضعيف للقوي في حال غياب العقل القادر على تحديد خصوصيّة المجتمعات وما هي حاجاتها الضروريّة من مفاهيم الحداثة، وما هو الصالح منها القادر على تحقيق تنمية الفرد والدولة والمجتمع، وما هو الطالح فيها الذي سيعرقل تقدم المجتمع إذا ما أخذ منها. وهذا الموقف المنهجيّ من العقل، وضرورة التعامل معه ينطبق على الأيديولوجيا الوضعيّة والدينيّة معاً، فكلاهما سيتحولان إلى وعي جموديّ غير قابل للنزول إلى الواقع عند غياب العقل الذي يعمل دائما على ربط الفكر بالواقع.  وعند حديثنا هنا عن العقل، أقصد به العقل النقديّ الجدليّ، وليس العقل البذيء القائم على المثاليّة الذاتيّة والحدسيّة والتأملية والمثاليّة الموضوعيّة.

(***)

مرايا فكرية – الحلقة (الثانية)

     مراد غريبي يحاور الباحث الأكاديمي النهضوي د. عدنان عويّد.

خاص موقع صحيفة المثقف: يستضيف موقع صحيفة المثقف, الباحث الأكاديمي الأستاذ الدكتور عدنان عويّد، ضمن مرايا فكريّة، وحوار شامل أجراه معه الأستاذ الباحث مراد غريبي، حول قضايا الفكر والهوية واللغة والنهضة في العالم العربي، فأهلا وسهلا بهما:

 المحور الأول: قضايا الفكر والهوية والتراث:

س3: ا. مراد غريبي: لننطلق من العقل والعقلانيّة في حوارنا معكم دكتور عدنان، ماذا عن موقع العقل وروح العقلانيّة في الفكر العربيّ الحديث والمعاصر؟

     ج3: د. عدنان عويد: عند إجابتي على سؤالكم الثاني أشرت إلى دور ومكانة العقل النقدي في ضبط المفاهيم التي نتعامل معها بشكل عام، كما بينت الصيغة العقليّة أو العقلانيّة التي علينا التعامل معها منهجياً. وهنا أحب أن أوضح مسألة منهجيّة في السؤال الثاني هذا قبل الاجابة عنه. وهي مسألة التفريق بين العقل والعقلانيّة.

العقل كما أشرت إليه سابقاً، هو مجموعة المعارف والمهارات بما فيها المواقف الداخليّة النشطة من أحاسيس وعواطف وتخيل ومهارات عقليّة، التي اكتسبها الإنسان تاريخيّاً عبر علاقته مع الطبيعة والمجتمع. فالعقل وفق هذا المفهوم هو الثقافة المكتسبة في أعلى تجلياتها.

     أما العقلانيّة: فهي منهج في التفكير، أو موقف عقليّ جدليّ نقديّ، يمارسه العقل عند توظيف معارفه في نشاط الإنسان الماديّ والروحيّ، فهناك فرق كبير عند توظيف العقل كوسيلة أداتيّه (العقل الأداتيّ) على سبيل المثال، خدمة لمصالح قوى اجتماعيّة محددة لا يهمها الجانب الإنسانيّ الإيجابي من دور أو أداء العقل، وبالتالي يأتي العقل عند هذه القوى وكأنه أداة عضويّة قادرة لوحدها على إنتاج الأفكار المجردة وتسويقها بعيداً عن الواقع الذي أنتجها، وهو هنا النشاط الإنسانيّ الماديّ والروحيّ في هذا الواقع المعيش, أو أن دور العقل عندها يقتصر على تسيير آلات ربحها فقط. أي يكون فيه دور العقل في هذا النشاط، هو تغييب الوظيفة الإنسانيّة المنوطة به كما أشرنا قبل قليل، واقتصار وظيفته على العمل داخل اقتصاد السوق، وتحقيق الربح للحامل الاجتماعيّ له.

     أمام هذا الموقف المنهجيّ والمعرفيّ للعقل، نعود لنجيب على السؤال المطروح هنا وهو: ماذا عن موقع العقل وروح العقلانيّة في الفكر العربيّ الحديث والمعاصر؟.

     نستطيع القول: بأننا أمام غياب أو عدم حضور الفكر العقلانيّ الذي أنتجه فلاسفة العصور الوسطى في تاريخنا العربيّ الإسلاميّ منذ أن أصدر الخليفة المتوكل أمره أو مرسومه القاضي بمحاربة العقل والعودة إلى النقل عام (232) للهجرة، بعد أن فسح الخليفة المأمون المجال للفكر المعتزليّ العقلانيّ أن يأخذ دوره ومكانته في الحياة الفكريّة والفقهيّة بعد إصداره لمرسومه الذي يدعو فيه إلى محاربة النقل واحترام العقل عام (212) للهجرة، فمع مرسوم المتوكل بدأ الفكر السلفيّ الوثوقيّ الاستسلاميّ يأخذ مكانته في الساحة الثقافيّة والفكريّة والفقهيّة عموماً, وبخاصة مع ابن حنبل وكل من آمن بفكره منذ ذلك التاريخ حتى اليوم.

     إذن مع هذه الردّة الفكريّة السلفيّة التكفيريّة التي جسدها “المتوكل” وابن حنبل وتياره، انحسر دور العقل والفكر العقلانيّ ليسود منذ ذلك التاريخ حتى اليوم فكر النقل المشبع أكثره بالأسطورة والخرافة والكرامات واللامعقول، واستمرار كل ما اشتغل عليه فقهاء العصور الوسطى من قضايا تهم ذلك العصر، واعتبار كل جديد بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

      نعم.. لم يعد مسموحاً الاشتغال على العقل في التعامل مع الواقع والعمل على النهوض به، إلى أن بدأت عمليّة الانفتاح على الغرب والحضارة الغربيّة بالطرق والوسائل التي أشرنا إليها في الاجابة السابقة، هذا الانفتاح الذي ظل في الحقيقة قائماً أو محصوراً على النخب ولم يتحول حتى اليوم إلى ثقافة شعبيّة.. ومع ذلك لا يمكننا إنكار ما حققته هذه النخب المثقفة والمتعلمة منذ نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين حتى اليوم على كافة مستويات الساحة العربيّة، من خلال ما أوجدته من صحف ومجلات ودور نشر وأحزاب ذات توجهات تقدميّة، أو من خلال وجودها في مواقع عملها في مؤسسات الدولة وخاصة الجامعيّة منها، رغم أن كل ما كانت تمارسه من نشاط تنويريّ كان يحسب عليها، وقد دفع بعض هذه النخب ثمنه باهضاً من قبل المؤسسات الدينيّة المتحكمة بهذه الدرجة أو تلك بناءً على قوة التأثير التي تتمتع به هذه المؤسسات الدينيّة على القرار السياسيّ للكثير من الدول العربيّة، ونحن لن ننسى ما جرى لسلامة موسى، وعلي عبد الرازق، وطه حسين، وفيما بعد لفرج فوده، وحامد أبو زيد، من قبل المؤسسات الدينيّة، وسكوت السلطات الحاكمة في الكثير من الدول العربيّة عن مواقف هذه المؤسسات الدينيّة في محاربة الفكر العقلانيّ وحوامله الاجتماعيّة من النخب المثقفة التنويريّة، وهذا الموقف العدائيّ للفكر العقلانيّ التنويري هو امتداد في الحقيقة للمواقف العدائيّة ذاتها التي اُتُخِذَتْ ضد غيلان الدمشقي، وجعد بن درهم، وجهم بن صفوان، وابن المقفع، والكندي، وابن خلدون، وابن رشد وغيرهم الكثير، الذين كانوا ضحيّة لرجال أو مشايخ الفكر السلفيّ الوثوقيّ الاستسلاميّ القائم على النقل.

     نقول: رغم كل الحصار الذي فرض على الكتاب العقلانيين التنويرين العرب في تاريخنا المعاصر، والاتهامات التي وجهت لهم من قبل أعداء التيار العقلانيّ، إن كانت هذه الاتهامات ذات طابع دينيّ تكفيريّ، أو سياسيّ تخوينيّ، أو أخلاقيّ تهتكيّ. إلا أن التيار التنويريّ العقلانيّ مارس تحديه للقوى السلفيّة وداعميها، وكانت كتابات حامله الاجتماعيّ وكتبهم مليئة في قضايا التنوير والحداثة. لقد اشتغلوا سياسيّاً على المطالبة بضرورة تطبيق الدولة المدنيّة ومفرداتها من ديمقراطيّة وعلمانيّة ودولة القانون والمؤسسات والمواطنة ومحاربة الاستبداد السياسيّ.. كما اشتغلوا على فكرة الحريّة في بعدها الاجتماعيّ والفلسفيّ، فطلبوا بتحرير المرأة واحترام الرأي والرأي الاخر، واشتغلوا على ضرورة تحقيق العدالة الاجتماعيّة ومحاربة الاستغلال، ونشر التعليم ومحو الأميّة، ومحاربة المرجعيات التقليديّة من طائفيّة وعشائريّة ومذهبيّة..

     إن هذه القضايا التي اشتغلوا عليها، وجد الكثر من مفردتها عبر القرن العشرين حضوراً في الساحة الثقافيّة والمؤسساتيّة استطاعت أن تؤسس في الحقية لمشروع حداثي، رحنا نلمسه من خلال تعليم المرأة ودخولها مجال العمل. ومن خلال تشكل الأحزاب وتعدد توجهاتها الفكريّة، مثلما وجدناها في الحركات السياسيّة الكثيرة ووصول الأحزاب الديمقراطيّة الثوريّة إلى السلطة كالناصريّة والبعثيّة وغيرهما، وما حققته هذه الأحزاب عند وصولها للسلطة من دور في تطوير المجتمع والدولة، مع تأكيدنا بأن الكثير من قادتها حكمتهم فيما بعد شهوة السلطة، الأمر الذي حول دول أحزابهم إلى دول شموليّة مستبدة، جاء حراك الربيع العربي ليبين عوراتهم وفسادهم وابتعادهم عن مصالح الشعب.

كاتب وباحث من سوريّة

(***)

مرايا فكرية – الحلقة (الثالثة)

     مراد غريبي يحاور الباحث الأكاديمي النهضوي د. عدنان عويّد.

خاص موقع صحيفة المثقف: يستضيف موقع صحيفة المثقف, الباحث الأكاديمي الأستاذ الدكتور عدنان عويّد، ضمن مرايا فكريّة، وحوار شامل أجراه معه الأستاذ الباحث مراد غريبي، حول قضايا الفكر والهوية واللغة والنهضة في العالم العربي، فأهلا وسهلا بهما:

 المحور الأول: قضايا الفكر والهوية والتراث:

س4: ا. مراد غريبي: العقلانيّة في الخطاب العربيّ اتسمت بأنماط فكريّة متعددة توزعت بين التيار الدينيّ التجديديّ والتيار العلمانيّ الحداثيّ، والتساؤل كالآتي: ما راهن الخطاب العقلانيّ العربيّ في ظل تحديات التطرف والتخلف والتفاهة في عمق الساحة الفكريّة العربيّة المعاصرة؟ وهل فعلا العقلانيّة هاجرت من مجالنا العربيّ المعاصر ككل الأدمغة المستنيرة علميّا وثقافيّ

س4: د. عدنان عويد: لنعد إلى موضوع سؤالكم عن: موقع العقل وروح العقلانيّة في الفكر العربيّ الحديث والمعاصر؟. لقد قلنا إن الفكر العقلانيّ قد ارتبط منذ بداية طرحه على الساحة الثقافيّة العربيّة الحديثة والمعاصرة، بالنخب المثقفة حتى منتصف القرن العشرين، وخاصة الأوائل منهم الذين حاز معظمهم على شهاداته العليا من جامعات الغرب. وكان لهم الأثر الكبير على طلابهم في الجامعات العربيّة، حيث تخرج من تحت أيديهم مئات آلاف الطلاب والطالبات على كافة المستويات الفكريّة، الفلسفيّة منها والأدبيّة والفنيّة، الذين تأثروا بفكر أساتذتهم العقلانيّ ومناهج بحوثهم. حيث رحنا نجد أفكار الحداثة التي رافقت عصر الثورة الصناعيّة في أوربا تنتشر بين صفوف الطلبة وعشاق المعرفة، إن كان على المستوى الفلسفيّ أو الفني والأدبي. فهذه الأفكار الفلسفيّة أخذت تُدرسها أقاسم الفلسفة وعلم الاجتماع في العديد من جامعات الدول العربيّة، كفكر فرانسيس بيكون، ورينيه، وديكارت، وهوبس، وسبينوزا، ولوك، أو فكر رواد الفلسفة الانكليزيّة، كابريكلي وهيوم، أو فكر الفلاسفة الألمان كاليبنتز وليسنغ، وفيما بعد هيجل وفورباخ وفيورباخ وماركس وانجلز، كما تاثروا كثيراً بأفكار فلاسفة عصر التنوير الفرنسيّ، كفكر مونتسكيو، وكوندياك، وديدرو، وروسو وريكاردو وهلفينيوس وفولتير.. الخ. ومع مرحلة ما بعد الحرب العالميّة الأولى والثانية، راحت أفكار مدارس ما بعد الحداثة تغزوا الساحة الفكريّة العربيّة أيضاً على كافة مستوياتها الفلسفية والأدبيّة والفنيّة، حيث رحنا نجد من يروج للوجوديّة كعبد الرحمن بدوي، وللمدرسة الوضعيّة والوضعيّة الحديثة كزكي نجيب محمود، وللمنهج الماديّ التاريخيّ عند محمود امين العالم والطيب تيزيني وحسين مروة، وغيرهم الكثير ممن تبنى الماركسية منهجاً، وكذلك وجدنا الفكر الديكارتيّ ومنهجه، عند طه حسين وجلال صادق العظم.. في الوقت الذي رحنا نجد فيه أيضاً الفكر الإسلاميّ التنويريّ يأخذ دوره الواسع في إعادة قراءة النص الدينيّ كما فعل حسن حنفي والسيد القمني وماجد الغرباوي وهادي العلوي والجابري ومحمد عماره وأركون، مثلما وجدنا التيارات الفكريّة السياسيّة بمناهجها الليبراليّة عند العروي وياسين الحافظ والياس مرقص. ولم نعدم الفكر الما بعد حداثويّ عند علي حرب، أما في الأدب فقد كان للفكر الغربيّ ومدارسه الدور الكبير على الأدباء العرب، حيث انتشرت المدارس الأدبيّة كالواقعيّة والواقعيّة الاشتراكيّة والرمزيّة والبنويويّة وغيرها. وكان للشعر بشكل خاص تأثره الكبير بالمدارس الغربيّة، حيث شق السياب ونازك الملائكة وأدونيس وفيما بعد مدرسة الشعر الطريق لهذا التوجه الحداثي. وهذا وجدناه في الفن أيضاً ومدارسه كالمدرسة الرومانسيّة والواقعيّة والرمزيّة والتكعيبيّة والتعبيريّة والسوريالية.. الخ.

     ملاك القول: يمكننا التأكيد هنا بأن العقلانيّة لم تهجر الساحة الثقافيةّ العربيّة كليّاً رغم هجرة العديد من حواملها الاجتماعيين إلى أوربا، بسبب السلطات الاستبدايّة في العديد من الأنظمة العربيّة ومؤسساتها الدينيّة الرجعيّة التي حاربت الفكر التنويريّ العقلانيّ، وعملت على تشويه العلمانيّة والديمقراطيّة، عندما حولتهما إلى مفاهيم شكليّة تتاجر بها أمام القوى التنويريّة في الداخل والخارج، بينما كانت تعمل في السر والعلن على نشر الفكر السلفيّ الظلاميّ التكفيريّ القائم على النقل وتسطيح العقل. وقد جاءت ثورات الربيع العربيّ رغم كل فوضويتها وعدم عقلانيتها وانضباطها فكريّاً وسلوكيّاً، لتكشف عورات هذه الأنظمة، وتبين طبيعة الفكر الذي اشتغلت عليه عشرات السنين، وكان وراء ما سمي بالصحوة الإسلاميّة التي اخترق رجالاتها ومريدوها ثورات الربيع العربيّ. هذا ونستطيع القول أيضاً إن الفكر العقلانيّ التنويريّ ودعوات العلمانيّة والديمقراطيّة والعقلانيّة النقديّة، لم تغب عن الساحة الثقافيّة والسياسيّة، بفضل وسائل التواصل الاجتماعيّ ومواقع النشر الالكترونيّ الكثيرة التي تعمل خارج سيطرة السلطات الحاكمة المستبدة عدوة العقل والعقلانيّة.

كاتب وباحث من سوريّة

‫شاهد أيضًا‬

ماجد الغرباوي: إشكالية النهضة ورهان تقوية الشعور الهوياتي العقلاني لدى العربي المسلم * الحسين بوخرطة

الدكتور ماجد الغرباوي، مدير مجلة المثقف الإلكترونية، غني عن التعريف. كتاباته الرصينة شكلت …