هل هي أزمة قيادات أم أزمة نخب سياسية أم أزمة نخب ثقافية؟ أم أزمة الثقة بالجماهير؟
لا تزال نخبنا السياسية والثقافية التقليدية، مستمرة في الاعتقاد بأنها هي الوصية الشرعية، وهي الحاملة للحقيقة المطلقة في تعاملها مع الشأن العام، أو مع التاريخ الوطني، وكل هاته النخب التقليدية وبألوانها المختلفة، ليبرالية كانت أم يسارية؟ أم اسلامية؟ أم محافظة؟ لكنها تتعالى على العامة وعلى المواطن، وتخاطب الجميع من زاوية أنها هي المالكة للحقيقة، والوحيدة التي لها سلطة النصيحة، وبذلك تجد هاته النخب المتهالكة تتعامل مع القواعد بعقلية الوصاية الفوقية المعصومة، إن عقدة هاته النخب السياسية والثقافية التقليدية أنها سجينة أفكارها ومعتقداتها، حيث تعيش في وهم مرضي ،وتتوهم أن دعواتها، ومقولاتها وخطبها، ونصائحها عن الحرية والديموقراطية والعدالة الاجتماعية ، تستطيع أن تفعل في الواقع ما تريده، وهي لا تعلم أن هذا الواقع أصلا ما يزال موهوما ، واقع مهترىء، واقع غير متجانس، فكيف لها أن تفهم وتتفاهم مع هذا الواقع المتعدد أو كما يقول عبد الكبير الخطيب: “واقع ومجتمع مركب“.
إن السياسين وزعماء الأحزاب، وكل المثقفين المتحزبين والمناضلين الذين يناضلون في صفوف هاته الأحزاب التقليدية ،كانوا قد رفعوا في الماضي شعارات سياسية عظيمة، من قبيل حتمية الحل الاشتراكي، حتمية الديموقراطية كطريق للقضاء على الفساد والاستبداد ،حتمية الحرية كطريق للحياة وغيرها من الشعارات التي تم نسجها في فترات المد النضالي ،وخصوصا في صفوف الأحزاب الاشتراكية والديموقراطية، شعارات عايشناها ورددناها “كجيل“ في الشوارع والساحات ،والمؤتمرات، واعتبرناها أداة لحشد الهمم، كما زرعت هاته الأحزاب في أذهاننا، وعقولنا مقولات لنظريات علمية وإنسانية صاغتها وصنعتها قيادات وزعامات أممية حاملة لمشاريع ايديولوجية كبيرة من قبيل: “الإشتراكية العلمية“،“العدالة الاجتماعية“ ،“الديموقراطية الشعبية“، “الحرية“…لاكن ظهور النظام العالمي الجديد، وهيمنة الاقتصاد الحر والشركات العالمية الكبرى، أفقدت هاته المفاهيم حمولتها الفكرية والسياسية، وأصبحت عبارة عن شعارات للاستهلاك، لا تتمتع بقوة تصديق جماهيرية، بل تعرضت لعملية ابتذال وتشويه، حرية الإقتصاد، عوض حرية الانسان، ديموقراطية الشكل والأجهزة، لا ديموقراطية الإنصاف والمساواة في الحقوق…حرية تحرك الرأسمال العالمي.. والأغرب من هذا كله أن من الذين كانوا يدافعون عن الحرية تنظيرا، هم المضادون للحرية واقعا…حتى الماركسيين الذين يتغنون بمقولة ماركس ابتعدوا عن الواقع وأصبحوا يسايرون الحياة ويفهمونه، وهما لا حقيقة، ناسين أن ماركس نفسه قال: فالأفضل الذهاب مباشرة إلى الواقع بدلا من الاكتفاء بتخيله، أي أن على الماركسي أن لا يقعد للتنظير بل عليه بالخروج إلى الواقع لفهمه وتغييره ،وهو الذي قال كذلك:“ يتعين علينا أن نخرج رؤوسنا من الواقع لا أن نخرج الواقع من رؤوسنا“، هذا حال زعماء تتلمذوا بل تفقهوا من كراسات وكتب ماركس وهم الآن يكيفون نظرياته مع برامجهم الحزبية،تكييف مشوها مبررين ذلك بمسايرة تطورات الاقتصاد العالمي الجديد، ونفس هذا الوضع ينطبق على نخبنا السياسية التي هي ذات محنى اشتراكي ،أو قومي، أو إسلامي ،أو محافظ، الكل يسبح مع التيار وينبح مع رواد التجديد دفاعا عن العولمة والحرية…وهذا ما جعلهم منعزلين عن الجماهير، وهذا الانعزال أدى بهم إلى العجز عن مسايرة الواقع ،فهم يدعون إلى الديموقراطية والحرية، ولكن لا يمارسونها، وإن مارسوها فهم لا يحسنون ممارستها، أي يمارسونها بشكل أسوأ ،وأبسط دليل على ذلك أنهم حولوا أحزابهم إلى أولغارشيات، وجعلوا الديموقراطية الداخلية داخل الحزب إلى تصويت ابدي على الزعيم.
النخب التقليدية والنخب الجديدة وأزمة الثقة؟
تعد إشكالية صناعة النخب من إشكاليات المشهد السياسي، والمرتبطة بشكل كبير بطبيعة المنظومة الحزبية، وطبيعة التعددية الحزبية، هاته التعددية التي تبقى تعددية وشكلية ليس إلا…، حيث الأحزاب تتشابه على مستوى الرؤى والبرامج، وغياب الوضوح الأيديولوجي، والإلتزام السياسي، وتفشي ظاهرة الترحال الحزبي، والاستقطاب النفعي، مما يسبب في انعدام الثقة وغياب الفاعلية وجاذبية العمل السياسي والحزبي.
انه بعد انهيار جدران الأيديولوجية ،وبعد سقوط الالتزام الأيديولوجي، حدثت رجة في جيولوجيا الأحزاب الوطنية، ببزوغ نخب جديدة دخلت الميدان السياسي والنضال الديموقراطي، وشاركت في الكثير من المعارك النضالية والحقوقية والسياسية، وإن كانت غير راضية عن تسيد البيروقراطية في داخل العمران الحزبي والنقابي، ومع ذلك استمرت هاته النخب الجديدة في مواجهة عنجهية وصنيعة زعماء الأحزاب لعدة أسباب من أهمها:
1 ـ رفض هاته النخب الشابة للدور القزمي الموكول اليها داخل الاحزاب والنقابات والقطاعات الموازية لها من قبيل: القيام بالتعبئة والتجييش في الحملات الانتخابية او المؤتمرات الوطنية او في الاستعراضات والمهرجانات الحزبية…دونما السماح لهاته النخب الشابة بالوصول إلى الأجهزة التقريرية والتنفيذية وبالأحرى السماح لها بمنافسة أو حتى بمشاكسة الزعماء في الترشيح للرئاسة او الكتابة الاولى، لذا فإننا نشاهد يوميا ،ونعايش سلوكات تشوه العمل الحزبي من قبل أولياء أمور هاته الأحزاب من قبيل ممارسات بيروقراطية مبتذلة وزبونية تدفع بأبناء الزعماء وزوجاتهم وأقاربهم للولوج دفعة واحدة إلى دفة التسيير الحزبي دونما المرور عبر سلم الترقي الحزبي من أدنى الدرجة إلى أعلى الدرجة.
2 ـ هاته النخب الشابة كلها متشبعة بفكر التجديد، والتمرد على الشخصيات والوجوه القيادية التقليدية، التي طال خلودها في توابث الأحزاب والنقابات حتى أصبحت أشبه بمومياء فرعونية ،تحكم وتسود في حياتها ومماتها.
إن هاته القيادات المحنطة ،هي التي قادت هاته الأحزاب إلى الشلل التام، وهي الآن في قسم الإنعاش، تحت تجديد الخلايا التي لا يمكن أن تحيا من غير هاته النخب الشابة ،والتي ضرب عليها الحصار فأقصيت، أو طردت ،وفي أحسن الأحوال تجمد عضويتها، وتمنع من شروط الترشح في الانتخابات، فإلى متى سيستمر هذا الوضع المهترىء بواسطة قيادات حزبية مهترئة؟ فمتى سيبدأ رهان تأهيل المؤسسات الحزبية لإنتاج نخب جديدة؟
النقاش الدائر اليوم حول تأهيل المؤسسات الحزبية والنقابية، كان نقاشا بالأمس قبل اليوم، حيث ارتفعت أصوات المثقفين والمفكرين والنقابيين ،مطالبين بضرورة إحداث حلحلة أو زحزحة للبنيان الحزبي والنقابي، في ظل الإعصار السياسي الذي خلفه النظام الاقتصادي العالمي الجديد، هذا النظام الذي يحتاج إلى أنظمة حزبية ونقابية جديدة، بحكم جدة الأوضاع الاجتماعية التي أفرزت مجتمعات متهالكة بفعل الأنظمة الاقتصادية الجديدة التي ولدت أسواقا مالية حرة واستثمارات راسمالية متحركة ومتحولة من بلد إلى آخر، نظام التجارة أو المناطق الحرة…الخصخصة…العولمة… كلها دواعي تستدعي مراجعتها بأنظمة اقتصادية واجتماعية جديدة.
إن أزمة المؤسسة الحزبية التي يكاد يجمع الفاعلون السياسيون على الضرورة الموضوعية لتأهيلها التنظيمي والمذهبي، تعكس في العمق انحصار وأزمة بل الاستنفاد التاريخي لقواعد اللعبة السياسية، التي وضعت بعد الاستقلال على توافقات ،ومستويات سياسية ،تعكس ظروف المرحلة آنذاك، وأصبحت اليوم في سياقات تاريخية مغايرة ،تفرض تطورها في اتجاه منطق التاريخ ومنطق فصل الوظائف السياسية والأدوار الاجتماعية، هذا ما كان يقوله: “جون واتر بوري“ في (كتابه أمير المؤمنين) وهو الذي أشار فيه إلى أن تنظيماتنا الحزبية وعلى غرار السلطة السياسية تشكل امتدادا لأشكال التنظيم الاجتماعي القبلي، واليوم هاته التنظيمات التقليدية انحلت وانفكت ،وبالتالي حلت محلها تنظيمات المجتمع المدني،وهذا ما تسبب في أزمة داخلية في مؤسساتنا الحزبية مما أعاق الانتقال الديموقراطي في مجتمعنا وبلدنا.
إنه لا يمكن تصور إصلاح للمؤسسة الحزبية، وتأهيل الحياة السياسية دون إعادة النظر في الآليات التقليدية لإدارة وتدبير المؤسسات الحزبية، وهي آليات فشلت في تدبير الاختلاف بين التيارات داخل الحزب الواحد، كما فشلت في إنتاج نخب سياسية جديدة، بل إنها حاربت وصارعت ضد تطور هاته النخب، ولهذا فإننا نحتاج إلى طبقة سياسية جديدة تمتلك شرعية ديموقراطية، وشرعية الامتداد الجماهيري، وشرعية المشروع المجتمعي، والقوة الإقتراحية ولهذا السبب أعتنت المؤسسة الملكية في البداية بموضوع الديموقراطية الداخلية للأحزاب، على اعتبار أن غيابها يؤدي إلى غياب الآليات القانونية والتنظيمية لتدبير الاختلاف وانتاج وتداول النخب على إدارة وتدبير وتجديد المؤسسة الحزبية. خطاب 13 اكتوبر2000 .
مسؤولية الدولة والأحزاب في تكوين نخب جديدة
ارتكز دور الدولة منذ الإستقلال في مراقبة تفاعلات وتعددت هذه التنظيمات الحزبية، بين افراد المجتمع ، وذلك لأجل احتوائها وضبط إيقاعها، وتلجيمها من خلال سن( قوانين) لعقلنة المشهد الحزبي، وضبط حركة وتموجات المجتمع المدني، إما عبر جرعات من الحريات والضوابط القانونية التي لا تسمح بالخروج عن الخطوط الحمراء.
إن الدولة قامت بدسترة ومأسسة الحقوق الفردية والجماعية، مع ترسيخ استقلالية القضاء، واستقلال الجمعيات والأحزاب وصولا الى ترسيخ دولة الحق والقانون.
إن تأهيل الأحزاب والنقابات، وخلق مجتمع مدني قوي لم تعرف تطورا ملموسا، حيث شيوع تفتيت الأحزاب السياسية الوطنية، مع تسهيل الانشقاقات داخل صفوفها، بدافع قمع التيارات الراديكالية داخل هاته الأحزاب(الاتحاد الاشتراكي، المؤتمر الوطني الإتحادي، حزب الطليعة….) هذه الانشقاقات تسببت في ترهل واهتراء نظام المؤسسة الحزبية، وكذلك ساهمت بعض الدوائر التي تعمل في الظل(الحزب السري) في تشجيع إنشاء أحزاب موالية للادارة، يتم تطعيمها بنخب جديدة، نخب محلية، وأعيان جدد عوض نخب مكونة ومؤهلة من طرف الأحزاب الوطنية التاريخية، والتي تكونت في نضالات حقوقية وثقافية ومهنية ،ولقد ساعد انتشار تشتت الاحزاب وتكوين اخرى إدارية في تشويه المسار الديموقراطي اضافة الى عدد من الاختلالات التي حرفت هذا المسار الديموقراطي عن سكته منها: ـ التحكم في التقطيع الانتخابي للجماعات والبرلمان. ـ اختراق الاحزاب السياسية من طرف اللوبيات.ـ ظاهرة الترحال السياسي. ـ تكريس منطق الولاءات والقرابات العائلية داخل الاحزاب. ـ الاغتناء بواسطة الريع الساسي المفضي حتما الى الريع الاقتصادي.ـ استعمال المال الحرام في الانتخابات،كلها عوامل اعاقت توفير الشروط الملائمة لتكوين المجتمع المدني وتنظيمه وضمان استقلاليته.
إن الدولة لها مسؤولية كبرى في إنشاء وخلق نخب فكرية وسياسية وتكنوقراطية قادرة على تدبير الشان العام، كما ان الاحزاب السياسية والنقابية المهنية والعمالية، لم تساهم هي الاخرى في تكوين النخب الجديدة ،ولا في توجيه اطرها وكوادرها الاتجاه الصحيح، ولا حتى في تقييم تجاربها داخل المؤسسات التمثيلية والمتخبة.
إن الازمة عندنا ليست ازمة يسار او يمين كما يريد البعض ان يبررها، وليست ازمة في وعي مواطيننا وجماهيرنا، بل هي ازمة قيادات ونخب عاجزة عن انجاز دورها في الظرف الراهن، إذن لابد من استشراف دور جديد للدولة وللاحزاب ويجمعها بنية توليدية لأطر ونخب شابة أكثر كفاءة واحسن تكوينا، وتتوفر فيهم كل المواصفات الفكرية والنضالية والاخلاقية التي تمنح الفعل الحزبي والنقابي قوة اقتراحية قادرة على كسب رهان التنمية والتطور.