إن عالمنا اليوم، أي عالم السنة الأولى من العشرية الثالثة من القرن الواحد والعشرين، يعيش جائحة لم تتكرر كثيرا على مر التاريخ، ويتعلق الأمر بانتشار وباء كورونا المستجد كوفيد 19. لقد تبين، كالمعتاد، أن التمكن من التفوق في التعامل مع ما استجد من المعضلات الكونية بقي دائما مرتبطا بقوة الوعي المعرفي المجتمعي، المرتبط بدوره بتقدم الأوطان والشعوب علميا وتكنولوجيا.

وأمام هذه الحقيقة، تبقى مواجهة هذا الوباء (كنموذج ارتقى بخطورته إلى جائحة كونية)، لا يتجلى في تخويف الناس وترويعهم، بل توعيتهم واعتماد الحزم والمسؤولية في ضمان وقايتهم بكل السبل الممكنة، وعلى رأسها التفعيل الحرفي لشعار “اجلس في منزلك” في حالة استفحال الأخطار والنكبات. فإذا كان تفعيل هذا الشعار الآني، بطبيعته، سيقوي التواصل ما بين أفراد الأسرة الواحدة، وسيرفع من تفاعلهم وتعاملهم مع ضرورة تتبع الدراسة عن بعد عبر وسائل الاتصال العصرية، وهذه الثقافة تعتبر نسبيا الحلقة الأضعف في منظومتنا التربوية والتعليمية، فإن التربية على المواجهة الدائمة للظواهر المهددة للاستقرار، وللعيش المشترك، ولحياة الإنسان، والتي ليست منفصلة عن سبل البحث عن رفاهيته وسعادته، تبقى إلى حد بعيد مرتبطة بتيسير ترسيخ الإيمان مجتمعيا بالعلم، وتطبيق نتائجه في الحياة اليومية. فلا مناص بالنسبة للأم من العمل الدؤوب لتقليص الهوة ما بين التفكير العلمي النخبوي وطنيا ودوليا، المسجل والمحفوظ في الكتب والأطروحات الورقية والإلكترونية، وانعكاساته على مجالات التطبيق المجتمعي على المستويين الفردي والجماعي قولا وسلوكا واستهلاكا.

وعندما يتم الحديث عن ترسيخ العلم في ثقافة وممارسة الفرد، بميزتيه المحلية والكونية، يعني ذلك وجود جهود، بآليات ناجعة، لتسريع وثيرة التقدم في مسار إنتاج أو تجديد النظريات (البحث العلمي) وتطبيقها مجتمعيا، بالشكل الذي يجعل حقائق الماضي مجرد تراث تاريخي، شكلت في زمانها ومكانها مرحلة من مراحل المعرفة العلمية التي تمخضت عنها ممارسات عديدة، وتم تجاوزها بشكل جزئي أو كلي باختراعات وابتكارات جديدة. فمثلا، كان الجمل بفصائله، وهو حيوان من شفعيات الأصابع، وسيلة للتنقل تعتمدها الأنشطة الاقتصادية زمن القوافل التجارية، ليتحول اليوم إلى وسيلة للترفيه على شواطئ البحار والمحيطات، وموردا غذائيا ذا الجودة العالية بلحومه، وحليب أنثاه، وكتلته الذهنية. كذلك، فمنذ ولادة الرسول، صلى الله عليه وسلم، إلى حدود بداية القرن التاسع عشر الميلادي، استمر الإنسان يعتمد على قوته الجسمانية مستعينا بالدواب المختلفة في تنقلاته وقيامه بأعماله اليومية. فحتى عندما اخترع أول دراجة هوائية سنة 1817، كانت قوة تحريكها تعتمد على قوة دفع أرجل مستعمليها (vélocipède)، لتتوالى الاختراعات، الواحدة تلو الأخرى، بحيث تم اختراع المحركات الميكانيكية، وموارد جديدة للطاقة، ليتم تجاوز دراجة كل التضاريس الهوائية (VTT)، ويحل محلها دراجة بمحرك كهربائي (نفس التطور غزى بفضل الإلكترونيات كل مجالات حياة الإنسان).

أدرجت هذه الأمثلة في هذا المقال للتعبير أن المطلوب اليوم ليس هو الخوف، بل هو دفع المجتمع بكل أفراده إلى التفكير في كيفية ركوب قطار المستقبل، وتعميم نشر الفكر المقاولاتي المرتبط بالتعليم والتكوين Entrepreneuriat، وتيسير غزوه لعقول فئات الأجيال النشيطة. طموحنا في استمرار الحياة، وتجاوز المعضلات المهددة لها حق مشروع، لكن يجب أن يكون أساسه تفكير كل واحد منا في كيفية تحويل نفسه، وتحويل ذويه، إلى فاعلين في البحث عن الأفكار الجديدة وصنع الأحداث النافعة وطنيا وعالميا. فتجنب الوفاة بوباء كورونا، والذي سيحول دون دخول كل واحد منا إلى التاريخ بهوية مشتركة تحت اسم “ضحايا كورونا 2020″، يجب أن يشكل لنا درسا في الحياة، أولا من خلال التزام الآباء والأمهات بالالتصاق بأطفالهم من أجل تعويدهم على الإبحار في العالم الافتراضي باحثين عن العلم والمعرفة النافعة، والابتعاد عن التفاهة ومضيعة الوقت، واستغلال التكنولوجيا الحديثة في التعلم عن بعد، وجعل الترفيه مرتبطا بالمجال الحقيقي (رياضة، موسيقى، قراءة، مسرح، سينما،….).

إن الرهان الذي يجب أن نسعى إلى تحقيقه يتجلى في تحويل حدث انتشار “كورونا المستجد” إلى مرادف للقولة “رب ضارة نافعة”. والنفع في هذا الأمر يتجلى في تربية الأجيال على التمييز بين الرأي والنظرية والحقيقة، وملامسة كون معارف العقل الإلهي لا يمكن تحديدها بالعقل البشري، ليرتبط نيل رضا الله بالجهد العقلي للإحاطة بجزء من معارفه التي لا تعد ولا تحصى، وبمقدار يتجاوز زمنيا قياسه بنقطة ماء في بحر. فالبرغم مما وصلت إليه الإنسانية من اختراعات وعلوم ومعارف خارقة، تبقى حقائق العقول البشرية في مختلف الحقب والأزمنة مجرد حقائق نسبية تاريخية، لكنها محفزة جدا للغوص في مجالات جديدة للبحث عن حقائق جديدة لاكتشاف الطبيعة والذات البشرية وعلاقاتها مع باقي الكائنات ومكونات الكون.

المطلوب اليوم أن نقرب مفهوم النظرية والحصائل المرتبطة بها من الإنسان المغربي، ليصبح البحث عن نظريات جديدة ممارسة يومية في حياة الأفراد والجماعات. ما نعيشه اليوم من ارتباك وضعف الالتزام بالمسؤولية هنا وهناك، يجب أن يضع مؤسسات الدول ونخب المجتمعات المختلفة أمام ضرورة الاجتهاد العميق لخلق آليات دقيقة قادرة على إخضاع البناء العقلاني للأفراد والجماعات إلى معايير المعقولية المنتجة للعلاقات المتماسكة. إنه ورش مجتمعي يجب أن يبتدئ في كل قطر عربي بتربية الجزء الأكبر من أجيال الحاضر والمستقبل على قوة الملاحظة، وطرح الفرضيات والتفكير فيها، والبحث عن فضاءات التجريب والتحليل البرهاني في الداخل والخارج، وتتويج حصائل مراحل حياتهم بمعارف نافعة للذات وللإنسانية.

ما أحوج بلداننا إلى تأهيل أجيالها للإسهام في حركية التاريخ بأوجهه الجديدة والمتجددة، وفي تجاوز المعارف المعاشة بأخرى أكثر نفعا. لقد أبانت التطورات أن الدول المتقدمة، في تفاعلها مع هذا الوباء، مهما كانت الخلفيات والأهداف، قد تجاوزت مرحلة الملاحظة والفرضيات المرتبطة بهذا الفيروس، لتدخل مرحلة التجريب المختبري، متيقنة، من باب الإيمان بالعلم، أن لكل داء دواء في الطبيعة.

خاتمة

مما لا شك فيه، ونحن نتخبط للنجاة من مخالب هذه المحنة، أننا في حاجة إلى شفاعة دنيوية من نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، تقينا شرور الحاضر. فخاتم الأنبياء، الذي عاش أيامه في شبه الجزيرة العربية خلال القرن السادس والسابع الميلادي (ولد سنة 571م)، سيستضيف بلا ريب علماء الأرض الصالحين بشفاعته يوم القيامة بالترحاب والامتنان. سيمكنه الله عز وجل بلا شك من الجزء الأوفر من علمه، الذي لا يوصف، فارضا تفوق منطق النبوة في الحياة الأبدية، والذي كان زمن حياته الأرضية لا دراية له به، ولا بتراكمات علماء العصور والحقب بعد وفاته. عندها سيتيقن كل عبد عاش على سطح الأرض، مهما كان موقعه الأخروي، من قوة مقولة “اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد”.

‫شاهد أيضًا‬

باب ما جاء في أن بوحمارة كان عميلا لفرنسا الإستعمارية..* لحسن العسبي

يحتاج التاريخ دوما لإعادة تحيين، كونه مادة لإنتاج المعنى انطلاقا من “الواقعة التاريخ…