ما يميز هذا الكتاب في جوهره وبنزعته الاجتماعيّة والأخلاقيّة والسياسيّة, هو وقوفه أو اشتغاله على مسائل ثلاثة اشتغل عليها الكثير من كتب في الخطاب الإسلاميّ من فقهاء ومتكلمين العصور الوسطى, ففي المسألة الاولى: اشتغل ابن تيميّة على الحاكم وصفاته وموقفه من الرعيّة وموقف الراعيّة منه . وفي المسألة الثانيّة, تناول فيها قضيّة الجهاد وضرورته وأسبابه, واعتباره فريضة عين على كل مسلم ومسلمة. أما المسألة الثالثة, فهي موقفه من قضايا المجتمع كالمعاملات والأحوال الشخصيّة وغيرها.
ونظراً لأهمية “ابن تيمية” ودوره الكبير, في تأسيس الخطاب الإسلاميّ (السلفيّ), ورجالاته ماضياً, وعلى تنظيماته الجهاديّة حاضراً, ممثلة في الحركة الوهابيّة والقاعدة وتفريعاتها, كداعش والنصرة وغيرهما من القوى والأحزاب التي اتخذت من رؤيته الجهاديّة منطلقاً أساساً في إعادة بناء الخلافة الإسلاميّة. جاء اهتمامنا في تقديم هذه القراءة الأوليّة لهذا الكتاب (السياسة الشرعيّة في إصلاح الراعي والرعيّة), آَمِلاً أن تحقق هذه القراءة الهدف المراد منها, ونحن نعش اليوم حالات من الفوضى واللامعقول على كافة مستويات حياتنا الاجتماعيّة والسياسيّة والأخلاقيّة والثقافيّة, التي كان للفكر السلفيّ التكفيريّ الجهاديّ المشبع بأفكار ابن تيمية والحركة الوهابيّة التأثير الكبير بشكل خاص في خلق هذه الفوضى, والقتل المجاني القائم على الاختلاف الفكري ضد من اعتبروا كفاراً, أو خارجين عن تعاليم الله ورسوله من قبل أصحاب هذا التيار السلفيّ الجهاديّ.
وقبل أن أدخل في صلب الموضوع هنا, لا بد لي أن أشير إلى مسألة على غاية من الأهميّة, حتى نكون على مقربة كبيرة من حقيقة فكر ابن تيميّة, وهي: تأكيدنا على أن ليس كل ما جاء عليه ابن تيميّة في خطابه الإسلاميّ هو خطأ ويجافي الحقيقة ومصالح الفرد والمجتمع, بل على العكس, هناك جوانب إيجابيّة كبيرة قد أشار إليها, مثل ضرورة قيام السلطة (الخلافة) على العدل والمساواة والتمسك بالحق والفضيلة, بل راح يؤكد على ضرورة تميز الخليفة أو الأمير بسمات وخصائص شخصيّة تجعل منه قدوة لمن يحكمهم, وهذا ما بينه في كتابه موضوع قراءتنا هذه. (1). وللتنويه نقول هنا إن قضيّة السياسة والسلطة, اشتغل عليها الكثير من الكتاب الاسلاميين في العصور الوسطى كالماوردي وابن جماعة وغيرهما, وابن تيمية لا يخرج في رؤيته في الواردة في كتابه عن جوهر رؤيتهم. وكذا الحال بالنسبة لتطبيق الشرع ودور الفقهاء في هذا الاتجاه, حيث نجد له رؤى عقلانيّة تتعلق بضرورة تطبيق الشريعة على الفرد والمجتمع وفقاً لمعايير أخلاقيّة عالية القيمة الإنسانيّة في جوهرها, أقرتها أحكام النص المقدس (القرآن والحديث), واشتغل على هذه الأحكام المذاهب الاسلاميّة, جميها, وابن تيمية لا يخرج في حكمه عن أحكام الشافعي وابن حنبل والمالكي في قضايا عصرهم, كالزنا وشرب الخمر والسرقة والحفاظ على النفوس والجراح والتعدي على أعراض الناس وكراماتهم الفرديّة وكل ما يتعلق بالأحوال الشخصية لذلك العصر. (2).
إن ما يهمنا في هذا الكتاب حقيقة هو موقفه من جهاد الكفار, ومن هم الكفار برأيه؟, وكيف اتخذت رؤاه أو مواقفه الفقهيّة منطلقاً للفكر الجهاديّ المعاصر.؟.
جهاد الكفار, القتال الفاصل:
في هذا الفصل من الكتاب تأتي مسألة الجهاد في الإسلام كما يراها “ابن تيميّة”, على أنها شكل من أشكل العقوبات المشروعة التي حددها الشرع القائم على النص المقدس بشقيه (القرآن والحديث). أي هي العقوبات التي جاءت بها الشريعة لمن عصى الله ورسوله, وهي عنده نوعان: الأول: العقوبات التي تنال أو تقع على الفرد أو عدد من الأفراد, وهذه يقوم بها القضاء في حدود صلاحياته. والثاني: التي تقع على طائفة ما, امتنعت عن تطبيق شرع الله أو الايمان به, وهذه الطائفة لا يُقْدَرْ عليها إلا بقتال فاصل، وهذا هو جهاد الكفار أعداء الله ورسوله, وهذه مهمة الأمّة الإسلاميّة وحكامها, وهي برأييه تعتبر فرض عين.
يتكئ ابن تيمية هنا على نصوص من القرآن والحديث لتبرير ما يدعو إليه في مسألة الجهاد كقول الرسول في الحديث التالي: {بعثت بالسيف بين يديّ الساعة، حتى يُعْبَدً الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذل والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم}. (3).
يقول “ابن تيميّة”: إن كل من بلغه دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى دين الله الذي بعثه به ولم يستجب لها، يجب قتاله وفقاً لنص الآية :{ وَقَٰتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ ٱلدِّينُ كُلُّهُۥ لِلَّهِ}. الأنفال – 37.
إن الله كما يرى ابن تيميّة – لما بعث نبيه، وأمره بدعوة الناس إلى دينه, لم يأذن في قتل أحد على ذلك ولا قتاله، حتى هاجر إلى المدينة، فأذن له وللمسلمين بقوله تعالى: {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير, الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز, الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور}. سورة الحج من الآية 39إلى 41. ثم إنه بعد ذلك أوجب عليهم القتال بقوله: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ). البقرة الآية 216.
هذا وقد أكد الله أمر الجهاد كما يرى ابن تيميّة، في عامة السور المدنيّة، وذم التاركين له، ووصفهم بالنفاق ومرض القلوب، كما جاء في قوله تعالى: {قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله, فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين} التوبة – الآية 24 وقال تعالى: {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون}. الحجرات – الأية 15 (14) (4).
إن مشكلتنا في الحقيقة اليوم, ليست مع ابن تيميّة وصحبه في زمنه, فهو ابن عصره, ولعصره قضاياه حاول التعبير عنها بصدق وبفهم للنص خاص به أو بمن فسره وأوله قبله واستمر هذا التفسير والتأويل موافقاً لقضايا عصره. وبالنسبة لنا أبناء اليوم نردد قول الله تعالى :(تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ۖ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ ۖ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ),( البقرة – الآية 134). ولذلك نقول: إن مشكلتنا ليست مع فكر ابن تيميّة عند تعاملنا مع التراث, بل مع من أخذ برؤيته الجهاديّة من سلفيّة عصرنا الحاضر وعمل على ليّ عنق واقعنا كي ينسجم من فهمه لرؤية ابن تيمية, أي جهاد من اعتبرهم ابن تيميّة كفاراً وفق لتفسيره أو تأويله لنصوص الجهاد الوارد في القرآن والحديث كما بينا أعلاه. وإذا كانت رؤيته أو تفسيره وتأويله للنص المقدس تجد مشروعيتها في عصره, والعصر الذي سبقه كما بينا قبل قليل, فهي تفقد اليوم هذه المشروعيّة بسبب حالات التطور التي أصابت الدولة والمجتمع. فالدولة لم تعد هي دولة حاكم ورعيّة, وفقهاء دين يشرعون وفق مصادر حددها لهم الشافعي, أو قضاة يطبقون ما شرعه لهم أولئك الفقهاء كما كانت الأمور تجري في عصره, بل نحن اليوم أما دولة عصريّة, لها قوانينها الوضعيّة, وآليّة عمل تقوم به مؤسسات ووزارات … هي دولة يطمح الناس في أن تكون دولة حاكم ومواطنة, أي دولة مدنيّة قد تغيرت فيها آليّة عمل وبنية ووظيفة عمل دولة الخلافة في عصر ابن تيميّة, ودور ومكانة مكوناتها الاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة والاقتصاديّة… هي في سياقها العام دولة مدنيّة يحكمها القانون الذي تطور كثيراً وتجاوز الكثير من قيم الماضي وقضاياه… هي دولة تدعو إلى الحريّة واحترام الرأي والرأي الآخر.. هي دولة التعدديّة واحترام المرأة ودورها في بناء هذه الحياة جنباً إلى جنب مع الرجل… هي الدولة التي لم يعد يحاكم فيها الإنسان على دينه أو عقيدته, بل على عمله وإيمانه بوطنه والدفاع عنه, والسعي لتحقيق الحقوق وتطبيق الواجبات المفروضة عليه.. هي الدولة التي لم يعد فيها الدين يحكم الدولة.. فالدين لله, والوطن للجميع بكل مكوناته الدينيّةّ والأثنية… هي الدولة المدنيّة المعاصرة التي نطمح إلى تحقيقها, أي الدولة التي تقوم اليوم على المؤسسات والعقد الاجتماعيّ الذي تقرره الشعوب, وليست دولة العقيدة والحاكم بأمر الله, بل دولة الشعب وفق دستوره الذي أقره بإرادته, وعلى أساسه الشعب من يختار حاكمه, وهو من يبدله ويعاقبه إذا أساء. والشعب هو المرجعيّة العليا في اقرار القوانين التي تنظم العلاقات بين الدولة والمجتمع.. والدولة بقوانينها الوضعيّة التي تسن أو تشرع, وفقاً لمصالح الناس عبر الزمان والمكان المعيوشين, هي من يحاسب الخارجين عن القانون, ولا يحق لأحد أن يحاسبهم على ذلك, والناس في هذه الدولة أحرار في لباسهم ومشربهم ومأكلهم طالما أنه لا ضرر ولا ضرار في ذلك, وليس من حق أحد أن يفرض عليه نوع اللباس وشكله وحجمه ولونه.. الخ.
أمام هذه المعطيات المعاصرة لمفهوم الدولة ومؤسساتها التي جئنا عليها هنا, يسقط الكثير من أسباب الجهاد التي حددها “ابن تيميّة” في كتابه, ولا يبقى مبرر لها إلا في حالات الدفاع عن الوطن إذا تم التعدي عليه من عدو الداخل والخارج, وتبقى الدولة وحدها بقوانينها تتولى حفظ النظام والأمن واستقرار الوطن والمواطن, وبالتالي فأي ممارسة للعنف خارج ذلك, هو خروج عن القانون, ويجب أن يحاسب مرتكب العنف وفق القانون نفسه الذي أقره الشعب وتمارسه الدولة.
كاتب وباحث من سورية
d.owaid333d@gmail.com
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـ1- ابن تيمية – كتاب السياسة الشرعيّة في إصلاح الراعي والرعية- تم تحميل الكتاب عن مكتبة نور. ص5
2- المصدر نفسه – ص16 وما بعد
2- المصدرنفسه – رواه أحمد في المسند عن ابن عمر، واستشهد به البخاري. 13 ص13 وما بعد
4- المصدر نفسه – ص 23 وما بعد