راودني مرارا أن أعنون هذه المقالة في قسمها الأول هذا، ب «النيوليبرالية أعلى مراحل الليبرالية». وبدون قصد مسبق مني،وجدته شبيها بالعنوان الذائع الصيت ل «لينين»: «الأمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية «. هذا العنوان الأخير الذي شكل خلال القرن العشرين البوصلة التي حكمت استراتيجيات الحركات الشيوعية، وإلى حد كبير حركات التحرر الوطني أيضا . جميع تلك الحركات استمرت تترقب ساعة الصفر الوشيكة لانهيار النظام الأمبريالي، إن لم يكن في قلاعه المركزية الكبرى، فلدول المحيط دورأكبر في تسريع وتعجيل الوصول إلى هذا اليوم السعيد.وهكذا، سيطرت حالة من الترقب السرابية طويلا على الرغم من أن ديناميات التطور الملتبسة كانت تجري في الاتجاه النقيض للظاهر تماما. وبدل أن ينهار النظام الأمبريالي كما كان منتظرا، انهارت الأنظمة والحركات التي كانت تبشر بهذا السقوط.
ولعل من أحد ألغاز هذا السقوط، القراءة الميكانيكية والدوغمائية للكلمة الملتبسة» أعلى مراحل الرأسمالية» الواردة في العنوان اللينيني. مع أن صاحبها كان بعيدا كل البعد، لا في النص نفسه ولا في كل مساره، عن الماركسية التي ستسود بعده، والتي أقل ما يقال عنها، أنها لم تكن تعرف للجدلية الماديانية التاريخية طريقا. ليس المجال هنا لتحليل ما ورد في النص اللينيني تحديدا، ولا لاختلافاته مع باقي الاجتهادات الماركسية الأخرى في زمنه، إذ يكفي القول، إن الرجل كان مهتجسا من أول خطواته في «ما العمل؟» إلى آخر أيام حياته « بإشكالية استقلالية الوعي»ومحكها الصراع الطبقي الملموس، بالتواءاته وتداخلاته، بين ماض وحاضر ومستقبل، وكما يتمخض عنها الصراع في الواقع الحي، لا كما تتصورها إسقاطات طبقية اقتصادوية قبلية. وفي نفس النص المذكور، حذر الرجل من أن الطور الأعلى المأزوم الذي وصلته الرأسمالية لا يعني أنها أضحت غير قادرة على تطوير قوى الإنتاج، ولا هي غير قادرة بالتالي على الإفلات من أزماتها المتكررة، إذ المسألة كلها ستتوقف على وعي وقدرات الطبقة العاملة وحلفائها، ومنها حركات التحرر القومي التي أدرك قيمتها الثورية أكثر من غيره.
قلة من الباحثين يقفون عند مغازي موقف لينين في هذا المنعطف التاريخي الذي أدى إلى الانشقاق الكبير في صفوف الحركة الاشتراكية في ما يخص تحديدا، الموقف الذي ينبغي اتخاذه من تناقضات الدول الأمبريالية في الحرب العالمية الأولى، أيساند كل منها بلده بذريعة قومية شوفنية استعمارية، أم يعارضها بقلب الطاولة على بورجوازيتها المنخرطة في الحرب، وفقط، من أجل تقاسم النفوذ الاستعماري لا غير؟ إنها القضية الرئيسة التي قصمت ظهر البعير أكثر من غيرها من القضايا الخلافية الأخرى حول ظهور الميولات الاشتراكية الإصلاحية الاندماجية مع النظام الرأسمالي.
أطلت نسبيا في هذا المدخل للحظة فارقة في التاريخ، لكي أستخلص منه، أن الصراعات الاجتماعية في جميع أحوالها الانعطافية، تنبلج دائما على ممكنات مستقبلية، لا على حتمية مسبقة، سوى ما يأتي كحصيلة موضوعية لاختيارات البشر ولوعيهم في تلك اللحظة الانعطافية المناسبة، إذ كيفما كانت العوامل الموضوعية المحددة، يبقى دائما، أن البشر هم صانعو تاريخهم.
(1)
ليس جديدا علي في ما كتبته سابقا التلويح المستمر إلى أن النظام الليبرالي يعاني، تحت تأثير مجموعة من التحولات الموضوعية، من اختناقات لأزمة ظاهرة للعيان. وهي أجلى انكشافا وأشد درامية في ما سمي في تجاربنا ب « الربيع العربي».
وقبل النظر في تجليات هذه الأزمة، وأسبابها، من الضروري العودة إلى جذورها الأيديولوجية، إذ لا يستقيم الحديث عن النيولبيرالية السائدة، منذ أن دشن حقبتها كل من إدارة ريغن في الولايات المتحدة و»تاتشر» في المملكة البريطانية(في الثمانينيات من القرن الماضي)، وبعد أن تضخم امتدادها العالمي بسقوط الاتحاد السوفياتي ومعسكره وهيمنة أمريكا على النظام الدولي، بدون الوقوف ولو قليلا على الجذور الإيديولوجية للنظام الليبرالي مادامت النيولبيرالية ليست إلا الحد الأقصى الأسوأ لذات الأيديولوجية. لكن مع التشديد أيضا، على أن الفرق بينهما ليس بالفارق الهين، من حيث أن بذور الأيديولوجية الليبيرالية نمت في مخاض الحقبة بين (ق16 وق18)، كما تأسست أنظمتها السياسية عبر الثورتين المثالين، الأمريكية والفرنسية، ثم وصولا إلى النضج والاستقرار بعد الحرب العالمية الثانية وبعد أن تعمم حق التصويت لجميع المواطنين شاملا في النهاية حق المرأة أيضا. في هذا السياق المتدرج والبطيء، كان نشوء الليبيرالية على علاتها البنيوية، خطوة تاريخية تقدمية كبرى، قلبت جذريا الشرط الإنساني في الأوطان الغربية التي أنجبتها واستوطنتها في كل المجالات، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعلمية، مكرسة قيمها العليا في الحرية، والعقلانية، والمواطنة، والعلمانية(بفتح العين). وبجملة واحدة، رفعت لواء تحرير الإنسان من استلاباته القديمة، وجعلته مبدئيا المسؤول الوحيد عن تقرير مصائره.
ولئن كان منطلق الليبيرالية قد قام على الفكر الحداثي التنويري الحامل لإرهاصات إنسانية ثورية تتعدى واقعها الطبقي المباشر، فإن مسارها الايديولوجي لابد وأن يمر عبر غربال الصراعات الاجتماعية وبنياتها الاقتصادية في مراحلها المختلفة. ومن هذه الزاوية فإن النيولبيرالية عودة إلى ماض إيديولوجي ليبيرالي كان قد استنفد لدى الطبقة الرأسمالية أقصى ما لديه من عطاءات إنسانية تقدمية.
(2)
وفي هذا الشأن، يبين لنا المناضل والمفكر فواز الطرابلسي في مقالته النقدية لأطروحات( فون هايك) الأمريكي، وهوأكبر منظرلنيوليبرالية ( في مجلة بدايات العدد 30 )، التحريفات والاختزالات التي تدخلها النيوليبيرالية على الجوانب الاجتماعية التي اكتسبتها الليبيرالية في مسارها التاريخي الفعلي. ومن ذلك، أن النيوليبيرالية قراءة مزيفة للتاريخ، ولما تعتبره بنرجسية لا تخلو من العنصرية، يمثل صلب الحضارة الغربية القائمة على المنافسة الفردية مند قدم التاريخ. وهي تستهدف تحديدا التخلي المطلق عن مبدأي العدالة الاجتماعية والمساواة في تكافؤ الفرص، وهما المبدءان اللذان تكيفت اضطرارا معهما الأيديولوجيا الليبيرالية في مراحل سابقة.أما الحجة التاريخية لها في هذا المسعى، أن مبدئي العدالة الاجتماعية وحتى المساواة ليسا في الحقيقة سوى ترسبات طبيعية سيكولوجية وحتى «غريزية « لماض سحيق عاشته « المجتمعات البدائية « التي من الإفراط الحديث فيها عن منظومة اقتصادية، وقد كانت في طور اجتماعي «لحياة القطيع « والمضطرة لاستمرار عيشها أن توزع ما تصيده من حيوانات وتوزعه بين أفرادها بحسب تراتبية كل منهم في القطيع نفسه.إنه واقع لا يقارن بالمنظومة الاقتصادية الرأسمالية الهائلة التقدم والمعقدة التركيب وتدبير المنافسة فيها يعتمد على وفرة المعلومات والإحصائيات في لعبة السوق الحرة الغامضة ولكنها الناظمة لكل شيء. في الخلاصة العامة إذن، العدالة الاجتماعية والمساواة ليستا سوى ترسبات طبيعية أو حتى غرائزية لمجتمعات بدائية استمرارها سوف يهدد الحضارة الغربية التي تجاوزت تلك الرواسب المتخلفة، وبهذا المعنى تكون النيوليبرالية دعوة مفوّتة ومفرطة الأدلجة لما كان يسميه آدم سميت في مرحلة التأسيس النظري لليبرالية باليد الخفية ،وبتعبير آخر، باليد الذهبية الناظمة للسوق الحرة، في حال كانت كاملة الشفافية، نحو التقدم والازدهار وضبط العدالة الاجتماعية، وبلا تفاصيل لما سدده فواز طرابلسي من إصابات قوية لهذا المنظورالنيوليبيرالي في اختزاليته وقفزه عن التاريخ الاجتماعي الفعلي، وفي ما يدعو إليه من داروينية اجتماعية وحتى أخلاقية، وما يكنه من ميول سياسية استبدادية في الداخل الوطني وخارجه… فإن هذا المنظور في مجمله يخدم ويعبر في النهاية عن مصالح أوليغارشية مالية طفيلية تضخم دورها في الاقتصاد الرأسمالي العالمي. وسيكشف فون هايك عن هذا السر الطبقي الخفي في الصورة التي شبه بها الكيفية التي تشتغل بها عفوية السوق الحرة باستعارته لمثال من ألعاب كازينو القمار. وكما يقول فواز، ما يبرره قول هايك في ذاك المثال هو المضاربة المالية حيث الرهانات كبيرة والخسائر أكبر لمن يملك أن يخسر ليربح(؟)، فالسوق لم تعد، كما كانت عند آدم سميت، سوقا للمنتجين بالدرجة الأولى ، وإنما هي عند فون هايك أكثر فأكثر سوق للمضاربات الريعية، ولقد صار الاقتصاد النيوليبرالي فعلا أقرب إلى لعبة كازينو قمار!
لعل القارئ سيدرك بعد هذه اللمحة الخاطفة،أن مبدأ الحرية الذي استبقته النيوليبرالية كقيمة عليا من الماضي الليبرالي، لم يعد هو الآخر سوى غلاف إيديولوجي لجذب المستهلك، كالأغلفة الجميلة التي نقدم بها هدايانا في المناسبات السعيدة، بينما المحتوى الحقيقي للنيوليبرالية هو تقزيم المواطنة وحقوقها إلى الحد الذي لا يبقى فيه للمواطن سوى حريته كمستهلك في السوق التجارية وفي السوق الانتخابية أيضا.
(3)
في الحديث عن المشتركات الليبرالية التي تزعم النيوليبرالية العودة إليها، ثمّة خياران اثنان ، تمازجا مع بعضهما في المرحلة التأسيسية للنظام الرأسمالي ، تماما كما تتمازج عناصر التركيب الذري لأي مادة. فإذا كان الماء مثلا من تمازج ذرة من الأكسجين وذرتين من الايدروجين، فالنظام الرأسمالي على سبيل المشابهة يتكون من ذرة واحدة للحرية الفردانية وذرتين لاقتصاد السوق، ولربما من الأفضل في هدا الموضوع أن أترك الكلام للمفكر الفرنسي الناقد ALAIN DE BENOIST في مقالته العميقة والغنية –نقد الإيديولوجيا الليبيرالية– بمجلة الاستغراب :
« لم تظهر الليبيرالية يوما على شكل مبدأ موحد ذلك لكونها ليست وليد جهود شخص واحد، لقد فسرها كتاب ليبراليون مختلفون بطرق مختلفة، لا بل متناقضة. ومع ذلك، يجمع هؤلاء على ما يكفي من النقاط المشتركة لتصنيفهم جميعا كليبيراليين. وهي نقاط تسمح أيضا بتعريف الليبرالية على أنها مدرسة فكرية. فمن جهة الليبرالية مبدأ اقتصادي يجعل من نموذج السوق « الذاتي التنظيم « مثالا للواقع الاجتماعي برمته. ومن جهة أخرى، فإن الليبرالية مبدأ قائم على أنثروبولوجيا فردانية، بمعنى أنها قائمة على مفهوم الإنسان باعتباره كائنا ليس اجتماعيا بشكل أساسي.»
ويوضح الكاتب ما اصطلح على تسميته بالليبرالية السياسية، إن هي إلا إحدى وسائل تطبيق المبادئ المستنبطة من المبادئ الاقتصادية على الحياة السياسية، وهو الأمر الذي يحد من دور السياسة قدر الإمكان – و القصد من «دور السياسة « الوارد من هذه الشهادة يتعلق بموقف الليبرالية الأصلي القائم على تحييد دور الدولة خارج السوق الحرة،وهو المنظور الذي خالفه التاريخ الاقتصادي. وكذلك السياسة الليبرالية مصطلح متناقض لما تسفر عنه من تناقضات واستعصاءات بين رؤيتها الأنتروبولوجيا الفردانية والواقع المجتمعي الحي.ويقول الناقد برأي الليبراليين، يمكن للمجتمع أن يقوم على قيم الفردانية، وقيم السوق ، إلا أن ذلك مجرد وهم . فالفردانية لم تكن ولن تكون يوما المبدأ الوحيد للسلوك الاجتماعي. وثمة أسباب وجيهة للاعتقاد بأن الفردانية لا يمكن أن تتجلى إلا بقدر ما يظل المجتمع إلى حد ما شموليا … ويبقى الانسان كائنا اجتماعيا حتى في عصر الفردانية الحديثة (…) وفكرة أن الإنسان يتصرف بحرية وعقلانية في السوق ليست الا مجرد مسلمة وهمية، حيث أن الحقائق الاقتصادية لا تتمتع بأي استقلالية، وإانما ترتبط بسياق اجتماعي وثقافي معين وإلى ذلك، لا يوجد عقلانية فطرية، بل هي نتاج تطوير تاريخي اجتماعي واضح المعالم.(…) وبالرغم من أن السوق تنظم عملية العرض والطلب إلا أنها لا تنظم العلاقات الاجتماعية، لا بل تسبب الفوضى فيها، لأنها لا تأخذ بعين الاعتبار الطلبات التي لا يمكن تسديد ثمنها ( …) ولكل ذلك تتحمل الأيديولوجية الليبرالية مسؤولية كبرى تجاه انحطاط العالم المعاصر، أي تردي القيم ، لأنها تستند إلى أنثروبولوجيا غير واقعية تنطوي على سلسلة من الاستنتاجات الخاطئة، وكما يرد على حد قول « كارل بولاني « في كل مرة بدت فيها الليبرالية منتصرة، كان ذلك، للمفارقة، بفضل تدخلات الدولة التي اقتضتها الأضرار التي لحقت بالنسيج الاجتماعي نتيجة منطق السوق …
لقد انتقيت من المقالة السابقة بعض المفاهيم الأساسية الواردة فيها، والتي فصّل فيها الناقد بالكثير من الدقة، وكما تصرفت إلى حد ما في ترتيبها لكي تحافظ على نسقها المنطقي . وما كنت أتغياه من المقتطفات السابقة، ومن فيلسوف وعالم اجتماعي فرنسي كبير، ليس أكثر من التشديد على التعارضات الكامنة في الأصول النظرية لليبرالية، الجهة الفردانية الأنتروبولوجية أو لجهة الدور الموضوعي العقلاني للسوق، وتمازجهما معا لقيام النظام الرأسمالي وللتناقضات والأزمات الدورية التي أظهرها… وصولا إلى هذه العودة المفوّتة للنيوليبرالية في زمن العولمة .
(4)
سيكون فهمنا للنيوبيرالية قاصرا وضيقا، إذا ما اكتفينا بمقارنتها بالأصول الليبيرالية، ولم نأخذ في حساباتنا الشرط التاريخي العام الذي نمت فيه وتفرعت منه سائدة، وأعني بذلك التحولات الكبرى التي شهدها العالم في كافة المجالات، المعرفية والعلمية والتقنية والدولية، خلال الحقبة التي أطلق عليها «ما بعد الحداثة»، وخاصة بعد منتصف القرن الماضي. ما أوده في هذا المقام ليس تصنيف تلك التحولات الواحدة بعد الأخرى، ولا الوقوف عند التيارات الفلسفية المختلفة والناقدة التي واكبتها باكرا، إنما أريد أن أبرز من كل ذلك مسألة أحسبها كالرحم الأيديولوجي الذي تكوّن فيه هذا « المخلوق « المشوه. وفي هذه المسألة تحديدا، يكاد المفكرون الناقدون يجمعون على أن النزعة التقنية التي سيطرت على العقلانية الأداتية المهيمنةعلى حقبة الحداثة، قد بلغت مدىً يستولد مخاطر كبرى على الإنسان والطبيعة معا.
وهنا، أحيل القارئ ، من بين مراجع عدة، إلى كتاب المفكر المناضل محمد سبيلا (الحداثة وما بعد الحداثة) وأقتبس منه الفقرة التالية:
أن المعرفة الحداثية معرفة علمية، بمعنى أنها معرفة تقنية، أي في خدمة التقنية، وبالتالي فهي معرفة حسابية وكمية وأداتية همها النجاعة والفعالية وغايتها السيطرة، الداخلية والخارجية، وعلى الإنسان وعلى الطبيعة. أو بعبارة أدق، إنها سيطرة على الطبيعة عبر السيطرة على الإنسان. وارتباط المعرفة بالسيطرة والقوة لا يطال الطبيعة والعلوم الطبيعية وحدها، بل يطال الإنسان في العلوم الإنسانية ذاتها حين يختلط هم المعرفة والتحرر باستراتيجيات السيطرة(…) وهذه المعرفة العلمية التقنية تطال الفضاء الثقافي كله، وتتحول إلى ثقافة وإيديولوجيا بل وإلى ميتافيزيقا أيضا.
«من المنطقي والطبيعي إذن أن نُقرن تلازميا غُلو الأيدولوجيا النيوليبرالية بالانفلات الكامل لسيطرة التقنية على العقلانية الأداتية في الفضاء الثقافي الحداثي العام. إذا جاز لي اختزال هذه الإيديولوجيا التي فكك مضامينها على جميع الأصعدة المعرفية الفقيد سبيلا، فمن الواضح لدي أنها بمقدار معاداتها للمفاهيم الكلية المجردة ( التأملية في نظرها ) تجعل لمفهوم الحقيقة معيارا واحدا هو المنفعة المباشرة، لتلغي في الآن نفسه الغايات الإنسانية العليا. إنها شكل آخر للوضعانية الإيجابية النقيض التام للماديانية التاريخية الجدلية والإنسانية أيضا. وهي أخيرا أسوأ الثمار الفاسدة لشجرة المعرفة الحداثية. ومن الملفت في الشهادة السابقة قولها: وهذه المعرفة العلمية التقنية تطال الفضاء الثقافي كله، وتتحول إلى ثقافة وأيديولوجيا بل وأيضا إلى ميتافيزيقا. بينما نعرف جميعا أن أشد ما حرصت عليه هذه العقلية، والنيوليبيرالية خصوصا، أنها ليست بأيدولوجيا وهي التي أعلنت عن نهايتها،كما تبرأت منها وهي الغاطسة فيها.
لكن قد يكون للفكر الفلسفي النقدي لما بعد الحداثة نصيب ما في تعميم هذا الادعاء بنهاية الأيديولوجيا. وأعني بذلك تبخيسه لما اعتبره « سرديات كبرى « تنطعت لتفسير الوجود والتاريخ بعلة تراها حاكمة عليهما معا. وكيفما كان صواب هذا النقد، فإني لا أتردد في أنه أضر بالايديولوجيا الاشتراكية تحديدا، مع أن هذه الأخيرة منفتحة وقابلة جدليا لاستعاب الكشوفات المعرفية العلمية، إن هي أُخذت على غير الصورة المدرسية الفقيرة التي تُقدم بها في أغلب الأحوال . ولقد رأينا في هذه المقالة كيف استثمرت النيوليبيرالية هذا الحذر النقدي من «السرديات الكبرى « و « نزوعها الطوباوي و الخلاصي» الحاجز بالضرورة للعقل الفلسفي والاجتماعي في الحيز الذي يتسع له بقاء النظام الرأسمالي، لتطعن في العدالة الاجتماعية، وهي مبدأ إنساني كلي ومطلق، وقس عليه كل الكليات المشابهة في الحرية والعقلانية والمساواة… وإلا ما هو الرقم الأمثل « الذهبي « في نسبة توزيع الدخل الوطني، لنجزم بأن تلك النسبة هي الكفاية بعينها في تحقيق العدالة الاجتماعية الملبية للكرامة الإنسانية(؟.) ونحن نعرف جيدا أن أي نسبة في النظام الرأسمالي تخضع لتقلبات التوازنات الاجتماعية، ويحكمها القانون المطلق لتفاوت وتمركز الثروة على الصعيدين الوطني والعالمي(؟.)
(5)
لا مراء البتة في أن الظاهرة الأبرز في عصر الحداثة ونظامها الرأسمالي والنيوليبرالي، تتجلى في القدرة التي أفصحت عنها من ثورات علمية وتقنية ومعرفية متلاحقة، ومن سيطرة للتكنولوجيا ولعقلها الأداتي على مجمل العلاقات الاجتماعية. ومن جرائها ضعف تأثير الصراعات الاجتماعية وتراجع نوعها، بعد أن أضحت المؤسسات الرأسمالية النافذة دولية ومعولمة. في حين بقيت السياسة( دولا وشعوبا) مشدودة أكثر لكياناتها الوطنية، ناهيك عن مختلف الاستلابات القيمية التي تستولدها في كافة المجتمعات هذه البنية في شموليتها الرأسمالية -التقنية- الأداتية- والمعولمة. مما نجم عنه، أن التناقض التقليدي المعروف بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج يأخذ شكلا آخر، من حيث أن علاقات الإنتاج لا تعيق سلبا التقدم المادي التقني لقوى الإنتاج، إلا في جانبه البشري والبيئي(الاستعاضة بالتقنية عن العمالة البشرية، وسوق عالمية تتداول البضائع والأموال وتسد على انتقال البشر من جهة، ومن جهة ثانية الإخلال الكبير بالتوازنات البيئية واستنزاف ثرواتها) إلا أن الأنكى من ذلك ، أن البنية الشمولية السابقة تعيق أساسا الصراعات الاجتماعية على أن تواكب تقدم قوى الإنتاج المادية وما تتيحه من ممكنات للانتقال إلى مجتمع إنساني عادل وحر حقا لا مجازا، ولا بأس هنا (كما هي عادتي) من التذكير، بأن الماركسية قد استشفت مبكرا هذا المنحى العام للتطور الحاصل في النظام الرأسمالي، ولم تغفل أيضا عن استلاباته الأيديولوجية في ما أسمته ب «الصنمية البضاعية « أو الاقتصادية بوجه عام، والناجمة عن انفصال القوى الإنسانية المنتجة عن تملك وسائل إنتاجها ومنتجاتها، وبالتالي، تنقلب هذه الأخيرة عليها، ويغدو عالم الأشياء المصنوعة من قبلها سيدا عليها يقرر في مصائرها ويشوه وعيها التحرري . وكل من يُسقط عن الماركسية منظورها هذا للصراع الاجتماعي الطبقي، يَسقط لا محالة في قراءة ميكانيكية اقتصادية قبلية الإسقاطات. ولا حاجة لنا هنا لاشتقاق العلاقات الرابطة بين الاستيلاب الاقتصادي، وهو الأساس، والاستيلابات الأخرى التي أطنب الفكر النقدي لما بعد الحداثة في تفصيلها، ولعل أقصاها « فقدان المعنى» في الوجود لدى الإنسان المعاصر.
في هذا المناخ الاديولوجي الأداتي والتقنوي، ربما تراجع الفكر النقدي في أغلبه، بخطوة إلى الوراء، إلى ما قبل موضوعة ماركس « كل ما فعله الفلاسفة السابقون أنهم فسروا العالم بأشكال مختلفة، بينما المطلوب اليوم هو تغييره «. وفي جميع الأحوال فلا شك في أن الفكر النقدي ما بعد الحداثي قد أغنى معرفتنا ب « غور الإنسان « النفسانية واللسانية والإبستيمولوجية وغير ذلك كثير، وقد تشرب في مجمله منطق الفتوحات العلمية الفيزيائية والرياضية، والتي غيرت جذريا من تصوراتنا عن الكون الطبيعي والفيزيائي الذي نحن فيه. غير أن النظرية الاجتماعية البديلة لا تنمو فقط بارتباطها مع المبتكرات العلمية وحسب، بل لا بد لها أيضا من الارتباط بما هي عليه الممارسة الاجتماعية، فلا نظرية اجتماعية ثورية، بلا حركة اجتماعية ثورية.
ومن هذه الزاوية، قد نقول إن الانتفاضات الشبيبية الكبرى التي مرت بها عديد من بلدان العالم وفي طليعتهم فرنسا ماي 1968، كانت أوج ما قدمته الصراعات الاجتماعية من تطلعات إنسانية جذرية وثورية. وما عداها من حركات جماهيرية إلى اليوم. ظل تحت سقف النظام الرأسمالي الليبرالي في أفضل أحواله.
لكن التاريخ وحاضره، كما هو في كل الأزمنة واقع تناقضي حابل دائما في لحظاته السياسية الانعطافية بممكنات بديلة أخرى.وهذه الممكنات هي ما سنبحثه في مقالة قادمة.
الكاتب : محمد الحبيب طالب / المغرب
عن جريدة الاتحاد الاشتراكي المغربية
الرابط :https://alittihad.info/%d9%81%d9%8a-%d8%a3%d8%b2%d9%85%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d9%86%d9%8a%d9%88%d9%84%d8%a8%d9%8a%d8%b1%d8%a7%d9%84%d9%8a%d8%a9-%d8%a5%d8%b7%d8%a7%d8%b1-%d9%81%d9%83%d8%b1%d9%8a-%d8%a3%d9%88%d9%84%d9%8a-%d9%88/