الحريّة في سياقها العام, هي إزالة القيود التي تكبل طاقات الإنسان ونشاطه, سواء كانت قيوداً ماديّة أو قيوداً معنويّة، والحريّة بالتالي هي تخليص الإنسان من العبوديّة الخارجيّة أولاً, فرديّة كانت أو جماعيّة , أي تخليصه من كل ما يعيق ظهور إنسانيته وتجليها على الواقع, أي تخليصه من قهر قوانين الطبيعة العمياء واستبداد أخيه الإنسان. وثانياً تخليصه من العبوديّة الداخليّة الذاتيّة التي ولدتها العبوديّة الخارجيّة بعد أن مارست عليه القهر والظلم والتشيئ والاستلاب والاغتراب الروحيّ. وشكلت سماته وخصائه المشبعة بالخضوع والاستسلام والأنانيّة والتزلف والنفاق والكذب وغيرها من القيم السلبيّة في شقيها السلوكيّ والمعرفيّ.
أمام هذا الفهم الشموليّ للحريّة التي يُشتق منها فعليّ التحرير والتحرر, تأتي رؤيتنا تجاه تحرير الحواس.
قبل أن ندخل في هذا الموضوع – أي تحرير الحواس – لا بد لنا من الاشارة ولو بشكل أوليّ إلى مسألتيّ تحرير العقل والجسد لنقول:
يظل تحرير العقل بالنسبة للإنسان هو المرتكز الأساس في إثبات إنسانيّة الإنسان وتمييزه عن بقية المخلوقات, أي إثبات وجوده وقدراته الذاتيّة علي تطوير هذا الوجود وتنميته والارتقاء به إلى مصاف الإنسانيّة ذاتها, فالعقل الذي فُرضت عليه قيود الجهل والتخلف, والخوف من المجهول, و من عذاب القبر وعذاب جهنم وسوط الاستبداد, وقتل روح المغامرة العقليّة عنده من أجل اكتشاف آليّة عمل أو نشاط الذات في واقعها الملموس أولاً, ثم اكتشاف آليّة عمل الطبيعة والمجتمع ثانياً, هو عقل قاصر ومحكوم بقوى طبيعيّة واجتماعيّة تفرض عليه السير وفق إرادتها وآليّة عملها, وبالتالي راحت تُشَكِلْ عنده القوى تاريخياً رؤى فكريّة مشبعة بالخرافة والأسطورة والخوف والتردد والخضوع المطلق لكل ما يحيط به أو ينشط داخله, بسبب جهله لسر هذا الوجود وآليّة حركته وتطوره وتبدله, وعلى هذا الأساس جاءت عبادته لقوى الطبيعة من جهة, وخضوعه المطلق لقوى بشريّة اعتقد أنها هي من يتحكم بحياته وقدره ومصيره من جهة أخرى.
لا شك أن ديكارت قد حقق قفزة نوعية في تحرير العقل من سيطرة الفكر أو الوعي الميتافيزيقيّ عندما قال (أنا أفكر إذاً أنا موجود), أي استطاع فصل عقله إلى حد كبير كتشكل ثقافي عن كل الفكر السكولائي (المدرسي – اللاهوتي), إلا أن إيمانه بوجود أفكار فطريّة منحها الله للإنسان منذ ولادته, جعله يقف حائراً إلى حد ما في معرفة نفسه والمحيط الذي ينشط فيه معاً معرفة حقيقية, وذلك بسبب عدم قدرة عقله على الاستقلال استقلالاً تاماً من أوهام اللاهوت, والعودة به إلى واقعه الذي شكل معارفه, أي هو لم يستطع تحرير العقل تحريراً كاملاً من أوهامه المدرسيّة اللاهوتيّة, والميتافيزيقيّة, وبخاصة من نزعة التفكير المثاليّة الذاتيّة, الأمر الذي ترك العقل يهيم في استنتاجاته المنطقيّة الخاطئة في تفسير حركة حياة الفرد والمجتمع والطبيعة, كونه كما أشرنا أعلاه, لم يربط فكره بالواقع وظواهره وآليّة عمل هذه الظواهر. وهذا ما ترك مجالاً واسعاً لبقاء سيطرة الفكر الميتافيزيقيّ لديه, ولدى كل أصحاب تيار الفكر المثاليّ الذاتيّ, الذي اشتغل عليه الكثير من الفلاسفة والمفكرين الدينيين أو الوضعيين. ومن ضمنهم في الحقيقة معظم مفكري عصر التنوير, الذين أعطوا العقل هذه القدرة الهائلة في تفسير الواقع وإعادة بنائه, ولكن من منطلق أخلاقيّ معياريّ أو وعظي, لذلك ظل مفكرو عصر التنوير وحتى الماديين منهم, أمثال هلفسيوس وريكاردو وعاظاً أكثر منهم فلاسفة.
أما بالنسبة لتحرير الجسد, فيأتي هنا في المرتبة الثانية, وقد اشتغل على تحريره بشكل (خاطئ) عدة تيارات فكريّة وجوديّة أهمها:
أولاً: الوجوديّة المثاليّة, ممثلة بالتصوف, حيث وجد المتصوفة في جسد الإنسان وحاجاته الماديّة سر بلاء الإنسان. فها هي أفكار الوجوديّة المثاليّة الصوفيّة الرئيسة في صيغتها الميتافيزيقيّة, تدور حول مفهوم التوحد مع الله بشكل خاص. وقد وجد في هذا الاتجاه مفهومان أو فلسفتان تدور حول هذه المسألة المثيرة للجدل. الأولى: وتنص على وحدة الوجود, التي تعني أن الحقيقة الوحيدة في هذا الكون هي الله, وأن جميع الأشياء في الكون تمثل الله أو هي تعبير عنه. والثانية: وتعني وحدة الشهود التي يرى دعاتها أن تجربة التوحد مع الله تتم في ذهن المؤمن, وأن الله ومخلوقاته مفصولون عن بعضهما تماماً واقعياً، ومع هذا، لا يكون هناك فروقات بينهما، بمعنى أخر أن “لا أحد إلا الله”. ولكي يصل الصوفي إلى مستوى التوحد مع الله، عليه تطهير ذاته النفسيّة والجسديّة من كل الدوافع الشريرة, والتغلب على كل الغرائز الجسديّة الوضيعة. بمعنى أخر يحب على الفرد الذي يريد الوصول إلى هذا التوحد وفهم جوهره, الامتناع عن القيام بأيّة خطيئة كانت (مثل الجشع، الشهوة، المتعة، الغرور، الأنانيّة… وغيرها) والامتناع أيضاً عن كل أنواع الحب المتعلق بحياته الماديّة أو الذاتيّة, ما عدا حب الذات الإلهيّة المطلقة. وعلى هذا التوجه الفكريّ والسلوكيّ للفرد, القائم على الامتناع عن ممارسة الرذيلة بكل أشكالها كما بينا هنا, وكذلك الوقوف أمام كل شهوات الجسد, سيؤدي بالضرورة إلى تدمير الذات النفسيّة والجسديّة بكل شهواتهما ورغباتها لدى الصوفيّ, الأمر الذي سيقرب المريد إلى الله لدرجة الفناء فيه. وهذا ما وصل إليه الحلاج على سبيل المثال لا الحصر عندما قال: (وما في الجب إلا الله).
أما الشكل الثاني من الوجوديّة المثاليّة الهادفة إلى تحرير الجسد, فتظهر عند القوى الأصوليّة الجهاديّة, التي تعمل على تحرير الذات والمجتمع معاً من ما يدعونه خطايا وذنوباً, ارتكبها من خرج على تعاليم النص المقدس, ويظهر هذا التحرير للجسد من خلال تفجير الجسد والتضحية به (قرباناً) داخل المحيط الاجتماعيّ الملوث بالخطايا والذنوب حسب اعتقادهم. فقتل المخطئ واجب مقدس يكافئ عليه الشهيد الذي ضحى بجسده بين صفوف من مارسوا الذنوب والكفر بخروجهم عن تعاليم الله والرسول, ومكافأته هي دخوله الجنة والحصول على حور العين وانهار من الخمر واللبن والعسل وغير ذلك.
أما الوجوديّة في شقها الماديّ المقابل للوجوديّة المثاليّة والداعيّة إلى تحرير الجسد من بعده الروحي والقيمي أو الأخلاقيّ, فتنطلق من أن وجود الإنسان الفرد أو المجتمع يسبق ماهيته الإنسانيّة, مهما كانت مرجعيات هذه الماهيّة دينيّة أو عرقيّة أو سياسيّة أو غيرها. فماهيّة الكائن الفرد أو المجتمع هي ما يحققه فعلاً عن طريق وجوده، ولهذا هو يوجد أولاً، ثم تتحدد ماهيته ابتداءً أو انطلاقاً من وجوده العيانيّ الملموس. ولكن هذا التأكيد على أسبقيّة الوجود قبل الماهيّة بالنسبة للفلسفة الوجوديّة الماديّة, ليس أكثر من دعوة براغماتيّة خادعة، ترمي إلى جعل الإنسان يسعى ليجد نفسه أو يؤكد وجوده الفطري من خلال تحرير جسده من القيم المثاليّة والروحيّة المشبعة بالقيم الإنسانيّة النبيلة, ولكي يجد أو يؤكد الإنسان نفسه أو وجوده وفقاً لهذا الفهم الوجوديّ في صيغته الماديّة, عليه إذن أن يتحلل (يتحرر) من القيم, وينطلق لتحقيق رغباته وشهواته العبثيّة بلا قيد. وعلى هذا الأساس يبدأ فهم معنى الوجود عبر الدخول بالتجربة الوجوديّة الفرديّة الداخليّة القائمة على التخيل والأحاسيس الداخليّة المشبعة بعواطف ورغبات ذاتيّه وإراديّة بحت, لذلك فالفرد الوجوديّ يقوم بمعايشة الواقع وجدانيّا أكثر من معايشته عقليّا, ومن خلال هذه المعايشة الوجدانيّة مع الواقع للذات المقهورة والمشيئة والمستلبة والمغربة أصلاً, يبرز عند الوجوديّ اكتشاف المعاني الأساسيّة في الوجود الإنسانيّ, وهي معانٍ تمثل : العدم, والفناء, والموت, والخطيئة، واليأس, والعبثيّة, والعنف, ثم القلق الوجوديّ. إنها بتعبير آخر, فلسفة العدم أو اللامعقول.
تظل لدينا هنا الحواس وتحريرها, والتي على تحريرها يتحدد مصير الإنسان وعقلانيته وتقرير مصيره وفهمه العميق لمسألة الربط بين الروح والجسد وتحريرهما تحريراً عقلانياً بعيداً عن الفهم الوجودي السلبيّ بشقيه الماديّ والروحيّ (المثاليّ) معاً. وعلى أساس هذا الفهم لأهمية تحرير الحواس نقول:
هي الحواس الخمس التي يمتلكها الإنسان, وهي بمثابة النوافذ الطبيعيّة بينه وبين العالم الخارجيّ التي تربط الوجود الخارجيّ بذهنيّة الإنسان، أو هي المرآة التي تعكس الواقع المحيط بالإنسان وتساعده على تشكيل روئ ومفاهيم وتصورات عنه, وبالتالي التعامل مع واقعه الطبيعيّ بخيره وشره أثناء إنتاجه لخيراته الماديّة والروحيّة بمنطق عقلاني .
إن الحواس هي من يقدم الأشياء الموجودة التي تحيط بالإنسان, أو ينشط داخلها, لتشكل بالنتيجة معارف الإنسان بعد إعادة تحليلها وتركيبها في دماغه, فبهذه الحواس يتعرف الإنسان إذن على محيطه وينقل ما تنقله أحاسيسه إلى عقله الذي يقوم بدوه بتخزينها وتحويلها إلى ثقافة. بيد أن هذه الأحاسيس لا تستطيع لوحدها أن تكوّن معارف صحيحة أو عقلانيّة كليّة, فالأحاسيس قد تكون كاذبة أو مشوهة لعيب مرضي فيها, أو لعدم قدرتها على اختراق جوهر الظواهر, أو لكونها تتحرك أو تشتغل عند بعضهم بدوافع عاطفيّة أو إرادويّة أو حدسيّة وغير ذلك, وهذا ما يجعل العقل الذي يتعامل مع معطياتها يتقدم باستنتاجات معرفيّة غير واقعيّة, وعلى أساسها تتشكل رؤى ونظريات وأيديولوجيات لا تمت إلى الواقع الحقيقيّ بصلة, وهنا تحدث الكارثة الكبرى عندما تتبنى هذه الأيديولوجيات أو النظريات قوى اجتماعيّة سياسيّة تعمل على تغيير الواقع وفقها. وعلى هذا الأساس أيضاً ستحكم العقل والإرادة والممارسة الإنسانيّة قيود كثيرة تساهم في تعقيد حياة الإنسان وتجسيد عبوديته بكل أشكالها الروحيّة والجسديّة وتفرعاتها الأخلاقيّة والغريزيّة والعاطفيّة… وغيرها.
إن ما نريد الوصول إليه في قولنا بـ (تحرير الحواس), هو تخليصها من المواقف الشكلانيّة الظاهريّة عند تعاملها مع الحوادث المحيطة بها, والتأكيد على أن للشكل مضمون أيضاً يجب أن نبحث عنه من جهة, ثم تحرير الحواس ذاتها من أمراضها التي غالباً ما تسببها الحوامل الاجتماعيّة لهذه الحواس من خلال تحكم العواطف والجهل والتخلف والأنانيّة بعقليّة هذه الحوامل, وضرورة ربطها بالتجربة العمليّة (الممارسة) وبالعقل النقدي. فعلى تحرير الحواس, يتوقف تحرير الجسد من الرؤى والفهم الوجوديّ السلبيّ بكل اتجاهاته, إن كانت الروحيّة (الصوفيّة) منها التي تحارب الجسد من قذارات الواقع الملتصقة به, وتضحي به تنقية للروح ودفعها إلى التعالي ومفارقة الواقع المعيوش, والدعوة إلى التحامها بالمطلق والتوحد به من جهة, أو تخليصها من النزعة الجهاديّة التكفيريّة التي تفجر الجسد خدمة للأيديولوجيا اللاعقلانيّة, كما هو الحال عند الدواعش من جهة ثانيّة. أو من الوجوديّة الماديّة العبثية, التي تعمل على محارية الروح والقيم الإنسانيّة من أجل شهوة الجسد ورغباته الغريزية السلبيّة من جهة ثالثة.
أما بالنسبة لتأثير تحرير الحواس على العقل, فتحرير الحواس يساهم في تقديم المعارف الواقعيّة التي تربط العقل بالواقع, وتخليصه من مثاليته الذاتيّة, ولتحرره بالضرورة من الخرافة والأسطورة القائمة على الوهم والتخيل والأخذ بشكل الظواهر فقط الذي تقدمه الحواس غير المثقفة.
إن تحرير الحواس سيساهم من خلال تعاملها العقلاني المنطقي الجدلي مع حوادث الواقع تشكيل معارفَ علميّة لا تؤمن بالمطلق والغيبيّ والاستسلاميّ والامتثاليّ, بل تؤمن بالنسبيّة والحركة والتطور والتبدل.. وبتعبير آخر تومن بواقعيّة العالم وسننه الطبيعيّة, وبالإنسان وقدرته على تحقيق مصيره بنفسه..
ملاك القول: إن تحرير الحواس يساهم في نهاية المطاف بتحرير الإنسان ذاته من الاتكاء على الخرافة والوهم والأسطورة والتخيل السلبيّ, مثلما يحرره من الاستبداد والقهر والظلم وكل أشكال الارهاب الماديّ والفكريّ الذي يقع على الإنسان وتتعامل معه هذه الحواس بجهل مشبع بمواقف ذاتيّة إرادويّة وعاطفية وحدسية. وأخيراً يساهم تحرير الحواس في فسح المجال واسعاً أمام الإنسان كي يبني عالمه على هواه ومصالح مكوناته مجتمعه جميعاً, بعيداً عن المصالح الأنانيّة الضيقة القائمة على أوهام أيديولوجيّة أو طبقيّة أو فئويّة, طائفيّة كانت أو قبليّة أو مذهبيّة, وحتى أوهام نخبويّة أدبيّة كانت أو فنيّة أو سياسيّة.
كاتب وباحث من سوريّة