المقصود بالوضع في اصطلاح أهل اللغة والأصول: اتفاق الجماعة اللغوية على ربط الصلة بين اللفظ وما يدل عليه؛ (أي الدال والمدلول). فالدال هو الرمز الصوتي والمدلول هو الشيء الموجود خارج الذهن أو المتصور ذهنيا والذي يدل الرمز عليه. وللتمثيل نقول: إن الكاف واللام والباء تركيب صوتي دال على الحيوان المعروف بالكلب.
ولينجح الوضع فإنه يحتاج إلى تواطؤ واتفاق يرقيان صعدا إلى مستوى الاصطلاح. ولهذا فإننا نرى وفي إطار تصورنا العام للسان أن الترادف التام غير موجود في اللغة. وعليه فلا يمكن النظر إلى الوضع والتواطؤ والاصطلاح على أنها تعني معنى واحدا وإن على التقريب كما يرى البعض[1].
فالوضع يقصد به ابتداء الإسماء (بكسر الهمزة)، أو عملية الربط بين الدال والمدلول، أما التواطؤ؛ فيعني تحقيق نوع من الاتفاق غير المباشر وغير القصدي حول اعتماد الوضع الابتدائي مما يعني علميا أن بين الوضع والتواطؤ مسافة زمنية تسمح بترسخ الوضع وخضوعه لعوامل التطور والانتقاء الطبيعي؛ (أي الاختيار اللغوي) داخل الجماعة اللغوية.
أما الاصطلاح فهو دمغ الوضع بطابع الشرعية داخل النخبة العالمة في الجماعة اللغوية أو أهل الحل والعقد في توجيه الرأي اللغوي.
فالوضع في أصله حركة من أعلى إلى أسفل بناء على أصل الكلمة[2]، وهذا يقتضي وجود فاعلية ذهنية فوقية تستمد قدرتها على التصور من تفاعلها مع الواقع فتتصور اللفظ ثم تضعه على المدلول.
والتواطؤ أصل لساني يدل على التسهيل[3]، من وطأ؛ بمعنى سهل ما كان صعبا ولهذا فالمواطأة معناها تسهيل عملية التواصل بالوضع الابتدائي مما يعني أن التواطؤ عملية، لا تعتمد على العمد والفرض والإكراه، وهو ما يؤكد ما ذهبنا إليه من أن التواطؤ إجماع طبيعي وغير قصدي لاستعمال الدال في المدلول؛ أي أن التواطؤ في حقيقته دال على التطور اللغوي في أبعاده الاجتماعية والتاريخية وربما النفسية.
وأما الاصطلاح؛ فهو آخر عملية من عمليات الوضع وتعني القصد إلى معالجة فساد[4] التواصل باللفظ. فلما كان التواطؤ إجماعا وديا وغير قصدي على استعمال الدال في المدلول فلابد من أن ينتج عنه أحيانا شذوذ تواصلي ما داخل الجماعة اللسانية الواحدة، ربما بسبب التساهل في استعمال الدوال نفسها في مدلولات مختلفة، وهنا يأتي دور النخبة العالمة لتصلح فساد التواصل ذاك عن طريق اعتماد رسمي لوجه العلاقة الوضعية بين الدال والمدلول.
العقل الفقهي ومعوقات النظر في اللغة
ما اللغة؟ كيف نتعامل معها؟ كيف حدثت اللغة؟ أسئلة كبرى من قبيل أسئلة الخلق وكيف بدأ والإنسان وكيف عقل.
في الأصل كانت اللغة مجرد قدرة على إنتاج الأصوات ولهذا كانت في الأصل لغوا. لم يكن البشر الأول من الناحية الفيزيولوجية قادرا على التواصل الرمزي المعقد ولكنه كان من غير شك قادرا على الصراخ والتصويت. وتشير الحفريات إلى أن بشر النياندرتال الموجود قبل الإنسان الحالي أو الآدمي لم يكن قادرا على التواصل بنظام رمزي فعال ومنظم، وربما كان هذا سبب انقراضه[5] مع أنه بالتأكيد كان قادرا على الإشارة، وهي نوع من البيان بتعبير الجاحظ أو بتعبير العلماء ذوي النزعة التطورية.
ولعل من المنطقي أن تكون رحلة الإنسان مع اللغة قد بدأت منذ فترة بعيدة وانتقلت من مرحلة إلى أخرى في اتجاه تصاعدي متطور وتعليم الله، سبحانه، الإنسان البيان أو الإعراب لا يمكن النظر إليه على أنه تعليم وقع مرة واحدة؛ لأن هذا الفهم يسقط مفهوم الخلق الكامل لآدم على قدرة آدم على التواصل باللغة.
إن افتراض وقوع عملية الخلق خارج إطار التطور؛ (بمعناه القرآني وليس بالضرورة بمعناه الدارويني) تسمح باستنتاج مبسط لعملية التواصل اللغوي وهو أن كمال الخلق يقتضي كمال صفات المخلوق كما نعرفها الآن من قدرة على التفكير والتواصل اللغوي، وهذا التفسير في تصورنا يسمح بدخول الأسطورة في مجال العلم، ومن تم القول بأن آدم تعلم أسماء كل شيء موجود. ويكفي للرد على هذا المنحى الميثولوجي الانطلاق من حقيقتين:
ـ الأولى منطقية؛ مدارها أن القول بكمال القدرة على التواصل الرمزي منذ الخلق الأول مؤسس على القول بكمال الخلق دون تطور، وإذا جادلنا في صحة التفسير الديني الميثولوجي (وليس القرآني) لعملية الخلق، فإننا بلا شك سنرتاب في الاستنتاج القائم عليه وهو القدرة الإنسانية الأولى والكاملة على التواصل باللغة.
ـ الثانية حجاجية ونصية؛ مدارها أن القرآن الكريم تحدث عن تعليم آدم الأسماء كلها بشكل واضح ولكن طبيعة تلك الأسماء، بل وطبيعة ذلك التعليم ومدته وكيفيته بقيت منطقة فراغ فكري ملأه التفسير الديني بروايات خيالية متضاربة تسلم العقل من ظن إلى ظن.
على أن أسوأ نتيجة للمنظومة الفقهية في مجال تاريخ اللغة؛ هي إسقاط معايير العقل الفقهي على مجال العلم التجريبي، فالله، عز وجل، حينما تحدث عن تعليم آدم بطريقة إجمالية رمزية كان المقصود هو فسح المجال للعلم والسير في الأرض والنظر في سنن الأولين بالعلم لتكوين تصور علمي عن نشأة الخلق الأول ولغته. إن تصورنا هنا لا يخرج عن إطار نظرية عامة في وجه العلاقة بين السنن الإلهية والعلم التجريبي. فالله حينما يخلق فإنه يخلق بالعلم ويسمح للإنسان بعد ذلك لاكتشاف سنة الله وتفسيرها وتعليلها تعليلا علميا غير ديني.
إن عظمة القرآن تتجلى في دقة ألفاظه وإشارتها القطعية إلى مدلولاتها المتحينة. لم يسأل العقل الفقهي يوما عن سبب خلق السماوات والأرض في ستة أيام مع أن الله قادر على خلقها دفعة واحدة. وأغفل العقل الفقهي مفهوم اليوم الإلهي وهو مقدار زمني متغير (variable) حسب البعد الكوني الذي يتحدث فيه الله وعنه؛ فذهب علماء بني إسرائيل يقيسون يوم الله على أيامهم وخرجوا بتفسير مثير للاستغراب وهو أن الله خلق الأكوان في أيام الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة ثم استراح يوم السبت.
وهو التفسير الغرائبي الذي أكده كثير من علماء المسلمين والذين نقلوا مثل هذه الإسرائيليات إلى الوسط الإسلامي وإن بدوا وكأنهم يخالفون علماء أهل الكتاب في مسألة واحدة وهي أن الله استراح يوم السبت. عن ابن عباس أن اليهود أتت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فسألته عن خلق السماوات والأرض فقال: “خلق الله الأرض يوم الأحد والاثنين، وخلق الجبال يوم الثلاثاء وما فيهن من منافع، وخلق يوم الأربعاء الشجر، والماء، والمدائن، والعمران، والخراب… وخلق يوم الخميس السماء، وخلق يوم الجمعة النجوم، والقمر، والملائكة، إلى ثلاث ساعات بقين منه، فخلق في أول ساعة من هذه الثلاث ساعات الآجال من حي ومن يموت، ومن مات، وفي الثانية ألقي الآفة على كل شيء مما لا ينتفع به الناس، وفي الثالثة خلق آدم، واسكنه الجنة، وأمر إبليس بالسجود له، وأخرجه منها في آخر ساعاته. ثم قالت اليهود: ثم ماذا يا محمد؟ قال: ثم استوى على العرش. قالوا: لقد أصبت لو أتممت؟ قالوا: ثم استراح. فغضب النبي صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً[6].”
وقد أورد النسائي، هاهنا، حديثا فقال: حدثنا إبراهيم بن يعقوب، حدثني محمد بن الصباح، حدثنا أبو عبيدة الحداد، حدثنا الأخضر بن عجلان، عن أبي جريج المكي، عن عطاء، عن أبي هريرة، أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أخذ بيدي فقال: “إن الله خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، ثم استوى على العرش في اليوم السابع، فخلق التربة يوم السبت، والجبال يوم الأحد، والشجر يوم الاثنين، والمكروه يوم الثلاثاء، والنور يوم الأربعاء، والدواب يوم الخميس، وآدم يوم الجمعة في آخر ساعة من النهار بعد العصر، وخلقه من أديم الأرض، بأحمرها وأسودها، وطيبها وخبيثها، من أجل ذلك جعل الله من بني آدم الطيب والخبيث”.
هكذا أورد هذا الحديث إسنادا ومتنا، وقد أخرج مسلم والنسائي، أيضا، من حديث الحجاج بن محمد الأعور، عن ابن جريج، عن إسماعيل بن أمية، عن أيوب بن خالد، عن عبد الله بن رافع، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحو من هذا السياق.
وقد علله البخاري في كتاب “التاريخ الكبير” فقال: “وقال بعضهم: أبو هريرة عن كعب الأحبار وهو أصح”، وكذا علله غير واحد من الحفاظ، ولنلاحظ أن البخاري، رحمه الله، كفانا مؤنة الرد على مثل هذه التفسيرات الإسرائيلية حينما اكتشف أن كعب الأحبار هو من كان وراء هذه الروايات ولئن اكتشف كعب في هذه الرواية، فإن روايات أخرى عجائبية عن فتن الساعة وأخبار الغيب والملاحم والمغازي لم يكتشف فيها كعب وأمثاله، فتسربت إلى العقل الإسلامي وملأته بالخرافة والأساطير ومنعته من تم من اكتشاف الرؤية القرآنية التي لا تتعارض مع البحث العلمي الرصين.
ولأننا ضد التصور الأسطوري لعملية الخلق بناء على العقل والقرآن، فإننا ضد التصور الأصولي المعاصر والذي يسعى جاهدا، تحت وطأة التطورات العلمية، إلى إيجاد صيغة تلفيقية للقول بأن ما يجده العلم يؤكده القرآن، ولهذا يعمد أصحاب هذا الاتجاه إلى البحث عن أوهى الصلات بين القول الديني والقول العلمي ليبقى العقل المسلم حبيس التلفيق والبحث عن العلاقة المفترضة بين إبداع إنساني علمي لم يسهم فيه، وقول رباني يحمله فوق طاقته، بل وبفعل التأويل المتكلف والإيديولوجي يفقد الوحي المنزل رمزيته الضامنة لقدسيته، ليصبح مجرد تصديق لرأي العلم مع أنه نزل هو لتحقيق الهداية الروحية وليس لمعالجة مسائل العلم.
ولهذا السبب، فإننا لن نقوم بعملية حسابية تعسفية لحساب الزمن الذي استغرقته عملية الخلق الكوني بناء على ورود الحساب الإلهي لليوم الإنساني تارة ألفا، وتارة خمسين ألفا؛ لأن الحقائق العلمية مصدرها العقل والتجربة، وأما النص الديني فلغته الرمزية لا تسمح بفرض آراء العقول عليها لتنطق بما نريد وليس بما تريد.
لنتأمل قوله تعالى: ﴿وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الاَرض خليفة﴾ (البقرة: 30) ولنسأل لماذا عبر بالجعل وليس بالخلق؟ أي لماذا قال: جاعل ولم يقل: خالق؟ فالجعل في العربية؛ بمعنى التصيير وأغرب ابن فارس في مقاييسه حينما جعل الكلمة أصلا في الصنع. والعرب تقول: صنعت الشيء فعلا متعديا بنفسه، ولا تقول جعلت الشيء إلا إذا أرادت تصييره شيئا آخر مثل جعلت الحديد لينا أو جعلت العجين خبزا. فالجعل بلا شك؛ بمعنى صناعة شيء من شيء، أو إخراج شيء من شيء على هيئة معينة، ويقتضي ذلك وجود أصل يكون الجعل على أساسه.
وورود الجعل في القرآن بمعنى الخلق الأول مستبعد على أساس غياب الترادف في القرآن لدقة التعبير القرآني. ففي قوله تعالى: وجعل الظلمات والنور إقرار بالعلاقة الجدلية بين النور والظلام؛ فالنور يأتي من الظلام والظلام يخرج من النور. ولذلك فإن القواميس العربية تشوش (في أحيان كثيرة) على دقة المصطلح القرآني؛ لأنها تعرفه بما تم التواضع عليه بعد نزول النص. ولذلك فإننا لا نرى في كثير من التعريفات المعجمية إلا تأويلات ثقافية وتواضعا اصطلاحيا متأخرا على الدلالة الأصلية في القرآن والتي لا يمكن اكتشافها إلا من خلال قراءة داخلية للنص ذاته.
ويمكن أن نقول وبدون مواربة: إن محاولتنا تفسير النص والخروج بفهمنا الخاص والمتحين تاريخيا وفق علاقة مشروعة بين النص وقارئه لن تتم إلا بإسقاط وثنين؛ وثن الروايات الإسرائيلية والتي ليست سوى محاولة للاقتراب من النص وفق أفق معرفي مباين للأفق القرآني، ووثن القاموس الذي ليس في أغلب الأحيان سوى وسيلة لإسقاط الدلالات الثقافية على النص إن لم يكن “أداة حرفية مؤذية لشل نمو اللغة وجعلها صلبة وجامدة” حسب تعريف أمبروزو بيرس[7].
لقد خلق الله بشرا من طين ثم نفخ فيه، وبين الخلق الطيني والنفخ فترة زمنية لا نشك أنها استغرقت أزمانا متطاولة سمحت بتطورات فيزيولوجية ومعرفية، ختمت بنفخ الروح عن طريق اصطفاء آدم من البشر الطيني الموجود، ولقد توجت عملية الاصطفاء بتعليم الأسماء؛ أي بإيجاد القدرة الخلاقة على الترميز اللغوي وما يرتبط بها من نقل وتصنيف للأشياء وربط لها بمسبباتها. إننا نعتقد أن التعليم نفسه استغرق أزمانا طويلة؛ لأن الفعل المضعف “علّم” يقتضي التدريج والمرحلية. وهذا هو، بالضبط، ما ذهب إليه ابن حزم حينما علل فساد نظرية الوضع بكون الاصطلاح الكلامي يقتضي زمنا طويلا بين وجود النوع الإنساني وقدرته على التواضع اللغوي[8].
وإذا كان الله قد علّم الإنسان البيان، فإن المقصود به هو الإعراب والإبانة عن مكنوناته وتصوراته في إطار رمزي مثل أهم خصائص البشر العاقل. ولذلك فإن البيان ليس هو اللسان المنظم كما نعرفه حاليا في الألسنة المختلفة مثل العربية والفرنسية والصينية، ولكن البيان في تصورنا مصدر للفعل وليس اسما مجردا ذا دلالة جوهرية، ومعنى كونه مصدرا أنه أقرب في الدلالة على الفعل منه على الذات. وهذا شبيه بقولك الخروج والأكل والنزول وما إلى ذلك من المصادر.
والفرق بين هذه المفاهيم واضح وجلي فما تعلمه الإنسان هو البيان؛ أي القدرة على التعبير الرمزي، أما الألسنة فما هي إلا نتيجة لهذه القدرة على التفاعل العاقل مع العالم. وأما المنطق فهو آلة التواصل الصوتي؛ ومعنى منطق الطير أنه من طبيعة خارجة عن اللسان والبيان فهو، إذن، أداة تواصلية تعتمد على الصوت والنطق واللغو ولكنها من جنس مختلف عن نسق التواصل الإنساني.
ولذلك فإن ما فات العلماء في قضية الوضع؛ هو التمييز بين البيان واللغة المعهودة. وإذا صح وقوع الوضع في اللغة فإنه لا يتصور وقوعه في البيان، الذي تأسس منذ الوهلة الأولى على تعليم خارجي إلهي معجز استطاع الإنسان بواسطته وضع الألفاظ والمفاهيم داخل نسق كلي مسبق، وهو ما يسميه أتباع تشومسكي بالبرمجة اللغوية الفطرية القبلية (pre-language programming)[9].
والمقصود، هنا، بمشكل العقل اللغوي؛ أن علماء المسلمين عموما أغرقوا في التأويل اللغوي للنصوص من دون قانون عقلي أو تجريبي تحاكم على أساسه اللغة. فمن المعلوم أن اللغة حمالة أوجه نظرا لطبيعتها الرمزية، وما لم تشر اللغة إلى واقع مادي، أو مشترك عقلي بين الناس، فإن دلالتها تبقى نسبية ولا يمكن أن نقيم عملا أو حكما على مجرد اللفظ مهما كان. فقولك للمرأة القبيحة: أنت جميلة ربما جعلها جميلة في عينك مع أنها ليست جميلة في واقع الأمر كما أنها ليست جميلة لدى كل الناس. كما أن قولك لواحد أنت كافر لا يجعله كافرا لمجرد تلفظك بذلك، ولا قول الأعراب إنهم مؤمنون يجعلهم مؤمنين في حقيقة الأمر.
فاللغة في مجملها تعبير عن الفكر والواقع، ولكن تعبيرها عن الواقع لا يكون بما هو الواقع عليه، ولذلك يصح في اللغة أن نقول: غربت الشمس وأشرقت مع أنها لا تغرب ولا تشرق في حقيقة الأمر، ولا يحملنك هذا على الاعتقاد بأن هذا القول خطأ؛ لأن اللغة تعبير رمزي عن الواقع وليست نسخا فوتوغرافيا له، ولذلك عد قريبا من الجهالة من يريد التعبير عن شروق الشمس بشكل علمي فيقول: دارت الأرض على الشمس فقابل نصفها الذي أنا عليه الشمس فأضاءته، فهذا هذر غير محمود وهو أقرب إلى التنكيت مع أنه علم محض.
الوضع وأصول الفقه
إذا كان علماء اللغة والأصول قد اختلفوا في وقوع الوضع في اللغة، فإنهم، مع ذلك، اتفقوا في الاستناد إلى مفهوم المواضعة اللغوية أساسا للاستشهاد اللغوي عند علماء اللغة والنحو، ولتأويل الخبر النبوي والقرآني عند علماء الفقه والأصول. والمقصود بالمواضعة، هنا، ما تعارف عليه الأعراب الأقحاح في استعمالهم للألفاظ ومعرفتهم بمعانيها. فقد أطبق علماء المسلمين مجمعين على سلامة الرجوع للأعرابي البدوي بوصفه المرجع اللغوي الأكبر والمدونة اللغوية الأسلم في الاحتجاج.
وإذ ذهبوا ذلك المذهب فقد أخرجوا من دائرة الاحتجاج أهل المدن والحواضر لما أصاب ألسنتهم من اللحن واعتوره من الخطأ بسبب مخالطتهم للأجانب من الموالي وغيرهم. ويمكن وبكل سهولة فهم الإطار المعرفي الذي شكل الخلفية الفلسفية والضمنية لعملية تدوين اللغة. ويقوم هذا الإطار على أسس تمثل بذاتها محددات المرحلة اللاحقة على التدوين؛ أي مرحلة تقعيد اللغة من جهة (النحو) وتأويل اللغة (الفقه والأصول ونقد الشعر والبلاغة) من جهة أخرى. ويمكن عد هذه الأسس مع عدم الحصر في ما يلي:
ـ القدم الزمني
ـ النقاء اللغوي
الثقافة العربية ثقافة “تقدس” القديم، فكلما بعد الزمن برأي ازداد أهمية، ففي الفقه يعد رأي الصحابي الأقرب إلى النبي أولى بالاتباع من رأي الصحابي الأقل قربا من المصدر النبوي، وفي الحديث فإن طلب العلو في السند كان فضيلة من فضائل الراوي، بل تجشم غير واحد من الرواة أنواعا من التدليس طلبا لعلو السند.
وفي مجال اللغة ونقد الشعر كان معيار القدم أساسا في الترجيح. ويمكن فهم الأسباب التي تمنع العربي المعاصر من تشجيع التجديد والاحتفال بردها إلى النموذج المعرفي الذي أطر عملية تدوين العلوم. وفي مجال اللغة فإن لغة الشعراء المحدثين مهما حسنت وأبدعت، فإنها لا تصلح لتمثل الإطار المرجعي لمفردات اللغة، وهي من تم عاجزة عن فرض نفسها بوصفها تجديدا للغة أو على الأقل طريقا من طرق استعمالها، وما دام الاستعمال لم يتم التمكين له لشرح وجه العلاقة بين الدال والمدلول، فإن مواضعات الأعراب البدو هي التي تمكنت من صياغة المزاج اللغوي العربي ودمغه بطابع الماضوية؛ أي البحث عن الشاهد الشعري في الإبداع المتقدم زمنا، ولقد وضح ابن قتيبة (توفي276 ﻫ) هذا المنحى الماضوي بقوله: “فإني رأيت من علمائنا من يستجيد الشعر السخيف لتقدم قائله، ويضعه في متخيره، ويرذل الشعر الرصين، ولا عيب له عنده إلا أنه قيل في زمانه، أو أنه رأى قائله. ولم يقصر الله العلم والشعر والبلاغة على زمن دون زمن، ولا خص به قوما دون قوم، بل جعل ذلك مشتركا مقسوما بين عباده في كل دهر وجعل كل قديم حديثا في عصره[10].”
وإذا كان مفهوم العلم في تلك المرحلة قد ضيقت دلالته ليقصد بها العلم الديني، اتضح أن دعوة ابن قتيبة كانت نشازا ضمن تيار جارف من العلماء، لا يرون فضيلة للمتأخر إلا في حسن اتباعه للمتقدم وخصوصا في المرحلة التي أحكم فيها تدوين العلوم الدينية الخناق على حرية الفكر، وجعل الوفاء لما أطلقوا عليه أصولا جواز عبور إلى مملكة العلم.
أما النقاء اللغوي فقد كان عقيدة ثابتة، فبعد جمع شتات اللغة في القواميس (الخليل وغيره) وتقعيد القواعد (سيبويه) نظر اللغويون ومعهم الفقهاء بعين التحقير لوجه من أوجه اللحن في اللغة، والذي كان سببه اختلاط العرب بغيرهم من عجم الموالي وكأنه أريد للعربية ألا تتأثر بغيرها من اللغات التي تشترك معها في النسق؛ كالسريانية والعبرية، أو تقترض من لغات أخرى متحضرة ومكتنزة بألفاظ الصناعات وأوجه الاجتماع؛ كاليونانية، ولهذا السبب أمعن الشافعي، رحمه الله، في نفي وجود الدخيل في القرآن لأنه عربي مع أن التسليم بوجود الدخيل فيه لا ينفي عنه تلك الصفة.
فالدخيل يتم تعريبه وإخضاعه لمعايير الاشتقاق العربي. وربما فسر هذا النزوع اللغوي الطهراني رؤية للعالم تفترض أفضلية اللسان العربي على غيره من جهة، وأفضلية العرب على غيرهم من العجم من جهة أخرى، كما أنها وفي مقابل ذلك تفسر حالة التشظي والازدواج اللغوي المبكر والذي تعايش فيه المجتمع العربي مع نظامين تواصليين: نظام معياري تم تأصيله وتقعيده ونظام لهجي ثري مستعمل اجتماعيا تم نفيه من دائرة اللغة ولكنه مثل النظام المستعمل داخل مجتمع متعدد لهجيا ولسانيا.
مثلت نظرية الوضع اللغوي ركنا ركينا في تأسيس نظرية أصول الفقه الإسلامي. وتشير كل كتب الأصول إلى مركزية النظر اللغوي في تأسيس النظر الأصولي. ويعد الإمام الشافعي في كتابه “الرسالة” من أوائل من أسس لنظرية في وساطة اللغة في التأويل الفقهي ستتحول مع الأصوليين اللاحقين إلى باب مهم في التصنيف الأصولي أطلقوا عليه: “المبادئ اللغوية”.
ولقد كان الأصوليون الشوافع أساس هذا المنهج، ثم ما لبث الأحناف أن حذوا حذوهم في ذلك واضعين أصول أنظارهم اللغوية موضع التطبيق والتنظير حين حديثهم عن الكتاب (القرآن).
وتشير محاولة الشافعي في الدفاع عن عربية القرآن وجريان أسلوبه على مواضعات اللسان العربي إلى تصور جنيني في بناء نظرية تأويلية حاسمة ترجع دلالات الألفاظ القرآنية وأساليب الوحي إلى مصادرها في المعجم العربي من جهة، وأنحاء العرب في القول من جهة أخرى؛ ومعنى ذلك أن التأويل مرتبط بمواضعات اللغة عند العرب؛ سواء من حيث الدلالات الإفرادية للكلمات، أو من حيث الدلالات التركيبية للأساليب.
لقد تحول الخطاب القرآني مع الشافعي إلى مجرد صدى وفي للوضع اللغوي عند العرب. ومع أن الشافعي لم يصرح باستعمال مصطلح الوضع إلا أن مقدمته اللغوية في جريان الكلام الإلهي على سنن العرب في الكلام توضح ما قلناه بما لا يزيد الأمر شكا. لم يكن الأفق اللغوي للشافعي ليسمح له بفهم مختلف لخصوصية الأسلوب القرآني، فذهب يدلل على عربية القرآن، لا في حدوده الجوهرية فحسب، بل في آفاق الأسلوب وطريقة الإنجاز وطبيعة العلاقة بين الدال والمدلول.
ووفقا للشافعي، فإن مدلول الكلمة القرآنية موجود خارج النص لا داخله، والبحث عن المعنى في النص رحلة مبدؤها كلام العرب ومنتهاها ما استقر عليه الوضع عندهم. يقول الشافعي: “ومن جماع علم كتاب الله: العلمُ بأن جميع كتاب الله إنما نزل بلسان العرب.” والذي يريده، هنا، أن دلالات القرآن يمكن استخراجها من اللسان العربي كما هو متداول في الاستعمال والمعجم.
لم يتمكن الشافعي، رحمه الله، من التمييز بين مستوى اللسان ومستوى الكلام بتعبير “فردناند دي سوسير”؛ فالمستوى القاعدي في اللغة يسمى “لسانا”، وأما المستوى الأسلوبي فيسمى “كلاما”. والدلالة بما هي خلاصة العلاقات التركيبية في الكلام متعلقة أصلا بوجه تركيب المتكلم لكلامه؛ أي أن المعنى موجود في استعمال المتكلم لقواعد اللسان ومفردات المعجم. ولا يمكن الحكم ببلاغة المتكلم وبراعته في الاستعمال إلا بافتراض مساحة خلف بين كلامه وكلام غيره من حيث بناء الدلالات بطريقة فردية تمثل خصوصية المتكلم وإبداعه، ومن تم فإن كلام المتكلم ومهما ارتبط بكلام غيره لفظا ونحوا لا يمكن فهمه إلا داخل نسق المتكلم نفسه داخل الخطاب.
يقول الشافعي: “ولعل من قال: إن في القُرَآن غيرَ لسان العرب، وقُبِلَ ذلك منه ذَهَبَ إلى أن من القُرَآن خاصاً يجهل بعضَه بعضُ العرب. ولسان العرب: أوسع الألسنة مذهباً، وأكثرها ألفاظاً، ولا نعلمه يحيط بجميع علمه إنسان غيرُ نبي، ولكنه لا يذهب منه شيء على عامتها، حتى لا يكون موجوداً فيها من يعرفه. والعلمُ به عند العرب؛ كالعلم بالسنة عند أهل الفقه، لا نعلم رجلاً جمع السنن فلم يذهب منها عليه شيءٌ. فإذا جُمع علم عامة أهل العلم بها أتى على السنن، وإذا فُرّق علم كل واحد منهم ذهب عليه الشيء منها، ثم ما كان ذهب عليه منها موجوداً عند غيره.
وهم في العلم طبقات منهم الجامع لأكثره، وإن ذهب عليه بعضه، ومنهم الجامع لأقلَّ مما جمع غيره. وليس قليلُ ما ذهب من السنن على من جمع أكثرَها: دليلاً على أن يُطلب علمه عند غير طبقته من أهل العلم، بل يُطلب عن نظرائه ما ذهب عليه حتى يؤتى على جميع سنن رسول الله، بأبي هو وأمي، فيتفرَّد جملة العلماء بجمعها، وهم درجات فيما وَعَوا منها.”
من هذا النص تتضح أزمة العقل الإسلامي، والمتمثلة في القياس الخاطيء والتي تسمى في مجال الأغاليط المنطقية بـ(false analogy)؛ لأن الشافعي يبني قياسه على تصور بدائي للغة مفاده أن اللسان العربي متناه في الإمكانات التعبيرية، ولذلك فإن النبي يعرف كل اللسان كما يعرف كل السنن. ولئن كان الأمر صحيحا في السنن لأن النبي هو مصدرها، افتراضا كما في الصحيح الخبري، فلا يمكن أن يكون الأمر كذلك في اللسان لسببين:
ـ الأول؛ أن النبي ليس مصدر اللسان ولكنه مستعمل له كغيره من الناس أو بالتعبير القرآني أن النبي يتكلم بلسان قومه وليس بلسانه هو وإلا انتفت وظيفة البلاغ والبيان.
ـ الثاني؛ أن الطبيعة التوليدية للسان بما يتيحه التركيب من إمكانات لا نهائية في توليد العبارات لن تمكن أحدا من الإلمام باللسان كله.
ولنأخذ مثالا قوله تعالى: ﴿وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ اَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَمَنْ يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (النور: 33).
الدلالة الوضعية، هنا، تشير إلى الإكراه المباشر، ولقد أرجع المفسرون هذا إلى مواضعات الاجتماع الجاهلي. يقول ابن كثير: “كَانَ أَهْل الْجَاهِلِيَّة إِذَا كَانَ لِأَحَدِهِمْ أَمَة أَرْسَلَهَا تَزْنِي وَجَعَلَ عَلَيْهَا ضَرِيبَة يَأْخُذهَا مِنْهَا كُلّ وَقْت فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَام نَهَى اللَّه الْمُؤْمِنِينَ عَنْ ذَلِكَ وَكَانَ سَبَب نُزُول هَذِهِ الْآيَة الْكَرِيمَة فِيمَا ذَكَرَ غَيْر وَاحِد مِنْ الْمُفَسِّرِينَ مِنْ السَّلَف وَالْخَلَف فِي شَأْن عَبْد اللَّه بْن أُبَيّ بْن سَلُول، فَإِنَّهُ كَانَ لَهُ إِمَاء فَكَانَ يُكْرِههُنَّ عَلَى الْبِغَاء طَلَبًا لِخَرَاجِهِنَّ وَرَغْبَة فِي أَوْلَادهنَّ وَرِيَاسَة مِنْهُ فِيمَا يَزْعُم.
ذَكَرَ الْآثَار الْوَارِدَة فِي ذَلِكَ: قَالَ الْحَافِظ أَبُو بَكْر أَحْمَد بْن عَمْرو بْن عَبْد الْخَالِق الْبَزَّار، رَحِمَهُ اللَّه، فِي مُسْنَده حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن دَاوُد الْوَاسِطِيّ حَدَّثَنَا أَبُو عَمْرو اللَّخْمِيّ؛ (يَعْنِي مُحَمَّد بْن الْحَجَّاج) حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن إِسْحَاق عَنْ الزُّهْرِيّ قَالَ: كَانَتْ جَارِيَة لِعَبْدِ اللَّه بْن أُبَيّ اِبْن سَلُول يُقَال لَهَا مُعَاذَة يُكْرِههَا عَلَى الزِّنَا فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَام نَزَلَتْ: ﴿وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ﴾ الْآيَة.
وَقَالَ الْأَعْمَش عَنْ أَبِي سُفْيَان عَنْ جَابِر فِي هَذِهِ الْآيَة قَالَ: نَزَلَتْ فِي أَمَة لِعَبْدِ اللَّه بْن أُبَيّ بْن سَلُول يُقَال لَهَا مُسَيْكَة كَانَ يُكْرِههَا عَلَى الْفُجُور وَكَانَتْ لَا بَأْس بِهَا فَتَأْبَى فَأَنْزَلَ اللَّه هَذِهِ الْآيَة: ﴿وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ﴾ إِلَى قَوْله: ﴿وَمَنْ يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ وَرَوَى النَّسَائِيّ مِنْ حَدِيث اِبْن جُرَيْج عَنْ أَبِي الزُّبَيْر عَنْ جَابِر نَحْوه وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو بَكْر الْبَزَّار حَدَّثَنَا عُمَر بْن عَلِيّ حَدَّثَنَا عَلِيّ بْن سَعِيد حَدَّثَنَا الْأَعْمَش حَدَّثَنِي أَبُو سُفْيَان عَنْ جَابِر قَالَ: كَانَ لِعَبْدِ اللَّه بْن أُبَيّ بْن سَلُول جَارِيَة يُقَال لَهَا مُسَيْكَة وَكَانَ يُكْرِههَا عَلَى الْبِغَاء فَأَنْزَلَ اللَّه: ﴿وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ﴾ إِلَى قَوْله: ﴿وَمَنْ يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ صَرَّحَ الْأَعْمَش بِالسَّمَاعِ مِنْ أَبِي سُفْيَان بْن طَلْحَة بْن نَافِع فَدَلَّ عَلَى بُطْلَان قَوْل مَنْ قَالَ لَمْ يَسْمَع مِنْهُ إِنَّمَا هُوَ صَحِيفَة حَكَاهُ الْبَزَّار وَرَوَى أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ عَنْ سُلَيْمَان بْن مُعَاذ عَنْ سِمَاك عَنْ عِكْرِمَة عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّ جَارِيَة لِعَبْدِ اللَّه بْن أُبَيّ كَانَتْ تَزْنِي فِي الْجَاهِلِيَّة فَوَلَدَتْ أَوْلَادًا مِنْ الزِّنَا فَقَالَ لَهَا: مَا لَك لَا تَزْنِينَ. قَالَتْ: وَاَللَّه لَا أَزْنِي، فَضَرَبَهَا فَأَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ﴾.
وَرَوَى الْبَزَّار، أَيْضًا، حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن دَاوُد الْوَاسِطِيّ حَدَّثَنَا أَبُو عَمْرو اللَّخْمِيّ؛ (يَعْنِي مُحَمَّد بْن الْحَجَّاج) حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن إِسْحَاق عَنْ الزُّهْرِيّ عَنْ أَنَس، رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، قَالَ: كَانَتْ جَارِيَة لِعَبْدِ اللَّه بْن أُبَيّ يُقَال لَهَا مُعَاذَة يُكْرِههَا عَلَى الزِّنَا فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَام نَزَلَتْ: ﴿وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ اَرَدْنَ تَحَصُّنًا﴾ إِلَى قَوْله: ﴿وَمَنْ يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾. وَقَالَ عَبْد الرَّزَّاق أَخْبَرَنَا مَعْمَر عَنْ الزُّهْرِيّ أَنَّ رَجُلًا مِنْ قُرَيْش أُسِرَ يَوْم بَدْر وَكَانَ عِنْد عَبْد اللَّه بْن أُبَيّ أَسِيرًا وَكَانَتْ لِعَبْدِ اللَّه بْن أُبَيّ جَارِيَة يُقَال لَهَا مُعَاذَة وَكَانَ الْقُرَشِيّ الْأَسِير يُرِيدهَا عَلَى نَفْسهَا وَكَانَتْ مُسْلِمَة وَكَانَتْ تَمْتَنِع مِنْهُ لِإِسْلَامِهَا وَكَانَ عَبْد اللَّه بْن أُبَيّ يُكْرِههَا عَلَى ذَلِكَ وَيَضْرِبهَا رَجَاء أَنْ تَحْمِل مِنْ الْقُرَشِيّ فَيَطْلُب فِدَاء وَلَده فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ﴿وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ اَرَدْنَ تَحَصُّنًا﴾. وَقَالَ السُّدِّيّ أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَة الْكَرِيمَة فِي عَبْد اللَّه بْن أُبَيّ بْن سَلُول رَأْس الْمُنَافِقِينَ وَكَانَتْ لَهُ جَارِيَة تُدْعَى مُعَاذَة وَكَانَ إِذَا نَزَلَ بِهِ ضَيْف أَرْسَلَهَا إِلَيْهِ لِيُوَاقِعهَا إِرَادَة الثَّوَاب مِنْهُ وَالْكَرَامَة لَهُ فَأَقْبَلَتْ الْجَارِيَة إِلَى أَبِي بَكْر، رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، فَشَكَتْ إِلَيْهِ فَذَكَرَهُ أَبُو بَكْر لِلنَّبِيِّ، صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَرَهُ بِقَبْضِهَا فَصَاحَ عَبْد اللَّه بْن أُبَيّ مَنْ يَعْذِرنَا مِنْ مُحَمَّد يَغْلِبنَا عَلَى مَمْلُوكَتنَا، فَأَنْزَلَ اللَّه فِيهِ هَذَا.
قَالَ مُقَاتِل بْن حَيَّان بَلَغَنِي وَاَللَّه أَعْلَم أَنَّ هَذِهِ الْآيَة نَزَلَتْ فِي رَجُلَيْنِ كَانَا يُكْرِهَانِ أَمَتَيْنِ لَهُمَا إِحْدَاهُمَا اِسْمهَا مُسَيْكَة وَكَانَتْ لِلْأَنْصَارِ وَكَانَتْ أُمَيْمَة أُمّ مُسَيْكَة لِعَبْدِ اللَّه بْن أُبَيّ وَكَانَتْ مُعَاذَة وَأَرْوَى بِتِلْكَ الْمَنْزِلَة فَأَتَتْ مُسَيْكَة وَأُمّهَا النَّبِيّ، صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَتَا ذَلِكَ لَهُ فَأَنْزَلَ اللَّه فِي ذَلِكَ: ﴿وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ﴾؛ يَعْنِي الزِّنَا وَقَوْله تَعَالَى: ﴿إِنْ اَرَدْنَ تَحَصُّنًا﴾ هَذَا خَرَجَ مَخْرَج الْغَالِب فَلَا مَفْهُوم لَهُ وَقَوْله تَعَالَى: ﴿لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا﴾؛ أَيْ مِنْ خَرَاجهنَّ وَمُهُورهنَّ وَأَوْلَادهنَّ وَقَدْ نَهَى رَسُول اللَّه، صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنْ كَسْب الْحَجَّام وَمَهْر الْبَغِيّ وَحُلْوَانِ الْكَاهِن وَفِي رِوَايَة “مَهْر الْبَغِيّ خَبِيث وَكَسْب الْحَجَّام خَبِيث وَثَمَن الْكَلْب خَبِيث” وَقَوْله تَعَالَى: ﴿وَمَنْ يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾؛ أَيْ لَهُنَّ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيث عَنْ جَابِر وَقَالَ اِبْن أَبِي طَلْحَة عَنْ اِبْن عَبَّاس فَإِنْ فَعَلْتُمْ فَإِنَّ اللَّه لَهُنَّ غَفُور رَحِيم وَإِثْمهنَّ عَلَى مَنْ أَكْرَههُنَّ وَكَذَا قَالَ مُجَاهِد وَعَطَاء الْخُرَاسَانِيّ وَالْأَعْمَش وَقَتَادَة.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْد حَدَّثَنِي إِسْحَاق الْأَزْرَق عَنْ عَوْف عَنْ الْحَسَن فِي هَذِهِ الْآيَة: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾. قَالَ لَهُنَّ وَاَللَّه لَهُنَّ وَاَللَّه: وَعَنْ الزُّهْرِيّ قَالَ: غَفُور لَهُنَّ مَا أُكْرِهْنَ عَلَيْهِ وَعَنْ زَيْد بْن أَسْلَم قَالَ: غَفُور رَحِيم لِلْمُكْرَهَاتِ حَكَاهُنَّ اِبْن الْمُنْذِر فِي تَفْسِيره بِأَسَانِيدِهِ وَقَالَ اِبْن أَبِي حَاتِم: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَة حَدَّثَنَا يَحْيَى بْن عَبْد اللَّه حَدَّثَنِي اِبْن لَهِيعَة حَدَّثَنِي عَطَاء عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر قَالَ فِي قِرَاءَة عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ لَهُنَّ وَإِثْمهنَّ عَلَى مَنْ أَكْرَههُنَّ وَفِي الْحَدِيث الْمَرْفُوع عَنْ رَسُول اللَّه، صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: “رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأ وَالنِّسْيَان وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ”.
ولكن الدلالة داخل النص لا ترتبط بالضرورة بالوضع اللغوي المرتبط بالأفق الفكري العام للمرحلة الجاهلية أو الإسلامية الأولى، بل تمتد لتشمل:
ـ الإكراه الاجتماعي.
ـ الإكراه الرمزي.
وهما معنيان تشملهما الدلالة القرآنية إذا ما نقلناها من مواضعات اللفظ والمرتبطة بمواضعات الاجتماع العربي القديم، وهنا نحقق للنص تجاوزه للتاريخ ونفتح دلالاته لتشمل مواضعات اجتماعية لم تكن زمن النزول. وعليه فإن الإكراه الرمزي والاجتماعي بما هو نتيجة للظلم الاقتصادي والذي يفرض على بعض النساء المتاجرة بأجسادهن من أجل سد رمق، أو دفع إيجار، أو تعليم ولد، يصبح داخلا في المعنى ومؤشرا على تجاوز كلمات القرآن للوضع اللغوي الأول لنحقق بذلك صلاحية القرآن لكل زمان ومكان وهو ما لا يستطيع العقل الأصولي اللغوي القيام به استنادا لما بيناه سابقا.
والفتاة، هنا، تعني المعنى الكلي للأنثى وليس فقط الدلالة المعجمية والوضعية والتي تربطها بالأمة أو العبدة فقط. والسبب أن الوضع اللغوي مرتبط بالاجتماع بعكس اللفظ نفسه والذي يبقى منفتحا على دلالات متعددة تعدد استعماله داخل مجال تداولي متعين.
وإذا كان العربي زمن النزول غير قادر على فهم دلالة الفتاة بمعنى الأنثى جملة؛ لأن المجتمع البدوي مؤسس على تقديس الشرف المتعلق بالنسب والقبيلة، فإن العربي المعاصر يعلم أن مجتمع المدينة الحديث والمتميز بتحلل الهويات الجماعية من قبلية وعشائرية وعائلية، وغلبة الهوية الشخصية عليه يسمح بوجود نساء مكرهات اجتماعيا على البغاء، مما يعني أن التواضع اللغوي مرتبط، في جزء كبير منه، على مواضعات الاجتماع.
وخلاصة القول: إن المقدمات النظرية التي انطلق منها الأصوليون في مجال اللغة كانت ترمي إلى البحث عن الثبات من أجل تحقيق استقرار ما للمدونة التشريعية. ولقد مثل هذا المنحى صدى لمساعي علماء الشريعة إلى تحقيق نوع من الاستقرار الفقهي من خلال الهجوم على مدرسة الرأي من جهة، والإعلاء من قيمة السنن لتحجيم مجال عمل العقل في مقابل توسيع دائرة النصوص.
وليس من قبيل المصادفة أن تستند عملية التقعيد اللغوي إلى “سنن العرب في الكلام” (السنن، هنا، بفتح السين والنون) وعملية التقعيد الفقهي والأصولي على “السنن والآثار” ( السنن، هنا، بضم السين وفتح النون).
وعليه، فإن البحث عن الثبات والاستقرار في الاجتهاد الفقهي كان له تأثير كبير في العقل اللغوي العربي والذي نحى نحو تأسيس العلاقة بين اللفظ والمعنى على منظور محافظ قائم على “الاستقرار الدلالي” semantic fixity)[11]). إلا أن العقل الأصولي السني وبسبب النزوع النصي وتضخم الروايات الحديثية (النبي) والخبرية (الصحابي والتابعي ولم لا النخبة العالمة المتقدمة أو السلف) لم يبق وفيا لنظرية الوضع اللغوي في الاجتهاد الفقهي وتأويل القرآن، ذلك أن الروايات المتكاثرة تحولت إلى مصدر للدلالات والمعاني، ولم يعد العقل السني في حاجة كبيرة للرجوع إلى مواضعات اللغة ما دام المعنى موجودا في الروايات المصاحبة للنص.
والحال أن عدم الاعتماد على مجرد الوضع اللغوي رافق، وبشكل متناغم، إبعاد العقل عن مجالي التأويل والاجتهاد لا من حيث هو آلية من آليات الكشف عن معقولية النص؛ أي العقل بوصفه مدافعا عن النقل، بل من حيث كون العقل قادرا، بحسبانه مناط التكليف، على توجيه النص نحو دلالات تأويلية تستوجبها عمليتان: عملية المواءمة الزمنية (contextualization) وعملية المصالحة المتجددة، نسبة للمصلحة، في مقابل النص غير المتجدد (النصوص متناهية والنوازل غير متناهية كما قال ابن قيم الجوزية).
لقد كان الضيق من إخضاع فهم النص لقوانين المواضعات اللغوية ضميما للضيق من إخضاع فهمه لمقولات العقل. وفي الوقت الذي حوربت فيه مدرسة الرأي في بعدها الفقهي والتفسيري فقد حوربت التفاسير اللغوية الأولى التي انضوت تحت عنوان واحد وهو معاني القرآن مع أنها مدونة مهمة للمعاني الأولى للنص والمتلبسة بالوضع اللغوي.
وللخروج من هذه التناقض؛ أي الدفاع عن الوضع معينا للدلالة في اللغة نظريا، وفي الوقت ذاته غض الطرف عنه في الشريعة عمليا، فقد ذهب العقل السني إلى القول بتجدد الوضع اللغوي ووقوع أوضاع جديدة في اللغة من جهة الشرع. وليس ثمة أبرز مثال على هذا المذهب من قولهم بوقوع الوضع الشرعي في الألفاظ، وهو وضع وإن كان لاحقا على الوضع اللغوي الأول، على افتراض وجوده أصلا، فإنه سيصبح الأجدر بإفراز الدلالة وإعطاء المعنى.
هكذا انتهى بهم الأمر إلى القول بوجود الحقيقة الشرعية بوصفها نوعا جديدا من الوضع، مع أن ما يلزم عن هذا القول هو أن الشارع؛ إذ أوقع أوضاعا جديدة في اللغة، وأدخل حقائق جديدة فيها فإنه يوشك أن يعرض وظيفته الأولى وهي البيان للخطر، والسبب أن الوضع الجديد، إن صح، فإنه يستوجب الجهل به أول الأمر من متكلم اللغة مما يؤدي إلى تأخير البيان مع قيام الحاجة إليه حين التبليغ.
ولقد أبعد بعض الأصوليين النجعة في سعيهم لمعالجة هذا التناقض، فميزوا، تكلفا، بين الوضع والمواضعة؛ لأنهم تصوروا المجاز نقلا للفظ من معنى وضعي إلى معنى جديد غير مستقل عن المعنى الأول ولكي يثبت المعنى الثاني ويستقر فقد عدوه وضعا جديدا متفرعا عن الوضع الأول وأطلقوا عليه مصطلح المواضعة كما هو واضح عند أبي الحسين البصري في المعتمد.
الهوامش
[1]. راجع: برنارد وايس.
Language in orthodox Muslim thought: a study of Wad’ Al-lughah and its development. Princeton University, 1966, p 22.
والسيوطي في المزهر.
[2]. ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، مادة وضع.
[3]. المصدر نفسه، مادة وطأ.
[4]. مادة صلح تعود إلى إصلاح الفساد، ابن فارس، م، س، مادة صلح.
[5]. تعلل الدراسات الحفرية والأنثروبولوجية انقراض البشر السابق على الإنسان الحالي بعجزه عن التواصل اللغوي، والجميل أن ابن حزم، رحمه الله، يؤكد التلازم بين الوجود أو البقاء واللغة، فالعجز عن الكلام يؤدي بالضرورة لدى ابن حزم إلى العجز عن البقاء، راجع: الإحكام في أصول الأحكام (1/30).
[6]. أخرجه الحاكم في المستدرك.
[7]. مايكل كورباليس، في نشأة اللغة: من إشارة اليد إلى نطق الفم، ترجمة محمود ماجد عمر، سلسلة عالم المعرفة، مارس 2006، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، ص59.
[8]. ابن حزم، الإحكام في أصول الأحكام، (1/29).
[9]. CHARLES V. TAYLOR, The Origin of Language, CEN Tech. J. vol. 11, no. 1, 1997. P. 76.
http://creation.com/images/pdfs/tj/j11_1/j11_1_76-81.pdf. retreaved on 10-03-2010.
[10]. ابن قتيبة، الشعر والشعراء، تح وشرح أحمد محمد شاكر، ط2، القاهرة: دار المعارف، ج/62-63.
[11]. برنارد وايس، م، س، ص2.
(*) المقال مأخوذ عن موقع الرابطة المحمدية للعلماء / نشر بتاريخ 4 يونيو 2016