إن من يتابع السيرة الفكريّة والسياسيّة للأحزاب القوميّة العربيّة, يجد أنها قد اشتغلت براغماتيا على مستوى الخطاب الديني عندما ربطت برؤية توفيقيّة/ تلفيقيّه ما بين العروبة والإسلام, لاعتقادها بأنها قادرة بهذا الربط أن تُكسب مشروعها السياسيّ مشروعيته أمام الجماهير التي يغطي الوعي الدينيَّ حيزاً كبيراً من ذهنيتها أولاً, و لمنافسة الأحزاب الدينيّة, وبخاصة الإخوان الذين ربطوا الدين بالسياسة أيضاً عبر طرحهم مشروع الحاكميّة لله ثانياً, ثم منافسة الأحزاب اليساريّة (الشيوعيّة) التي تشاركها الشعارات النهضويّة والتقدميّة وإظهارها معادية للدين أمام الجماهير ثالثاً. هذا دون أخذها بالاعتبار أنها بربطها بين العروبة والإسلام كانت تعمل على تعميق أزمة خطابها السياسيّ كون الدين بشكل عام والإسلاميّ منه بشكل خاص في المحصلة هو حطاب أيديولوجيّ ذو بعد أمميّ يرفض الفكرة القوميّة, كما يرفض فكرة المواطنة وكل ما يتعلق بمفاهيم الحداثة والعلمانيّة التي تتبناها هذه الأحزاب في خطابها الأيديولوجي, وهو في المحصلة خطاب أيديولوجييّ غيبيّ لا يؤمن بوجود قوانين موضوعيّة تتحكم بأليّة عمل الظواهر الطبيعيّة والاجتماعيّة, كما لا يؤمن أيضاً بوجود أية قوى اجتماعيّة قادرة على التشريع لحل قضايا الناس بعيدا عن التشريع الذي وضعه الله وأقره السلف الصالح. وهذه المسألة يقرها خطاب الإخوان وكل القوى السلفيّة المعاصرة في خطابها السياسيّ, الذي يكفر كل من يخرج عن فكرة الحاكميّة كما جاء في كتاب سيد قطب (معالم في الطريق) امتكئ على رؤية أب الأعاى المودودي للحاكميّة, أو أدبيات الحركة الوهابيّة التي أسست لفكر القاعدة وفروعها مثل داعش والنصرة ومن يلتقي معها, وما تقوم به هذه القوى الأصوليّة اليوم في ثورات الربيع العربي يؤكد ذلك.
إن مسألة الاشتغال على الخطاب الديني لتحقيق مصالح سياسيّة لقوى اجتماعيّة أو سياسيّة محددة, يبقى لها مخاطرها ومحاذيرها إذا ما اشتغلت عليه الأحزاب التقدميّة, وذلك كون الدين إذا ما تجذر ايديولوجيا في عقل لإنسان لم يعد من السهل بمكان توجيه عقله وتفكيره خارج توجهات هذا الدين وبخاصة لفكرة الانتماء للمواطنة أو الوطن أو الانتماء القومي, هذه الانتماءات التي تتنافى مع مسألة الانتماء الأممي للدين, وهذا ما أكده الكثير من رجال لدين ومنهم على سبيل المثال لا الحصر الشيخ الإمام “محمد عبده” حيث يقول : ( لأن جرثومة الدين متأهلة في النفوس بالوراثة من أحقاب طويلة, والقلوب مطمئنة إليه… فلا يحتاج القائم بإحياء الأمّة (قصده الأمّة الإسلامية) إلا إلى نفحة واحدة يسري نفثها في جميع الأرواح… ومن طلب إصلاح أمّة شأنها ما ذكرنا بوسيلة سوى هذه, فقد ركب شططاً وجعل النهاية بداية.). (1). ثم يقول أيضاً : ( إن الأجناس قامت على العصبيّة القوميّة. لأن أفرادها تلاحموا حفاظاً لحقوقهم من جور حاكم من جنس آخر, أما الوضع فيختلف بين المسلمين. وأضاف : وهذا هو السر في إعراض المسلمين إلى اختلاف أقطارهم عن اعتبار الجنسيات, ورفضهم أي نوع من أنواع العصبيات ما عدا عصبتهم الإسلاميّة. فإن المتدين بالدين الإسلامي متى رسخ فيه اعتقاده يلهو عن جنسه وشعبه ويلتفت عن الرابطة الخاصة إلى العلاقة العامة.) (2). ثم أن الأحزاب التي تربط بين العروبة والإسلام سيؤدي هذا الربط بها إلى تجاهل وجود وتاريخ ومكانة مكونات دينيّة أخرى في مجتمعات هذه الأحزاب ويعتبرها رعيّة, بل إن التجاهل سينال حتى بنية هذه الأحزاب التنظيميّة ذاتها, كالمكوّن المسيحي وغيره من المكونات الدينيّة التي لها انتماءاتها الدينيّة الخاصة بها من جهة, والتقليل من أهمية انتماءاتها القوميّة والوطنيّة وإيمانها بدولة القانون واعتبار نفسها جزءاً أساسيّاً من نسيج الوطن لها حقوق وعليها واجبات, وأن المواطنة بالنسبة لها هي المخرج الوحيد لخروجها من مازق الأقليات أو أهل الذمّة الذي يتبناه دعاة المشروع الإسلامي السياسي الرافض للآخر من جهة ثانية. وما جرى ويجري اليوم تحت مظلة ما سمي بثورات الربيع العربي من ممارسة مشينة من قبل الإسلاميين المتزمتين (السلفيين) بحق الأقليات الدينيّة يثبت ذلك.
وهذه الدعوة السياسية التي كانت تنادي بربط الدين بالسياسة (الدولة) مع نهاية القرن التاسع عشر, كان عبد الرحمن الكواكبي أكثر قدرة آنذاك على فهم مسألة الدين وخطورة اللعب على وتره, وخاصة في المجتمعات المتعددة الديانات والطوائف والمذاهب من فهم بعض النخب الإسلاميّة والقوميّة التي كانت تطالب بالربط ما بين العروبة والإسلام, متناسية مكوّن هام من مكونات المجتمع وهو الأقليات الدينيّة, حيث يقول عبد الرحمن الكواكبي عن خطورة اللعب على الدين, ومحاولة ربط الدين بالدولة (السياسة) في المجتمع السوري الذي ينتمي إليه: (دعونا يا هؤلاء ندبر شأننا بالفصحى ونتفاهم بالإخاء ونتواسى بالضراء ونتساوى في السراء, دعونا نتدبر حياتنا الدنيا ونجعل الأديان تحكم في الأخرى فقط . دعونا نجتمع على كلمة سواء ألا وهي فلتحيا الأمّة, فليحيا الوطن, فلنحيا طلقاء. ).(3). . أما ساطع الحصري المفكر القوميّ الأصيل الذي يعتبر المنظر الأكثر اهتماماً وعمقاً في الفكر القومي على الساحة العربيّة في القرن العشرين فيقول حول مسألة ربط العروبة بالإسلام: ( إن الأبحاث التي نشرتها في مؤلفاتي المختلفة, أظهرت إلى العيان وبأجلى المظاهر وأجلها, الدور العظيم المنقطع النظير الذي قام به ظهور الدين الإسلامي في تكوين الأمّة العربيّة وتوسيع نطاق العروبة, وترسيخ كيان بنيانها, وتشديد مقاومتها للتجزئة التي عصفت بها, ومع ذلك لم تر تلك الأبحاث مجالاً ولا لزوماً لاعتبار الدين من المقومات الأساسيّة للقوميّة العربيّة.). (4). هذا في الوقت الذي نجد فيه مفكراً إسلاميّاً مرموقاً في سورية وله حضوته ومكانته في الدولة السوريّة, وهو الشيخ “محمد سعيد رمضان البوطي”, يقف ضد العلمانيّة بعد مئة عام من مقولة الكواكبي السوريّ حول هذه العلمانيّة في كتابه (العقيدة الإسلاميّة والفكر المعاصر), وهو كتاب مقرر لطلاب الشريعة في جامعة دمشق: حيث يقول البوطي: ( أما الدين الإسلامي فيحوي في أصله إلى جانب مبادئ الاعتقاد, والأحكام التي تضبط شؤون الدولة وتتكفل بإقامة أنظمتها وقوانينها, فإن حجزه عن ممارسة صلاحياته ومسؤولياته, ففي ذلك تغيير لجوهره وإبطال لكثير من مضمونه… ). (5). ثم يتابع ناعتاً من يؤمنون بالعلمانيّة ضمناً, ويتقربون إلى الإسلام قولاً, قائلاً: (إن التظاهر بالخضوع له – أي الدين – بعد ذلك كذب عليه ومخادعة له ولمشرعه.) (6), بل هو لم يتوان أمام اعتبار الإسلام بداية ونهاية كل شيء, ويدفعه هذا الاعتقاد إلى نزع الأخلاق عن العرب قبل الإسلام و عن العروبيين المعاصرين كما ذكر في إحدى حلقاته التي تبث على قنوات التلفاز السوري وهي بعنوان, (لا يغير الله بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) حيث يقول: (إن العرب ليس لديهم أخلاق قبل الإسلام, وإن القوميين العرب الذين يقولون بأن العرب كان لديهم أخلاق قبل الإسلام هم كذابون.).
ملاحظة: تأتي برأيي أهمية الربط بين العروبة والإسلام كحالة حضاريّة في حالة واحدة وهي: الرد على بعض القوى الشعوبيّة التي تريد تجريد العرب من دورهم في الحضارة العربيّة الإسلاميّة بشكل عام, ومن أن الرسول وذريته لا ينتمون إلى العرب بشكل خاص.
عدنان عويد كاتب وباحث من سورية.
1- (أميل توما – الحركات الاجتماعية في الإسلام- ص154- مرجع سابق).
2- (المرجع نفسه- ص154).
3- ( المرجع ذاته ص 155).
4- (زهير توفيق- أديب اسحق مثقف نهضوي مختلف- المؤسسة العربية للدراسات والنشر- بيروت -2003 – ص153).
5- د. محمد سعيد رمضان البوطي.(العقيدة الإسلامية والفكر المعاصر) . وهو كتاب مقرر لطلاب الشريعة في جامعة دمشق. ص 248
6- د. محمد سعيد رمضان البوطي.(العقيدة الإسلامية والفكر المعاصر) . المرجع نفسه. ص 248