نؤكد منذ البداية, أنّ الديمقراطيّة والعلمانيّة ليستا مطلقتين في دلالاتهما, وبالتالي هما في حالة إطلاقهما ليستا أيضاً صيغتين صالحتين لكل زمان ومكان, لذلك نقول: إنّ حالة صلاحيتهما في بناء الدولة والمجتمع, تأتي هذه الحالة من خلال الاقرار بصحة تطورهما وتبدلهما شكلاً ومضموناً, وفقاً للمرحلة التاريخيّة التي يعيشها هذا المجتمع أو ذاك, أو حتى المجتمع الواحد ذاته في كل مرحلة من مراحل تطوره وتبدله. وعلى هذا الأساس قد نجد مجتمعا ما أو دولة ما, تتبنى قياداتها أو حكوماتها وفقاً لظروف سياسيّة طارئة لم تُستكمل فيها بعد التحولات الموضوعيّة والذاتيّة بكل مستوياتها الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة, صيغاً من الديمقراطيّة أو العلمانيّة أعلى في مستوى تطورها من مستوى الوجود الاجتماعي الذي تنوجد فيه, وهذا ما يؤدي بالضرورة إلى زيادة تخلف العلاقات المنضويّة تحت مظلة هذا المجتمع أو الدولة, بسبب دخول مكوناتهما الاجتماعيّة في مهاترات سياسيّة باسم الديمقراطيّة والعلمانيّة على حساب القضايا الأساسيّة الملحة والضروريّة لتقدم وتنمية الدولة والمجتمع, وهذا ما حدث في مصر مع وصول الاخوان إلى السلطة, وكذلك في تونس, الأمر الذي أدى إلى قيام شبه انقلابات عسكريّة أعادت العسكر إلى الواجهة ليتحملوا مسؤوليّة إعادة الأمن والاستقرار, وكأنك يا أبا زيد ما غزيت.
بيد أن هذا الفشل في التطبيق, لا يعني أن نبتعد عن توضيح معنى دلالات وأهمية الديمقراطيّة والعلمانيّة في بناء الفرد والدولة والمجتمع من جهة, وضرورة السعي الدؤوب من قبل القوى السياسيّة التي تصل إلى سدّة الحكم إلى تطبيقهما بصيغ تناسب حالات التطور التي يعشها كل من الدولة والمجتمع معاً.
نقول: إنّ الديمقراطيّة والعلمانيّة مشروعان نهضويان مترابطان بعلاقة جدليّة ذات تأثير متبادل, ويعتبران من أهم الروافع النهضويّة المساعدة على تحقيق تقدم الشعوب المتخلفة وتنميتها, والوصول بها إلى إقامة الدولة المدنيّة. وإذا كانت الديمقراطيّة هي النسق الأهم المشتق مباشرة من الحريّة, والمعبرة – أي الديمقراطيّة – بالضرورة عن حريّة الفرد والمجتمع في حياتهم الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة, والهادفة في جوهرها – على اعتبارها مشروعاً نهضويّاً – إلى تحقيق العدالة والمساواة بين مكونات المجتمع, وتجسيد المشاركة لكل هذه المكونات فيما يحقق استقرارها وتنميتها حاضراً ومستقبلاً إذا ما استخدمت هذه الديمقراطيّة أو طبقت على وجهها الصحيح. فإن العلمانيّة هي أيضاً الوجه النهضويّ الآخر للديمقراطيّة, كونها الوسيلة الأكثر فعاليّة بجعل المجتمع قادراً على تجاوز الكثير من مكوناته التقليديّة التي تساهم في تخلف الفرد والمجتمع معاً, مثل العشائريّة والقبليّة والطائفيّة والمذهبيّة, وذلك على اعتبارها أي العلمانيّة – تجسيداً للدولة المدنيّة في جوهرها, أي دولة المواطنة والقانون والمؤسسات والمشاركة, واحترام الرأي والرأي الآخر, وتداول السلطة, واعتبار الشعب هو المرجع الأساس للتشريع, وأن الدولة بكل مكوناتها يعود أمر تكونها المنطقيّ للعقد الاجتماعيّ الذي يقره ويريده الشعب نفسه. والعلمانيّة بهذا الفهم هي الوسيلة الأكثر قدرة على التحالف مع الديمقراطيّة وتجسيدها فكراً وممارسة, والعكس صحيح.
إذن, إنّ الديمقراطيّة والعلمانيّة وجهان لقضية واحدة, هدفهما حريّة الإنسان في أي مجتمع من المجتمعات وعدالته وكرامته وأمنه واستقراره ومشاركته في صنع القرارات التي تهم مصالحه ومصالح الأجيال القادمة. وإنّ كل محاولة لفصل الديمقراطيّة عن العلمانيّة هي محاولة لتشويههما, وافراغهما من مضمونهما الحقيقي, لتحقيق مصالح أنانيّة ضيقة شخصيّة أو فئويّة أو حزبيّة على حساب مصالح الشعب بعمومه.
نعم.. إن تطبيق الديمقراطيّة بدون علمانيّة, هي الفسح في المجال واسعاً أمام تحرك المصالح الأنانيّة الضيقة المأزومة في حضورها, أو الموجودة في حالة كمون, طائفيّة كانت أو عشائريّة أو قبليّة أو حزبيّة أو كاريزميّة أو غيرها, وهذا يؤكد عندنا أنّ الديمقراطّيّة عندما تفقد الظروف الموضوعيّة والذاتيّة لتطبيقها ستتحول إلى وسيلة لخلق الفوضى باسمها وباسم الحريّة معاً, وستعمل بالضرورة على تحطيم الدولة والمجتمع بدل نهضتهما وتقدمهما, وهذا ما جرى في ما سمي بثورات الربيع العربيّة.
أما تطبيقنا للعلمانيّة بعيداً عن الديمقراطيّة, فسوف يحول العلمانيّة عند السلطات الاستبداديّة الحاكمة التي تدعي العلمانيّة إلى أداة أو وسيلة لصنع ديمقراطيات مزيفة على مقاسها هي, غالباً ما تتبع فيها تسويات اجتماعيّة وسياسيّة واقتصاديّة وثقافية, ليس الهدف منها – أي التسويات – خدمة المجتمع واستقراره وتنميته, وإنما هدفها ترويض مكونات المجتمع تحت شعارات وأوهام ديمقراطيّة براقة, أعلى درجات تطبيقها هو البحث عن شخصيات موالية للسلطة الاستبداديّة من هذه المكونات, ووضعها في مناصب هامشيّة فاقدة للقرار الحاسم في قيادة الدولة والمجتمع, وبالتالي ستصب نتائج هذه التسويات في مصلحة القوى الحاكمة وليس في مصلحة الشعب بعموم مكوناته.
ملاك القول: إنّ إقصاء العلمانيّة والديمقراطيّة عن فضائهما العمليّ داخل الدولة والمجتمع, وتحويلهما إلى شعارات فاقدة لمضمونها العقلانيّ, سيخلق لا محال دولة الوصايّة, التي تجعل من القوى الحاكمة أو من يمثلها, هم من يفكرون ويقررون في النتيجة عن الشعب, و هم من يختار له الطريق الذي يجب أن يسير عليه سياسيّاً واقتصاديّاً واجتماعيّاً وثقافيّا.
إن غياب التطبيق العقلاني للعلمانيّة والديمقراطيّة عن ساحة أي دولة أو مجتمع, سياسهم حتماً بخلق أنظمة دكتاتوريّة استبداديّة تقوم على وضعيّة سلطويّة هرميّة غالباً ما تجسد روحاً سلاليّةً عند بعضها, أو تطمح لتطبيق هذه الروح عند بعضهم الآخر. وهي في المحصلة سلطة ذاتيّة شخصانيّة لا تقر إلا بأوامر رأس الهرم السلطوي كحاكم بأمر الله, أو من يمنح هذا الرأس من المقربين له بعض السلطات, أما أدواتها فهم مجموعة من الشخصيات الثانويّة التي يتم اختيارها وفق معايير تخدم استمراريّة السلطة القائمة, وغالباً ما تقوم الأجهزة الأمنيّة بتقويمهم وتبيان صلاحيتهم لممارسة المهام التي سيكلفون بها أم لا. مع تأكيدنا أنّ هذه الشخصيات معرضة في أي لحظة للعزل وربما للسجن والقتل إذا انحرفت عن الخط المرسوم لها من قبل الهرم السلطوي ومن يمثله. وهذا التوجه في طبيعة الأنظمة الحاكمة بأمر الله يذكرنا بمقولة ابن حنبل, يجب: (السمع والطاعة للأئمة وأمير المؤمنين, البر والفاجر ومن وليّ الخلافة واجتمع الناس عليه ورضوا به ومن غلبهم بالسيف حتى صار خليفة وسمي أمير المؤمنين.) (1).
د. عدنان عويد كاتب وباحث من سورية
(1) – راجع موقع – جامع حلقات شيخ الإسلام ابن تيمية – بحث السمع والطاعة للأئمة.