منذ أن وِجِدَ الإنسان على هذه البسيطة, وفي كل مرة يتعرض فيها تاريخه لمنعطفات حادّة, تبرز لديه تلك الأسئلة القديمة الحديثة لتفرض نفسها عليه بقوّة خصوصاً عندما يشعر بعمق غربته واستلابه وضياعه أمام كلّ التطورات والتناقضات الاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة والاقتصاديّة التي خلقها هو نفسه عبر علاقته مع الطبيعة والمجتمع أثناء إنتاجه لخيراته الماديّة والروحيّة.

     ولأن مسيرة حياة الإنسان تاريخيّة بامتياز, أي هي حياة يصنعها الإنسان بنفسه أولاً, ثم هي حياة لها سيرورتها وصيرورتها التاريخيتان ثانياً, أي هي حياة  تظلّ في حالة تطور وتبدل مستمرين, لذلك كانت تأتي الإجابات بالضرورة على تلك الأسئلة المطروحة في كلّ اتجاهاتها المختلفة في مضامينها ودرجة عمقها وأشكالها من مرحلة إلى أخرى, مرتبطةً بجملة الظروف الطبقيّة والنفسيّة والأخلاقيّة التي يعيشها الإنسان.

     إنّ الإنسان منذ أن بدأ يجيد التساؤل حول ما يحيط به كما سيمرّ معنا, راح يحرر عقله من كل محددات الضرورة الطبيعيّة أولاً, ثم يعي نفسه ككائن له وجوده (الأنطولوجي) الخاص به على هذه البسيطة ثانياً, وله خصوصياته الجسديّة والفكريّة والعمليّة التي تميزه عن بقيّة الكائنات الأخرى التي تحيط به ثالثاً, الأمر الذي دفعه باستمرار أن يسأل نفسه أيضاً أسئلة إشكاليّة كثيرة شكلت مفاتيح معرفيّة لكل تاريخه اللاحق, مثل: من أنا؟, وكيف جئت إلى هذا الكون؟. وما هي القوى التي تتحكم في مسيرة حياتي؟.  ولماذا أنا مختلف عن بقية الكائنات المحيطة بي؟. وما هي طبيعة العلاقة التي تربطني مع أفراد جنسي؟ ولماذا أنا وحدي من استطاع أن يؤثر في الطبيعة ويفرض هيمنته على الكثير من مكوناتها أو عناصرها, مثلما أملك القدرة على خلق عالمي المتفرد عن عالم غيري من المخلوقات التي سخرتها أنا ذاتي لخدمتي؟. وغيرها من الأسئلة الكثيرة التي يفرضها وجود الإنسان وتنوعه وتعدد أهدافه ومصالحه… الخ.

     أمام هذه الأسئلة الكثيرة التي فُرضت على الإنسان منذ بداية حياته حتّى اليوم, تدفعنا شهوة المعرفة إلى القول: إنّ هذه الأسئلة التي عرضناها أعلاه, مرّت هي ذاتها في سياقها التاريخي بمراحل متعدّدة, ابتدأت بالتصورات الخياليّة المشبّعة بالخرافة والأسطورة والأوهام والماورائيّة, كما هو الحال عند الشعوب البدائية, وحتى عند الشعوب التي وصلت إلى مرحلة الاستقرار وأقامت نواة الدولة, كالبابليين والأشوريين والسومريين والإغريق وعند الهنود والصينيين والرومان وغيرهم، لتصل فيما بعد مع حلول القرون الأخيرة لما قبل الميلاد، إلى مرحلة التطور العلمي المرتبط بالرياضيات والفيزياء والكيمياء وعلم الفلك وغيرها من العلوم، التي راحت تحطم منذ بداية ظهورها تلك الأسئلة القديمة وإجاباتها، وتفرض أسئلة فلسفيّة جديدة ممزوجة بالطابع العلميّ في المراحل المتقدمة من حياة الإنسان وتوسع نشاطه العمليّ والروحيّ معاً، وعلى اعتبار أنّ أهم هذه الأسئلة التي راح يطرحها المهتمون أو المختصون بالشأن الفكريّ، ما يرتبط في كيفيّة تشكّل الكون والخلق وما هي مواد تشكلهما، وبما يتعلق بالوجود الحياتي للإنسان، لذلك تأتي أسئلة وأجوبة الفلاسفة والمفكرين التي طرحوها أثناء محاوراتهم ونظرياتهم عن هذا الوجود الطبيعيّ والبشريّ، هي الأكثر قدرة وشموليّة في هذا الاتجاه، من مبدأ, أنّ الفلسفة ومناهجها أو طرق وأساليب تفكيرها، هي من تقوم بدراسة القوانين الشاملة لتطوّر الواقع وانعكاسه في الفكر الإنسانيّ، وعلى الرغم من تَغَيُرِ طبيعة هذه الأسئلة وعمق إجاباتها إلا أنّ قضايا الوجود والمعرفة والحياة الإنسانيّة هي الشاغل الرئيس لجميع المذاهب الفكريّة والفلسفيّة المثاليّة منها والماديّة، وفي مقدمة المسائل التي ُطرحت حولها الأسئلة وأجيب عنها, تأتي المسائل التالية:

     أولاً : الأنطولوجيا : أي مسألة الوجود الموضوعي للعالم، ومن الأسئلة المطروحة هنا: هل الطبيعة أو العالم قائماً بذاته؟. وهل هذا العالم مادي أوسرمدي لا نهاية له؟ أم له نهايته ومحدث خلقه الله كما يقول رجال الدين؟,  أو من الفكرة المطلقة كما يقول هيجل؟,  وهل هذا العالم في حركة وتطور وتجدد بشكل دائم وفقاً لقوانين موضوعيّة – سنن كونيّة – مستقلة عن وعي الإنسان وإرادته؟. أو أنّ مثل هذه القوانين غير موجودة أصلاً، وما نلاحظه من حركة الظواهر وتبدلها جاء نتيجة قوة أخرى من خارج عالمنا هي  الروح المطلق أو الله، أم من داخل آليّة عمل هذه الظواهر دون تدخل أيّة قوى أخرى من خارجها.

      ثانياً : علاقة الناس بالعالم : تتجلّى هذه العلاقة في نشاط الناس العمليّ والفكريّ  والنظريّ الذي يرتدي بوجه عام طابعاً اجتماعياً, ويتحدد في نهاية المطاف بأسلوب الإنتاج المسيطر داخل المجتمع، وما يفرزه هذا الأسلوب أو ذاك من تناقضات بين المالك والمنتج، ثم تَحَوُّلُ هذا التناقض إلى صراع طبقيّ على أساسه تتمّ عملية تطور الواقع والفكر معاً من جهة، ثم تغير الواقع نفسه وخلق علاقات جديدة من جهة ثانية، وهذا ما لمسناه في تغير الكثير من المجتمعات تاريخيّاً بدءاً  من المرحلة العبوديّة إمروراً بالإقطاعيّة وصولاً إلى الرأسماليّة كما هو الحال في المجتمعات الأوربيّة، بيد أنّ الأسئلة والأجوبة التي طُرحت من أجل معرفة أسباب هذا التحولات راحت تتوزع بين المثاليّة بكلّ أشكالها أو توجهاتها الدينيّة اللاهوتيّة والميتافيزيقيّة والمثالية الذاتيّة واللاأدريّة والحدسيّة.. الخ، إلى جانب الماديّة بكلّ أشكالها وتوجهاتها أيضاً، كالماديّة الساذجة أو المبتذلة، والمادية الجدليّة  التي تتخذ من الصراع الطبقيّ بشكل خاص إجابة على هذه التحولات كما بيّنا أعلاه.

     ثالثاً : القضايا الابستمولوجيّة أي المعرفيّة : وتتجلّى خاصةً في قضيّة العلاقة بين الفكر والواقع أو الوجود، أي بين تصوراتنا ووعينا عن العالم, والعالم ذاته المحيط بنا أو ما يمكن تسميته بعلاقة الذات والموضوع، وكذلك النظر في  أشكال المعرفة ووسائلها وطرقها ودرجاتها كافة، إلى جانب مشكلة الحقيقة وما يسوّغها أو يؤكد وجدودها.

     إنّ الفكر الفلسفيّ في حقيقة أمره فكر منطقيّ، يتطلب صيغاً منطقيّة معينة ومقولات ومفاهيم وقوانين الجدل نفسه، كالحركة والتطور والتبدل، وكذلك يتطلب الاستنتاج والاستقراء والاستدلال .. الخ.

     رابعاً : دور ومكانة الإنسان :  وفي هذا الاتجاه تركّزت الأسئلة والأجوبة عن معنى التاريخ الإنسانيّ وقواه المحركة، وآفاق تطور الفرد والمجتمع الإنسانيّ عموماً، فجاءت الإجابات أيضاً موزعة بين فلسفة التاريخ التي تربط حركة التاريخ بقوى غيبيّة مطلقة أو بإرادات ملوك وأمراء، أو بشهوات سلطويّة لشخصيات كاريزميّة..الخ، كما جاءت الإجابات قائمة أو متكئة على مناهج بحث علميّة، ركّزت كثيراً على دور الإنسان في صنع تاريخه وقيمه وأخلاقه وفنّه ومجمل حياته، متخذة من علم الاجتماع وعلم التاريخ وكلّ العلوم المتاحة التي أكدت موضوعيتها ومصداقيّة نتائج بحوثها التجريبيّة، وهي علوم تناولت جوهر الحياة الاجتماعيّة وقوانينها وبنياتها والعلاقات المتباينة بين جوانبها الماديّة والروحيّة، وكذلك العلاقات القائمة بين الفرد والمجتمع وبقية المجتمعات ومكوناتها.

د. عدنان عويد كاتب وباحث من سوريّة .

‫شاهد أيضًا‬

عمر بن جلون: القضية الفلسطينية ومواقف أُطُرنا * ترجمة : سعيد بوخليط

فقط مع الحالة الفلسطينية،شَغَلَ الالتباس الإيديولوجي أهمية أولية،وترتَّبت عن ذلك نتائج في …