الحركة الإنسيّة هي حركة فكريّة وثقافيّة تركز على الإنسان كجوهر في هذه الحياة, له استقلاليته وقدراته على الخلق والابداع بعيدا عن أية قوة أخرى حارج عالمه أو محيطه الذي ينشط فيه عند إنتاجه لخيراته الماديّة والروحيّة, متخذة من عقله وإرادته منطلقاً أو وسيلة لتحقيق مشروعه الإنسانيّ وإثبات ذاته.
لا شك أن الفلاسفة والمفكرين منذ أن بدأ التفكير الفلسفيّ يطرح نفسه على الإنسان والطبيعة معاً, كمشروع معرفيًّ (ابستمولوجي) يرمي إلى تفسير آليّة عمل الطبيعة والمجتمع وتفكير الإنسان ذاته, أخذ هذا المشروع الفكريّ في مراحل متقدمة من التاريخ الإنسانيّ اتجاهين فلسفيين هما:
التيار الأول: هو الاتجاه أو التيار المثاليّ, الذي ربط تفكير الإنسان وسلوكياته بالغيب أو ما وراء الطبيعة, وقد مثل هذا التوجه الجبريون, أو ماعرفوا في الفكر الفلسفيّ بالمدرسيين أو (السكولائيون), فمنذ أن بدأ الفكر الديني بكل أشكاله التاريخيّة يطرح نفسه في الكثير من حضارات ما قبل الميلاد وما بعدها, كفكر منظم له هيأته الكهنوتيّة ومعابده وطقوسه ورموزه والسلطات التي تحميه وتروج له, وصولا إلى اليوم.. وخير عن عبر عن هذا التوجه الجبري بشكل خاص, هو التيار جبري في مضامينه وأهدافه, حيث أقر منذ إرهاصاته الأولى بوجود قوى خارج إرادة الإنسان, هي من يسيّر الإنسان ويحدد له مصيره, وهذا ما راحت تؤيده أو تروج له الكتب المقدسة السماويّة فيما بعد.. الأمر الذي اعتبر أن أي فكر آخر لا يقر بتوجهات هذا الفكر اللاهوتيّ الجبريّ, هو هرطقة وتجديف, وقد شَرع رجال الدين ومؤسساتهُ بحق المختلف الكثير من الأحكام الجائرة التي رافقت تطبيقاته بحق المختلف تاريخيّاً.
أما التيار الثاني: فهو التيار أو الاتجاه الذي حمل منذ البداية بذور الإنسانيّة (أي التأكيد على أن الإنسان سيد نفسه وقدره) من خلال تأكيد الحامل الاجتماعي لهذا الفكر, على أن المعرفة لا تفرخ مجرّدة من الأعلى .. بل هي معرفة مشخصة يكتسبها الإنسان عبر علاقاته مع محيطه الطبيعي والاجتماعي, فكان للحسّ والعقل والتجربة والاستنتاج والاستقراء وبالتالي البرهان الدور الكبير في اكتساب المعرفة.. وأن كل الاكتشافات العلميّة في عالميّ الطبيعة والإنسان كان وراءها الإنسان, كقضايا الكون وحركته ومداه وعوالمه أو مكوناته على الأرض أو في فضائها الكونيّ, وهذا ما ينطبق أو ينسحب على القضايا الموضوعيّة والذاتيّة لحياة المجتمع مثل قضايا الأخلاق والحريّة والعدالة والمساواة..وغيرها
عموما إن المسيرة التاريخيّة للحركة الإنسيّة طويلة, ومر دعاتها بمعاناة طويلة من قبل المثاليين اللاهوتيين والميتافيزيقيين والكنيسة والسلطات الاستبداديّة عموما.
فمع تطور التجارة بين الشرق والغرب, وبعد اكتشاف رأس الرجاء الصالح وتحول طرق التجارة إلى يد التجار الايطاليين بشكل خاص في بداية القرن الخامس عشر .. تشكلت طبقة غنيّة تجاريّة مترفة وباذخة.. استطاعت جملة التحولات الاقتصاديّة التي طرأت على حياتها العامة والخاصة, بغعل التجارة وما حققته من أرباح طائلة, أن تحطم أو تقصي من فكرها وسلوكياتها معظم تأثيرات النظرات الفكريّة الجبريّة (السكولائيّة), التي حالت أو تَحُولُ بين الإنسان وقدرته على تحقيق مصيره واحترام عقله وإرادته.. عند ذلك برزة النزعة الفكريّة الإنسانيّة أو ما سمي بـ (الحركة الإنسيّة), التي جعلت من الإنسان إلهاً على هذه الأرض من خلال تركيزها على إمكانيات وقدرات عقله وحريّة إرادته وقوته الروحيّة والجسديّة, فكان الأدب الإنسيّ كالروايات الأدبيّة التي أعطت للإنسان مكانته في هذه الحياة, مثلما كان للتماثيل والفن التشكيلي عموماً دوره أيضاً في إبراز قوة وعظمة وجماليّة الإنسان.
ومع الثورة الصناعيّة, تعمقت الحركة الإنسيّة أكثر, حيث استطاع التطور الصناعيّ التكنولوجيّ أن يظهر قوة الإنسان وعظمته كمخترع من جهة, مثلما استطاعت هذه الثورة أن تحطم الكثير من المفاهيم الدينيّة في توجهاتها الجبريّة عن الكون والطبيعة وتشريح جسد الإنسان والكشف عن جذره من خلال الدارسات البيولوجية والجينولوجية والانتربولوجية وحتى الدراسات اللغوية والهيرمنوطيقة وغيرها. من جهة ثانيّة.
أما في عصر التنوير (القرن الثامن عشر), فقد كان لفلسفة التنوير دورها الكبير, حيث راحت تتعمق رؤية الفلاسفة في قضايا الإنسان وعدالته وحقوقه وواجباته, عبر الدراسات الاجتماعيّة والقانونيّة والنفسيّة. أو السيكولوجيّة.. ومعظم هذه الدراسات صبت في مضمار تعظيم دور الإنسان ومكانته ودوره في صنع حياته وتقرير مصيره.
ملاك القول:
لقد قدمت الحركة الإنسيّة منذ ظهرها حتى اليوم, صورة إيجابية للإنسان باعتباره أرقى الكائنات الحيّة. حيث اهتمت, بمختلف العلوم والآداب والفنون. والأخذ بالأساليب الحديثة في التربية والتعليم. والعمل على إحياء التراث القديم وخاصة التراث اليونانيّ والرومانيّ بالنسبة للحركة الإنسيّة الأوربيّة.
*د. عدنان عويد كاتب وباحث من سوريّة