إذا كانت الحداثة تعني في سياقها العام تحديث وتجديد ما هو قديم, وفق ما يتوفر من إمكانيات موضوعيّة وذاتيّة في مجتمع من المجتمعات, بهدف تطوير حياة الفرد والمجتمع معاً, على كافة المستويات, حيث تتبين لنا حالات التطور التي حققها شعب ما أو دولة ما عبر السياق التاريخي لوجوديهما. فإن مصطلح ما بعد الحداثة في سياقه العام, وكما تجلى عند دعاته من الفلاسفة الأوربيين بشكل خاص، على أنه حركة فلسفيّة ظهرت في أواخر القرن العشرين، وتميزت بنزعة الشك الواسع في قدرات العقل والمنطق على تحقيق التوازن الاجتماعي، والايمان الواسع أيضاً بالنسبيّة المطلقة إلى درجة فقدان هويّة الظاهرة, إضافة إلى عدم الركون لكل ما يحمل قيماً نبيلةً, ويدعي إمكانية تحقيق مجتمع العدالة والرفاه والاستقرار والأمان للفرد والمجتمع, الأمر الذي جعل دعاتها يركزون في طروحاتهم على العبث واللامعقول والنهايات, كنهاية التاريخ والفن والدين والأخلاق .. الخ. لذلك جاءت أراء أو نظرية ما بعد الحداثة في حقيقة أمرها, كرد فعل ضد أفكار الحداثة المشبعة بقيم العدلة والمساوة والحريّة، وكل القيم الفلسفيّة النبيلة التي وُجدت في عصر التنوير بشكل خاص, وفي سياق فترة التطور العلمي من تاريخ أوربا، وتحديداً الفترة الممتدة من بداية الثورة العلميّة مع القرن السادس عشر بكل تجلياتها, حتى منتصف القرن العشرين بشكل عام.

المثقف العربي وما بعد الحداثة:

     إن من يتابع الحركة الفكريّة الفلسفيّة, والفنيّة والأدبيّة بشكل عام على الساحة الثقافيّة العربيّة, يجد الكثير من المفكرين والفنانين والأدباء قد انساق وراء تيار الحداثة وما بعد الحداثة, محاولين بشكل مباشر أو غير مباشر الاستفادة من هذه النظريات أو الأفكار, بأساليب ومفاهيم فكريّة جديدة تنتمي لهذه المدارس والمناهج الفكريّة, وخاصة الما بعد حداثويّة, أملا في تجاوز أزمة الواقع العربي المتردي في معطياته الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة والسياسيّة. حيث أعطوا الأهمية الكبرى لمضمون النص, أدبيّاً كان أو فنيّاً أو فكريّاّ, بعد عزله عن محيطه, وجملة ملابساته السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والفكريّة, على اعتبار أن هذا النص له عالمه الخاص به, وحركته وسياقاته  التي تتم من داخله فقط, ولا تأثير عليه من المحيط الذي ينوجد فيه, أو ما يساهم في إنتاجه بالأصل.

     إن هذا التوجه المنهجي, جاء برأي, عند هؤلاء المتبنين لمناهج ما بعد الحداثة, إما هرباً من عقاب السلطات الحاكمة المستبدة والشموليّة لكل من يحاول توصيف وتحليل أزمة الواقع منطقيّا وعقلانيّا, وبالتالي إظهار أسباب أزمته وتخلفه, أو جاء نتيجة غياب للرؤية العقلانيّة النقديّة لديهم, وسيادة نزعة التقليد والتجريب, دون وعي أو إدراك للأسباب التي أدت إلى ظهور هذه المناهج في أوربا.

     نقول: إن معظم محاولة التجديد التي تأتي من الحداثة أو ما بعدها  مهما كانت طبيعتها, ولا تقوم على المستلزمات الأساسيّة لتطور المجتمع والدولة معاً, والسير بهما نحو التحرر والتقدم وفقاً للحاجات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة التي تتطلب بالضرورة تحطيم أو إقصاء ما أصبح تقليديّا ومترهلاً ومتخلفاً منها, والفسح في المجال لبناء بنى جديدة أكثر ملاءمة وحيويّة لخصوصيات العصر, إنما هي في الحقيقة محاولات تجديد مفتعلة أو منفصلة عن سياقها التاريخي مهما كانت نيات حواملها الاجتماعيين,

     أي هي حداثة دائرة في فراغ, ومفضية إلى فراغ, وبانتظارها فراغ جديد. وبالتالي هي اتجاه حداثي مغترب, لا يلامس الحالة الوطنيّة, ولا يقارب الواقع الموضوعي الملموس, أو المعيش. وهذا ما يجعلها ثقافة نموذجيّة للعقليّة الثقافيّة الزائفة التي تحاول بوعي أو بدونه, تخليد حالات الانفصال بين المثقف العربي والحاجات الضروريّة الملموسة لشعبه. الأمر الذي يجعل هذه الثقافة تعمل على تكريس وضعيّة اجتماعيّة معينة تخدم قوى اجتماعيّة وسياسيّة أو طبقيّة معينة ذات مصالح أنانيّة ضيقة في الغالب.(1).

     إذن, من هنا علينا أن نبين عمليّة الخلط ما بين الحداثة وما بعدها… ما بين الحداثة كتوجه عقلاني نقدي تفرضه الضرورة التاريخيّة لمسيرة المجتمعات نحو تقدمها ونهضتها, وهي فعل إيجابي يراعي خصوصيات الواقع دون الخضوع المطلق لهذه الخصوصيات بطبيعة الحال, وبين الما بعد حداثة,  كتوجه حداثي سلبي يقفز فوق الواقع وخصوصياته, بغية تحقيق مصالح معينة تقوم على دوافع ذاتية إرادوية بعلم حاملها الاجتماعي لخطورة هذا التوجه أو بدون علمه. لذلك أن الموقف المنهجي العقلاني النقدي والأخلاقي معاً, يتطلب منا أن نكشف الأبعاد الحقيقة لهذا النمط من الخلط المنهجي بين الحداثة وما بعدها وتحطيمه. فما قيمة الأدب والفن والفكر عموماً, إذا لم يعبر عن قضايا وهموم الفرد والمجتمع, أو ما قيمة أدب وفن وفكر يبحت عن وجود الإنسان في عالم الميتافيزيقا أو الغيبيات, أو عالم البنى الثقافية التقليديّة, أو تحت مظلة التخيل والتأمل السلبي, ملغيّاً الحاضر تحت ذريعة البحث عن المستقبل.. أي عن زمن غير زمننا ولا يلامس قضايانا ومشاكلنا, ووضع الحلول لها, في الوقت الذي تعاني منه مجتمعاتنا الجوع والقهر والظلم والتشيىء والاستلاب والضياع والغربة.

     إن البحث عن واقعنا في تلك العوالم الفكريّة والأدبيّة والفنيّة المفارقة للواقع المعيوش, هو ليس أكثر من البحث عن حداثة أو ما بعد حداثة الاغتراب المادي والقيمي معاً, وبالتالى هذا ما يجعلنا نعيش فقط في سحر الكلمات وتراكيبها, وصورها الفنية وألوانها, وعالم أوهام شعر وأدب خالي من أي مضامين إنسانية سوى مضامين الدهشة التي تنتهي بانتهاء قراءتنا أو مشاهدتنا لتجلياتها. أي عالم الفن من أجل لفن وليس من أجل المجتمع.

كاتب وباحث من سوريّة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) – مجلة النهج- العدد 17/ لعام 1987/ ص  214 و215

ملاحظة: أهم المدارس الفكرية والفنية والأدبيّة لتيارات ما بعد الحداثة راجع:   

1-  جماعة أبولو الشعرية في مصر,

2- كتاب مجلة شعر في سورية ولبنان.

3- علي حرب على مستوى الفكر _ كاتب لبناني.

‫شاهد أيضًا‬

عمر بن جلون: القضية الفلسطينية ومواقف أُطُرنا * ترجمة : سعيد بوخليط

فقط مع الحالة الفلسطينية،شَغَلَ الالتباس الإيديولوجي أهمية أولية،وترتَّبت عن ذلك نتائج في …