الكاتب : الحسين بوخرطة
من خلال ملاحظة العنوان “البحث عن قبر الشاعر البياتي”، وبداية النص المعبرة عن حالة نفسية عادية “… سافرت من مقر عملي في المغرب إلى سورية للمشاركة في مؤتمر مجمع اللغة العربية في دمشق … وصلت قبل يومين بسبب مواعيد الرحلات الجوية … جاءني (الأخ من العراق) إلى الفندق ضحى يوم الجمعة … سلام وعناق وحديث طويل عن الأهل والأصحاب…”، ونهايته “تذكرت غربة البياتي، وتذكرت غربة الشيخ محي الدين بن عربي التي لم تطالب الأندلس باستعادة رفاته، وتذكرت غربة العراقيين في بلادهم، وتذكرت غربتي، وبدون أن أدري ترقرقت دمعة في عيني،…”، وبعض المشيرات الهادفة “…أتلوا الفاتحة على روحه … ولد (البياتي) بالقرب من صوفي –الشيخ عبد القادر الجيلالي- ودفن بالقرب من صوفي – الشيخ ابن عربي- …عرفنا المحافظ من لهجتي التي لم يندثر لحنها بعد خمسة وثلاثين عاما على فراق العراق … للقبر شاهد مرتفع نوعا ما (قبر البياتي الذي ألف الآلاف المؤلفة من العبارات الشعرية الأخاذة وأغنى بها اللغة العربية لفظا ونحوا ودلالة)… كُتِبتْ على قبره عبارة واحدة فقط، مبتسرة ركيكة التركيب… ذهني حلق بعيدا في فضاء حزين من الذكريات… شاهدت الدمع تتجمع في عينيه (البياتي) مثل غيمة تسوقها الريح… “، يتضح أن قصة القاسمي تعالج قضية نفسية، قضية سارد ووطن وإقليم.
إنها نفسية حزن وعذاب وألم وحسرة واغتراب خيمت وتخيم على أنفس وأرواح المفكرين والمبدعين، الأحياء والأموات، داخل وخارج البلدان العربية. إنها نفسية السارد، والشاعر، والأديب المبدع، والمفكر العالم، … فالبياتي، الشامخ في الذاكرة الثقافية العربية، كما هو الشأن بالنسبة للكاتب، قاوم بشراسة بالقلم والكلمة، مرددا برقي وسلمية صدى العبارات الإبداعية والكلمات المنحوتة في شمول الفضاء العربي الشاسع، زاخرة بالحب والحزن والقيم الإنسانية وبواعث الانتماء الكامنة. ولد بالقرب من صوفي، ودفن قرب صوفي آخر، لكنه أحب الحياة كما تمناها للعراقيين بصفة خاصة والعرب بصفة عامة، متشبثا بدون استياء بالنضال من أجل الكرامة داخل الوطن. سطع نجمه وبزغ لامعا من خلال حياة متاخمة لموقعين زاهدين، الأول احتضن فرح ولادة والثاني استضاف الرفات بعد الوفاة.
لم يستسلم (البياتي) لطلبات وتغريرات الارتماء في حضن الصوفية، كمجموعة طرق وسلوك في العبادة والتنسك، لأنه كان يعتبر بإيمان المبدع أن نزعة الهروب، هروب الزهاد، ما هي في العمق إلا ردود أفعال مناوئة للتغطرس وانعكاس مباشر للمبالغة في ممارسة القمع والتسلط النسقي باسم الدولة الراعية. تابع كيف تبدلت أحوال وأحلام الناس، وبارت أمانيهم، وتكسرت علاقاتهم الاجتماعية، واستسلمت النفوس الزكية للهروب بعيدا، لتتفرغ للأذكار والخلوة بالنفس، لتزداد قوة عزيمة الشاعر في البوح الفاضح لمساعي إبادة أرواح الأوطان العربية وكبس أنفاسها، جاعلا من الكلمة المنحوتة بالدقة المتناهية سلاحا عتيدا للمقاومة، ومواجهة مخاطر السباحة ضد تيار الحاكم. إنه ابن حضارة بلاد الرافدين المجيدة والمتسامحة بصداها المدوي في فضاء الحضارات التاريخية. السارد، كما البياتي، تعايشا مع الصوفي الذي انتابه الاعتقاد، أمام تكدر المعيش وشيوع الفواحش والاعتداءات على كرامة كينونة البشر، أن الخلاص يوجد في الغوص في صفاء القلوب وركوب الطريق السوي.
إن سطور هذه القصة الرائعة، تحمل بين طياتها دلالات استفحال مقت النظام العسكري للمبدعين بالعراق، مقارنة مع الدول العربية الأخرى. فالانقضاض القسري العنيف، بالحديد والنار، على فضاءات العيش المشتركة داخل الوطن الواحد، لا تولِّد إلا الزهد أو الإرهاب أو التيه والتفاهة. فإذا كان الزاهد يحرص على التفرغ للعبادة وإهمال الدنيا وطلبها والتقليل من شأنها والرغبة في دار البقاء، فإن النزوع إلى الإرهاب عنوانه الحقد والرغبة في الانتقام، لتستسلم فئات من العامة إلى الصمت والخوف والمسايرة اليومية لتعبيرات الدونية، مقتصرين بالتشبث بالبقاء على قيد الحياة بدار الفناء. إنها بدع أنتجها وأذاعها الطاغوت عربيا في أذهان الأجيال المتعاقبة.
فخصائص القصة من حيث الحالة النفسية تزكيها بقوة دلالة المكان (سورية المتفاعلة والمتاخمة للعراق -مؤتمر مجمع اللغة العربية في دمشق)، والزمان (أوائل شهر أكتوبر – يوم الجمعة وإقامة صلاتها وزيارة قبر البياتي)، والشخصيات برمزيتها الكبيرة (السارد كشخصية رئيس، أخو السارد الذي تحمل عناء السفر للقاء شقيقه بعد سنوات عجاف من الفراق، البياتي نفسه قيد حياته، القيم على الضريح، ومحافظ المقبرة وابنه).
كما نجدها في قطع متواليات السرد من خلال استثمار الكاتب لخطاطته السردية بإبداع لافت. البداية كانت عادية نفسيا (وصول إلى الفندق، لقاء الأخ بحب وعناق وشغف). لكن البراعة ستزداد ارتقاء في منعطف أحداث الوضعية الوسطية المخلة، فالشخصية الرئيس (السارد) سيرتبط بأحاسيس جديدة ستغوص به في عالم ذكريات الأحزان (البحث عن قبر عبد الوهاب البياتي رمز جدلية اليأس والأمل). إنها وضعية انجذاب اصطفى وامتثل من خلالها وجدان السارد متنكرا للذات، عكس الأخ الذي كان يطمع في لحظات متعة ذاتية مع أخيه (استشهاد: تبادر إلى ذهني أنه كان يرغب في اصطحابه إلى مطعم فاخر في أحد المصايف الجبلية الرائعة)، باحثا عن قبر الشاعر البياتي (استشهاد: رآني أتهيئ للخروج؟ أين ستأخذني؟ قلت : “سنذهب إلى ضريح الشيخ محي الدين بن عربي للبحث عن قبر المرحوم عبد الوهاب البياتي، لأتلو الفاتحة على روحه”. فبقدر ما ازدادت الرغبة عند الأخ للهروب إلى فضاء رحب وممتع، وأن يستل من مآسي تراكم القتلى والموتى (استشهاد: ألم نشبع من القبور والمقابر في العراق؟)، اشتد الحرص الدائم لدى السارد للتشبث بكينونته الإنسانية ونضاليتها (استشهاد: هذا قدرنا).
أما في وضعية النهاية، فقد تم التعبير بأمل عن مآسي الذكرى، مآسي الغربة والهروب من الفظاعة، والويلات التي تحملها وتكبدها الشعراء والأدباء والمفكرون ورجال الفن المبدئيون والملتزمون بالقضايا العربية. والسارد في طريقه إلى اندونيسيا، توقف ذات مرة في عمان قاصدا شقة البياتي، ليتم إخباره بانتقاله إلى دمشق للإقامة فيها. إنها وقفة تذكَّرَ فيها مقطع من ديوان المغترب النازع إلى الموت تحت عنوان “قصائد حب على بوابات العالم السبع”، الذي يقول فيه: “عدت إلى دمشق بعد الموت/أحمل قاسيون/أعيده إليها/ مقبلا يديها/فهذه الأرض التي تحدها السماء والصحراء/والبحر والسماء/طاردني أمواتها وأغلقوا علي باب القبر”. توجس خوفا، ليسترسل في استرجاع شريط الذكريات القاسية (غربة البياتي، غربته هو نفسه، غربة محي الدين بن العربي وآخرون). أما الأخ، فقد رمزت وضعيته النفسية غير الآبهة إلى الإنسان العراقي الذي لا يعبأ بمجريات الأحداث بوطنه، المغترب في بلاده، وغير المكترث خوفا من عواقب الكلام في السياسة والفكر، والميال إلى الصمت والعيش بما يضمن الروح في الجسد (استشهاد: عندما استدرت خارجا من المقبرة صامتا واجما، وأخي يتبعني من غير أن يتكلم).
بأسلوب حواره الداخلي، الذي امتزج فيه الخارجي، وبأسلوب سردي من الخلف، غاص بنا الكاتب بشخصيته الساردة الرئيس في فضاء إبداعي سلس، بحبكة قياسية الإتقان، وببناء فني مرصوص، وباختزال يبهر، أهدى للقارئ خطاطة سردية منظمة بمقاطعها ومقاصدها الدلالية، زارعا الأمل في استنهاض الضمائر والهمم. لقد عبَّر، بنفحات امتزج فيها الفرح والتوتر والانفعال والحسرة والحيرة، عن جرح غائر في نفسه، لا يضمده إلا الأمل في غد أفضل، الأمل الذي لا يكل ولا يمل بهمساته وصيحاته في مناداة المثقفين العرب للوحدة في التعبير عن الكلمة الهادفة وإيصال مدلولها إلى نفوس الأفراد والجماعات. إنه الأمل في غد أفضل الذي يجب أن يعضوا عليه بالنواجد متضامنين ومتعاونين وموحدين إلى حين التخلص من غبار التخلف والانحطاط.
فعلا، لقد ربط الكاتب ما عاشه السارد من أحداث مؤثرة بشخصيات من عظماء الحضارة العربية. أولهم عبد الوهاب البياتي، الشاعر نجم أدباء العراق المغتربين، اللغوي والأدبي المبدع اللامع، والصحافي المقتدر، الذي تكبد الويلات بسبب مواقفه الوطنية، والتي كان أبشعها فصله من وظيفته واعتقاله. عاش مغتربا متنقلا بين الأقطار شمالا وجنوبا. سافر إلى سوريا، ثم بيروت ثم القاهرة. احتضنه بحنكته وخبرته الاتحاد السوفيتي، واشتغل في جامعة موسكو الحكومية، ثم باحثا علميا في معهد شعوب آسيا. جاب العالم وأقطار الدنيا رحالة ومهاجرا ومنفيا وثائرا ومفكرا، وبقي مرتبطا بحق العودة وانعتاق الشعب العراقي من التسلط، وظل منارة أرض سومر وشاعر الحنين والمنافي، مستلا بعقلانية من الصوفية ليعانق المرحلة الرومانسية والحداثة (مقطع من أشعاره: نحن من منفى إلى منفى ومن باب لباب / نذوي كما تذوي الزنابق في التراب / فقراء، يا وطني نموت وقطارنا أبدا يفوت…).
انتقل بنا السارد إلى مسقط رأسه معلنا أن البياتي ولد في بيئة شعبية صغيرة وفقيرة (عام 1926) بالقرب من مسجد وضريح الصوفي الشيخ عبد القادر الجيلاني في بغداد. وهذا الأخير كان علامة عصره في علوم الشريعة. تابع طلبه للعلم، ورحل إلى بغداد ودخلها سنة 1095 ميلادية وعمره ثمانية عشر عاماً. انتسب إلى مدرسة الشيخ أبو سعيد المخرمي. عايش الفوضى التي عمت كافة أنحاء الدولة العباسية، وويلات هجومات الصليبيين. إنها ولادة قرب رجل مقدام استطاع بالموعظة الحسنة مجابهة الحكام الظالمين مغذيا روح المقاومة عند الناس محذرا إياهم من الانصياع للطواغيت (أشهر عباراته: “صارت الملوك لكثير من الخلق آلهة. قد صارت الدنيا والغنى والعافية والحول والقوة آلهة، وبحكم جعلتم الفرع أصلاً، المرزوق رازقاً، والمملوك مالكاً، الفقير غنياً، العاجز قويا والميت حياً، .. إذا عَّظمت جبابرة الدنيا وفراعينها وملوكها وأغنياءها ونسيت الله عز وجل ولم تعظِّمه، فحكمك حكم من عبد الأصنام، تصيّر مَنْ عظّمتَ صنمَك“). لقد اغتنم يوما وجود الخليفة في المسجد وخاطبه ببسالة من على المنبر قائلاً “وليت على المسلمين أظلم الظالمين وما جوابك غداً عند رب العالمين“. ومن أبرز أقواله الشهيرة: أن يجتنب المتعلم الكذب هازلا أو جادا/أن يجتنب لعن أي شيء من الخلق/أن يجتنب الدعاء على أحد/أن لا يشهد على أحد من أهل القبلة بشرك/أن يجتنب النظر إلى المعاصي/أن يجتنب الاعتماد على الخلق في حاجة صغرت أو كبرت/أن يقطع طمعه من الآدميين/التواضع، وبه تعلو المنزلة.
ألحق السارد القارئ به، ليجد نفسه واقفا أمام معلمة تاريخية ثالثة، وهو الشيخ محي الدين بن عربي (استشهاد: سنذهب إلى ضريح الشيخ محي الدين بن عربي (1165-1240م) للبحث عن قبر المرحوم عبد الوهاب البياتي، لأتلو الفاتحة على روحه). هو واحد من أكثر المتصوفة والفلاسفة العرب تأثيراً. كتاباته لا تزال تتمتع بشعبية كبيرة، وتعطي اليوم أجوبة هامة على المقاربات الأصولية في الإسلام. لقد كان خبيرا في الشؤون الدينية المرتبطة بالتجربة الكونية الروحية الضمنية، وساعده الشعر في التعبير عن اجتهاداته المبهرة. بفضله انتشر الإسلام في عدد من أقطار آسيا. يُعتبر أحد الأشخاص ذوي الكرامات في دمشق، وله صورة براقة في بقية العالم الإسلامي، ونجم كوني برؤاه في شأن التسامح والتناغم بين الأديان. يعد من رواد تشكيل حضارة عالمية إنسانية بالكامل، الداعين إلى الإبداع والتعاون العميق الذي ينبع من فهم روحي حقيقي للدين، مستندا على فهم عميق للقرآن، منتجا بذلك للمعاني المتعددة والمتداخلة. كان من دعاة رقي الإنسان بإنسانيته بطموح الإتحاد بخالقه تعالى. لقد كان دائما يردد أن الحكم نتيجة الحكمة، والعلم نتيجة المعرفة، فمن لا حكمة له لا حكم له، ومن لا معرفة له لا علم له.
بعد ذلك يدخل السارد صحبة أخيه لمسجد محي الدين بن عربي. أديا صلاة الجمعة، بارزا دلالة جواب القيم على ضريح الشيخ :”لا يوجد أي قبر بجوار الضريح، ما عدا قبر الأمير عبد القادر الجزائري، ملفتا نظر القارئ أن قبر المقاوم للاستعمار بالجزائر قد استعادته الدولة الجزائرية بعد الاستقلال، متسائلا بغليان وحزن شديد: متى يستعيد العراق رفات البياتي والجواهري ورفات مئات نوابغه الأحياء والأموات؟ الأمير عبد القادر ابن محي الدين المعروف بـ عبد القادر الجزائري ولد في قرية القيطنة قرب مدينة معسكر بالغرب الجزائري سنة 1808 ميلادية، هو قائد سياسي وعسكري مجاهد عرف بمحاربته للاحتلال الفرنسي للجزائر. يتلقى السارد هذا الجواب لينقاد لضغط الذكرى وذكريات الأحزان مستحضرا مقبرة الغرباء بدمشق التي تحتضن النوابغ من أبناء العراق، تحتضن الكثير من رفات نجوم الإبداع في هذا البلد الأبي الساطعين في مختلف المجالات، أمثال الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري والشاعر الكبير عبد الوهاب البياتي والشاعر مصطفى جمال الدين وغيرهم. في حين هناك حيرة كبيرة لم يجهر بها السارد تتمثل بعدم معرفة أين دفن الكثير من مبدعي العراق الذين ماتوا في الغربة.
أثار السارد الارتباط الوجداني للبياتي بالمغرب حيث خصص لذلك فقرة هامة في القصة (استشهاد: “كان يأتيني إلى المغرب في بعض المناسبات الثقافية، وأحيانا بدون مناسبة، وكنت أعلم أنه يأتي إلى المغرب ليرى ملامح الوجوه العربية وليسمع اللغة العربية في الطرقات، وليتناهى الأذان من المنابر إلى أذنيه، وليشاهد المنازل والبنايات المشيدة بالعمارة والريازة العربيتين، ويروي عينيه بالأزياء العربية التي يرتديها الناس”). وأضاف جملة مغمورة بالرمزية قائلا: (استشهاد: “وبعبارة أخرى كان الشاعر في حاجة إلى رؤية جمهور قراؤه العرب وهم في بيئتهم العربية ليتمكن من قول الشعر باللغة العربية). سافر بنا كذلك إلى عمّان، بارزا بعد ذلك مكانة الامتداد الإسلامي إلى الباكستان في وجدان شاعره الفذ عبد الوهاب، محدثا وقفة سردية محزنة معبرة على تعلقه بنوستالجيا موسكو (استشهاد: رأيت ملامح وجهه تتغير (البياتي)، ثم شاهدت الدموع تتجمع في عينيه مثل غيوم تسوقها الريح. سألته عن السبب، فقال: إنها قصائد الشاعر المرحوم أنصاري الذي كان زميلي في المنفى بموسكو).
خلاصة القول، لقد أمتعنا الكاتب بهذه القصة الرائعة للغاية بما أثارته من تشويق، وكسر لرتابة السرد من أول كلمة في التقديم إلى آخرها في الختم. لقد أبرز للقارئ، تارة بشكل مباشر، وتارة عبر رسائل مشفرة، أن أحسن وسيلة للتخلص من الشقاء والموت هي الاعتصام بالخيال والقناعة والرضا وعدم الاستسلام للوهن والأحزان. بأسلوبه السردي المتين، واستعماله الأساليب الإبداعية الحجاجية، علمنا ما معنى الانتماء إلى العروبة، ونبهنا بمزيج من الشعور والفكر أن استعصاء احتضان تراب الأوطان العربية لكل أبنائها وبناتها ما هو إلا حالة نشاز غير طبيعية، وأن بناء الغد يتطلب صحوة الذات بأبعادها الشعورية واللاشعورية، لتنتزع الحق في التعبير عما تفيض به النفوس من أحاسيس وأفكار وعواطف ونوازع وطنية والقواسم المشتركة في أبرز منطقة تتوسط جغرافية العالم، فارقة شماله وجنوبه، ومحدودة ما بين الخليج والمحيط. وطن حضاري عريق بذكريات عوالم ووجدان رواد اللغة العربية.
غادرنا البياتي في الثالث من أغسطس/آب 1999 ميلادية عن عمر 73 عاما، قضى أغلبها في المنافي، كانت دمشق آخرها، وجاء حسب وصيته بأن يدفن في مقبرة بن عربي الصوفي الذي عشقه شاعرنا، مرددا أكثر من مرة “إنني أعد العدة لكي أنام إلى جوار شيخي”. السارد، مطرقا بقدميه على تراب سورية، وهائما في ملكوت وجدانه خارج الفضاء الدمشقي، وهواجس الأخ تتابع الخطوات بملل وحيرة مرتبطة بنوازع الذات، يناشد العراق، الوطن الحضاري الباشق الذي يئن جراء العنف القاسي المسكون بعقدة اغتال مادته الرمادية داخل الروح الشعبية، لاسترداد رفات مبدعيه المنفيين. فعلا، قيل للسارد أن البياتي اختار مكان دفنه، ليقرر السارد الالتحاق به مشيا على الأقدام إكراما له، بدون أن يعلم أن المقبرة في اتجاه قمة الجبل. لم يكن هناك أمامه من سبيل سوى التسلق صاعدا، وصل هو وأخيه والإجهاد باد عليهما. لم يجده في المقبرة المنعوتة بل في ملحقة لها. الموقع تضلله شجرة صفصاف وارفة ينبعث منها نوح حمامة محزونة، أما لوحة قبره (الشاهد المرتفع)، على تراب محكوم بنظام مشابه، لم تجسد قيمة الرجل لغة ولفظا ونحوا، بل تغذت ركاكة وابتسارا.