العقل النقدي برأيي: هو جملة المعارف المنطقيّة الواقعية المكتسبة على أسس منهجيّة, والتي يحوز عليها الفرد أو الجماعة عبر علاقاتهم التاريخيّة مع الطبيعة والمجتمع. أي هو عقل يؤسس على التجربة والملاحظة الحسيّة و الاستقراء والاستنتاج والبرهان. وبالتالي هو عقل مندفع تماماً نحو الخلق والإبداع, وإنتاج معرفة تمكننا من تحسين أوضاعنا في هذا الكون، على عكس العقل الإتباعي أو النقلي أو التأملي أو الحدسي الذي يؤدي إلى ركود وجمود المعرفة والواقع معا وعزلهما عن بعضهما.
لقد شكل هذا العقل النقدي عند معتنقيه تاريخيّا, سلاحا بوجه كل قوى الظلام والجهل والظلم والاستبداد, وغالباً ما لقي الحامل الاجتماعي له, أو المدافع عنه, الكثير من المعاناة والعقبات التي حالت ولم تزل تَحُولُ دون تطبيقه على الواقع.
أما أهم العقبات التي تَحُولُ دون سيادته أو انتشاره وتعميمه داخل البنية الذهنية للفرد والمجتمع عند المجتمعات المتخلفة فهي:
أولاً: سيادة وانتشار الفكر الغيبي والساذج المشبع بالخرافة والأسطورة على عقول الكثير من أبناء هذه المجتمعات المتخلفة أو حتى المخلفة, التي تنتشر فيها الأميّة الحرفيّة والمعرفية, ويسود بين أفرادها الجهل, الأمر الذي يحد كثيراً من إمكانيّة العقل النقدي من ممارسة دوره في مضمار حياة الدولة والمجتمع, بما يحتويه هذا المضمار من علاقات ماديّة وروحيّة بين مكوناتها – أي حياة الدولة والمجتمع – على اعتبارها علاقات يتحكم فيها غالباً العرف والعادة والتقليد, أكثر من تحكم القوانين المنطقيّة القائمة على المحاكمة العقلية والتحليل والتركيب.
ثانياً: سيادة الفكر الديني السطحي في صيغته الغيبيّة الاستسلاميّة الامتثاليّة الوثوقيّة, التي يشكل الماضي فيها بكل ثقله المادي والروحي (القيمي) مرجعها الفكري والسلوكي معاً. وهو ماضٍ مقدس عند المجتمعات المتديّنة أصلاً, فما نقل إليها من هذا الماضي, لا يمكن قبول تجاوزه أو تعديله أو مراجعته أو نقده بسهولة أو برغبات إرادويّة. فقانون (هكذا وجدنا أباءنا يفعلون) لم يزل طريّاًّ وحيويّاً في فاعليته وانتشاره, وما يؤكد حضوره هو خوف الناس عادةً من كل جديد, على اعتبار الإنسان قد ألف التقليد ومال إليه نفسيّاً واخلاقيّا وسلوكياً, لذلك فإن مسالة تبديع الجديد دينيّاً, أو تبخيسه وتسفيهه اجتماعيّاً, هو أمر وارد, تساهم في حضوره العلاقات الاجتماعيّة والفكريّة والنفسيّة والأخلاقيّة السائدة.
ثالثاً: سيادة الكسل الفكري, والاسترخاء الذهني, والابتعاد عن تشغيل العقل والحواس والتجريب بغية الوصول إلى الحقيقة, الأمر الذي يُوصل الكثير من أفراد هذه المجتمعات إلى درجة الاستمناء بلذة ما هو سائد من أفكار سطحيّة وبسيطة وساذجة وهامشيّة إلى درجة التفاهة, وهذا ما يشكل هنا أيضاً أحد العوامل الرئيسة التي تحول دون تحقيق سيادة العقل النقدي. ومقاومة أو كره الحصول على المعرفة الجديدة ذات الطابع العلمي بكل أنساقها المعرفيّة, إن كان بشقها الاجتماعي من جهة, أو بشقها العلمي المادي من جهة ثانيّة, وهي معرفة تتطلب بالضرورة البحث والتقصي وبذل الجهود المضنية لتحصيلها, فلا نستغرب مثلاً كيف يتهرب الطلاب من اكتساب المعرفة في مدارسهم, ويتضايقون من دروسهم ودوامهم المدرسي, وكيف تتناقص أعداد الطلاب الذين يصلون إلى المراحل العليا في التعليم. ولا نستغرب أيضاً كيف تُحْتَقَرُ الفلسفة ويُكَفّْرُ أهلها منذ كتاب “تهافت الفلاسفة” للغزالي حتى تاريخه, وهي العلم المعرفي (الابستمولوجي) الشمولي الذي يبحث في سر حركة الطبيعة والمجتمع, من أجل اكتشاف القوانين التي تتحكم في آليّة هذه الحركة, كما تبحث في المعرفة ذاتها كمواضيع إنتاج معرفي, من حيث كيفيّة إنتاجها وإمكانيات استخدامها أو توظيفها لمصلحة هذه القوى الاجتماعيّة أو تلك, بعد تحويلها إلى أنساق معرفيّة سياسيّة واقتصاديّة وفنيّة وأدبيّة واجتماعيّة وأخلاقيّة وقانونيّة وغيرها, والمهم في وظيفة هذه الفلسفة هو معرفة كيفيّة تحويل هذه الأنساق المعرفيّة إلى أيديولوجيا مغلقه عند الذين يبحثون عن مصالح ماديّة او معنويّة ضيقة, تساهم في تخلف المجتمع وعرقلة تقدمه وبالتالي تحقيق نهضته.
رابعاً: وجود الأنظمة المستبدّة, بكل تجلياتها وأشكالها, وخاصة الأنظمة الشموليّة منها, وهي أنظمة غالباً ما تفتقد لشرعيتها الدستوريّة بالنسبة لوجودها في الحكم, وغالباَ ما تقوم هذه الأنظمة بتفصيل صيغ ديموقراطيّة على مقاس مصالحها, وما يسمح لها في البقاء على هرم السلطة لفترات زمنيّة طويلة.
إن طبيعة هذه الأنظمة المستبدة, سَيُفْرَضُ عليها بالضرورة اتباع سياسات براغماتيّة تجاه رعاياها ولا نقول مواطنيها, بحيث تسعى من خلال هذه السياسات إلى تهجين هؤلاء الرعايا, أو نمذجتهم وفق معايير اجتماعيّة وسياسيّة وفكريّة تخدم مصالح قادة هذه الأنظمة. أو بتعبير آخر إجراء عمليات مسح عقول لهؤلاء الرعايا, تبعدهم عن كل ما يساهم في تنوير هذه العقول أو يفتح في المجال واسعاً أمام معرفتهم حقيقة أمرهم, كشعوب قد استلبت منهم حقوقهم الطبيعيّة كمواطنين أولاً, ثم واجباتهم الايجابية التي يفرضها عليهم القانون ثانياً, كون هذه الحقوق والواجبات ستعمل على تجذير المواطنة بين أفراد المجتمع ومكوناته, والانتقال بالشعب من رعايا إلى مواطنين. ولكي تحقق هذه القوى الحاكمة في دولها الشموليّة سياساتها التجهيليّة على شعوبها, تلجأ قبل أي شيء آخر إلى توظيف الجانب الوثوقي الاستسلامي النقلي في الدين, وهذا يتطلب خلق مؤسسات دينيّة يؤَمّن لها كل مستلزمات تطبيق هذه السياسة, من خلال إقامة المدارس الشرعيّة والمعاهد الدينيّة, وبناء أكبر عدد من الجوامع, والفسح في المجال واسعاً أمام تحويلها – أي هذه المدارس والمعاهد والجوامع – إلى مراكز لإعطاء الفكر الديني النقلي الغيبي الامتثالي الاستسلامي الذي يحارب العقل النقدي, ويعمل على إقصائه من خلال تكفير وزندقة من يشتغل عليه من مشايخ أو مفكرين إسلاميين تنويرين, او حتى مفكرين علمانيين تنويريين. يضاف إلى وسائل التجهيل هذه, استخدام المؤسسات الإعلاميّة والثقافيّة المسموعة والمقروءة والمرئيّة لهذه المهمة التجهيلة/التهجينية أيضاً, وذلك من خلال تركيز عمل هذه الوسائل على القضايا الجزئيّة الهامشيّة أو الثانويّة والشكليّة في حياة الفرد والمجتمع. كأن تركز على مسألة الأزياء والطبخ وكيفيّة ترتيب المنزل, أو بث المسلسلات التلفزيون المشبعة بقضايا اجتماعيّة ذات حلول فرديّة, أو تناول مسلسلات بدويّة لم يعد لمواضيعها وجود على أرض الواقع, أو بث دراما تاريخيّة مشوّهة ينافق كتابها كثيراً للتاريخ, فتأتي مضامينها مضخمة بالقيم النبيلة كالكرم والشهامة والمروءة والبطولة, وإغاثة المظلوم, والدفاع عن المرأة, ومحاربة المعتدي أو المستعمر, أو التركيز على شخصيات تاريخية تعطى صفات البطولة الايجابية وكأنها من صنف الملائكة ..الخ. وهذا التوجه المريض قيمياً نجده أيضاً على مستوى المنهاج التربويّة التي يغيب عنها وخاصة في الجوانب الاجتماعيّة والفكريّة, قضيّة استخدام العقل النقدي والنظرة الموضوعيّة إلى الحاضر والمستقبل. فالماضي يظل في هذه المناهج هو المرجع الأساس في تفكيرينا..
هذه هي أبرز المعوقات التي تعرقل عمليّة بناء التفكير العقلاني النقدي في المجتمعات المتخلفة والمجهلة, وهذه هي أسباب الفوات الحضاري لهذه المجتمعات حسب رأينا.
د . عدنان عويد كاتب وباحث من سوريّة.