أكثر من مرة وصديقي الفنان التشكيلي ( عبد الجبار ) يدعوني لزيارة مرسمه, وأنا أعده بهذه الزيارة التي لم تتحقق شروط قيامها لأكثر من سنتين, لا أقول أن السبب هو كثرة مشاغلي, ولكن لطبع سيئ عندي هو تقصيري بحق أصدقائي أحيانا, وربما هذا يعود لأسباب خاصة بي ليس هنا مجال للبوح بها… فجأة قررت أن أزوره بعد أن لفتت نظري لوحة جميلة له معلقة على جدار غرفة الضيوف, قدمها لي منذ سنتين هديّة من باب الذكرى وطبعه الوفي لصداقتنا..

     نظرت إلى اللوحة بتمعن شديد وكأني أراها لأول مرة… منظر طبيعي لجزيرة تقع في وسط نهر الفرات, جمعت في تكنيكها المدرسي بين الانطباعيّة والرومانسيّة, فجاءت ألوانها متناسقة في حرارتها وحياديتها وزهوها, حيث جاءت ألوانها مطابقة تماماً لألوان أشجار الجزيرة وتربتها والمياه المحيطة بها, وبالتالي في الوقت الذي غاب عنها التكلف في مزج وتنسيق ألوانها, إلا أنك تجد فيها حرفية عالية من حيث ضربات ريشته وانسيابيتها ودقتها في تصوير معالم المشهد, الأمر الذي يشعرك حقيقة وكأنك أمام لوحة فوتوغرافيّة… لقد أدهشتني اللوحة, وبعثت بداخلي شعورا لا يخلو من حمولة معرفيّة نبهتني إلى تلك القدرات الهائلة التي تكمن في عالم الإنسان الداخلي, وكيف تتجلي هذه الحمولة من خلال إنتاجه لخيراته الماديّة والروحيّة بشكل عام… هذه القدرات غير المحدودة في تحقيق إبداعات, تؤكد تلك القوّة التي يمتلكها الإنسان, ومن خلالها يقوم  بصناعة عالمه الذي يريده, وتكييفه مع حاجاته من جهة, ثم تفجير مكامن الحريّة التي في داخله وتصعيده لحالات إبداعيّة تتجلى بكل وضوح بما يقوم بإنتاجه أو إبداعه من جهة ثانية.

     إن هذا الشعور الذي كونته عندي اللوحة جعلني اتلفن لصديقي مباشرة لأقول له:

– لقد أدهشتني  اليوم لوحتك فهزني الشوق لزيارتك…

 سرّ كثيراً بشعوري هذا وقال بلهفة :

 – أنا بانتظارك يا صديقي.

ارتديت ملابسي وحملت نفسي إلى منزله.. استقبلني بحفاوة وهو يقول لي:

– والله زمان يا صديقي, أين تحب أن نجلس.؟.  

قلت: في المرسم يا صديق.

ضحك وقال:

– ليكن, فأنا أشتغل الآن على لوحة تعبيريّة لم تكتمل بعد, وأريد رأيك فيها.

     دخلنا المرسم… كانت اللوحة معلقة على سلمها, لم تكتمل ملامحها بعد, ولكنها في نهاياتها, لوحة للجسر المعلق في ديرالزور وقد تدمر الجزء الشماليّ منه.. شابُ في مقتبل العمر يقف في الطرف الجنوبي من الجسر وقد تجهم وجهه بطريقة غاب عنها التناسق الطبيعي لمفردات الوجه, بحيث يشعرك عدم تناسقها هذا وكأنك أمام تشوه أصاب مفردات هذا الوجه من عالمه الداخلي (الجيني) بغعل تاريخه المشبع بالقهر والظلم والاستلاب والتشيىء… أنف كبير, وشفتان صغيرتان غائرتان إلى حد ما في فم واسع امتلكته الدهشة التي تؤكدها عينان كبيرتان شاخصتان.. ويد طويلة تشير إلى الطرف المهزوم من الجسر… وتفاصيل جسد غير متناسقة الأعضاء أيضاً ما بين اليدين والقدمين والجذع حتى تشعر وكأنك أما إنسان من عالم آخر لا يمت لعالم الإنسان الطبيعي بصلة. أما ألوان اللوحة فأكثرها حياديّة وباردة كاللون البني والرمادي وقد صفت هذه الألوان على لوحته بطريقة فجة خارجة عن عالم التناسق والتناسج اللوني في فن الرسم, حيث تشعرك بكآبة المشهد كله.

     طلبت من صديقي أن يتابع الرسم بعد أن أحضرت زوجته لنا الشاي وخرجت…أمسك ريشته بيده اليمنى وحاملة ألوانه بيده اليسرى, وراح ينظر إلى لوحته بعينين ثاقبتين كعيني صقر تبحت عن فريستها.. انحناءة بسيطة لرأسه نحو الشمال, بينما يده اليمنى قد ارتفعت قليلاً نحو الأعلى .. أحاسيسه ومشاعره وحركات جسده كلها انشدّت باتجاه لوحته وتحولت إلى قوة فجرتها حريته الداخليّة الراغبة في تجسيد تصورات عالمه الإنساني المشبع بالقهر والظلم… عالم حوصرت فيه حريّة الإنسان من قبل محيطه الخارجي, ولم يبق له فيه سوى حريته الداخليّة وأدواته المعرفيّة وأحاسيسه وعواطفه, التي يريد عبرها أن يجسّد قهره وظلمه وتشيئه واغترابه في لوحة يشعر بأنه قادر أن يقول لمن مارس عليه القهر والظلم والتشيىء والاغتراب من الخارج, أنا قادر على التحدي. بالرغم من أن هذا التحدي في حالته التي تكمن وراءه هذه الحريّة الداخليّة الفطريّة, حاصرها الخوف, فاضطرت أن تلجأ للرمز بأشكاله التعبيريّة أوالسورياليّة أوالعبثيّة .. الخ.

     هكذا تتجلى حريّة الإنسان الداخليّة لدى الإنسان بشكل عام, ولدى المبدعين بشكل خاص, فلولا هذه الحريّة الداخليّة لما كان هناك إبداع, ولا ثورة على التقليد وحصار العقل والجسد, ولما كانت هناك ثورات سياسيّة لمقاومة الظلم, ولما كان هناك استمرار لهذا الإنسان ذاته في هذه الحياة.

د. عدنان عويد كاتب وباحث من سورية.

      

‫شاهد أيضًا‬

عمر بن جلون: القضية الفلسطينية ومواقف أُطُرنا * ترجمة : سعيد بوخليط

فقط مع الحالة الفلسطينية،شَغَلَ الالتباس الإيديولوجي أهمية أولية،وترتَّبت عن ذلك نتائج في …