لفت انتباهي عبارة فكريّة عظيمة في دلالاتها للأخ والصديق الدكتور “ماجد الغرباوي” أثناء عرضه للقضيّة النٍسًوٍيّة في كتابه (الفلسفة الْنٍسًويّة),تقول: (الإنسان ما بين العبوديّة والخلافة). فحركت لدي هذه المقولة بكل ما تحمل من دلالات إنسانيّة أن أشرح هذه المقولة وأبين أبعادها في الخطاب الديني.
نقول: يظل الوجود الاجتماعي بكل علاقاته الماديّة, هو من يحدد طبيعة البنية الفكريّة السائدة لهذا الوجود أو ذاك, في هذه المرحلة التاريخيّة أو تلك, فهذا لا يعني أن هذا الوجود يفرز الفكر كما يفرز الجلد مادة الأملاح, أو كما تعكس المرآة ظواهر الواقع التي تعرض عليها. فللفكر هنا قدرته الهائلة على الاستقلاليّة النسبيّة عن هذا الواقع, وبالتالي امتلاكه القدرة إما في الحفاظ على وجوده وتخلفه عن تطور الواقع, أي (الوجود الاجتماعي), أو قدرته على تجاوز الواقع المتخلف عليه, وفي كلا الحالتين لا يعتبر الفكر مجردا, بل هو فكر مشخص له حوامله الاجتماعيّة التي هي من تقوم إما في الحفاظ على هذا الفكر أو تركه يجاري حركة الزمن. ولكن علينا أن نقر هنا قضيّة على درجة عالية من الأهميّة وهي, أن الحامل الاجتماعي للفكر له مصالحه, الماديّة والفكريّة, وله درجة وعيه, واهتماماته, ورؤيته تجاه واقعه الذي يعيشه, وهذا ما يترك أثره على سلوكياته العمليّة وطموحاته من جهة, وعلى البنية الفكريّة التي يحملها من جهة ثانية. لذلك في الوقت الذي نرى فيه حوامل اجتماعيّة تتمسك بقيم الماضي والدفاع عنها والتضحية في سبيلها, نجد حوامل اخرى تؤمن بالتقدم وتطور الواقع والفكر معاً. دون أن ننسى دور العوامل النفسيّة الفرديّة والجماعيّة في مسألة الميل إلى المألوف والتقليد والعادة, وهذا الميل يساهم كثيراً أيضاَ قي الحفاظ على البنى الفكريّة القديمة بشكل خاص, دون أن ننسى أيضاً دور الدين والعقيدة الدينّة في تثبيت القيم المتعارف عليها تاريخيّا في حياة المجتمعات من الناحيتين الماديّة بشكل عام والفكريّة بشكل خاص.
من هذه المقدمة تعالوا نتعرف ولو بشكل أولي على مسألتي النسبي والمطلق, أو الجبر والقدر كنسقين فكريين لهما علاقة وشيجة بالخطاب الديني, ولهما تأثيرهما الحاسم أيضاً في ضبط تفكير وسلوكيات الفرد والمجتمع. والقدرة في تحويله من العبوديّة إلى الخلافة.
الخطاب الجبري:
﴿ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ﴾ (الحديد: 22، 23).
وقوله تعالى: “سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا” (الأحزاب، آية 38).
لقد كان الجبر ولم يزل في الخطاب الديني , ينطلق من الثابت والمطلق والفطري, كما يرى المفسرون والمؤولون الأوائل للنص الديني المقدس ممن عاش التجربة الدينيّة في عهد الدولة الأمويّة بشكل خاص, وهي الدولة التي استثمرت الدين ووظفته في هذا الاتجاه منذ أن خطب معاوية في الرعيّة عندما آلت إليه الخلافة بعد مقتل علي بن أبي طالب حيث قال مخاطباً أهل الكوفة: ( يا اهل الكوفة, اتروني قاتلتكم على الصلاة والزكاة والحج, وقد علمت أنكم تصلون وتزكون وتحجون, ولكني قاتلتكم لأتمر عليكم وعلى رقابكم, وقد آتاني الله ذلك وأنتم كارهون.). (1). كما قال عند تولية أبنه يزيد الأمر وهو على فراش الموت: (إن أمر يزيد قضاء وقدر وليس للعباد الخيرة من أمرهم.). (2).
انطلاقا من هذا الموقف الجبري الذي تم تسخيره سياسياً, تم الحجر على حريّة الإنسان وعقله وإرادته, وتم تقييد هذه الحريّة أمام حركة الواقع وتطوره وتبدله. وهنا أيضاً أعلن العقل استقالته أمام سلطة النص المقدس في صيغته الجبريّة المدعومة بقوة السيف, وبالتالي لم يعد الزمن مفتوحاً على المطلق لخير الإنسان وتبدل أحواله, بل تحول إلى زمن دائري دائما يعود فيه الإنسان إلى نقطة البدء التي هي منطلق الحياة ووجودها, أو قدره الذي سجل له بلوح محفوظ وما عليه إلا الاستسلام والرضوخ والاستكانة لهذا القدر.
نعم في الرؤية الجبريّة للنص الديني, يكون كل شيء في حياة الإنسان مخلوقاً لله, وهو مرسوم بشكل مسبق, وليس للإنسان أي دور في صنعه أو تقريره. ففي العقل الجبري تتلاشى القوانين الخاصة المتحكمة بحركة وآليّة عمل الظواهر, ويصبح التسليم والامتثال للقهر والاستبداد والجوع والفقر ولكل ما يجري في حياة الإنسان من ألم وفرح أمراً مقدراً ومشروعاً وطبيعيّاً, بل هو حقائق لا اعتراض عليها, وأن كل معارف الإنسان يجب أن تسخر لتأكيد هذه الحقائق وترويض النفس والجسد لقبولها والتعامل معها دون تذمر أو شكوى. والشكوى لغير الله مذلّة.
إذن مع موت العقل, يموت الإنسان بالضرورة, بالرغم من كونه حياً, وبموته السريري هذا, تموت معه مسألة تكليفه بإعمار حياته والكون معاً التي كلفه الله بإعمارهما.
أمام هذا الموقف الجبري (العبودي) في جوهره, المقصي للإنسان من عالم الحريّة والشعور بقدرة الإنسان على تحقيق مصيره, يأتي الموقف القدري (الخلافي) في الجانب الآخر من النص الديني المقدس.
الخطاب القدري:
﴿ مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ﴾. سورة الإسراء. آية 15.
﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾. سورة الرعد. آية 11.
يظل الموقف القدري هو موقف العقل وحريّة الإرادة الإنسانيّة, وبالتالي هو موقف الفهم العقلاني للدين, بل تفسير وتأويل تدين قابل لاستيعاب الحياة في حركتها وتطورها وتبدلها, فمع العقل تشذّب قوى الفطرة والغريزة وتؤنسن, فلا استسلام ولا امتثال, فهناك تجادل وحوار بين عقل الإنسان وإرادته مع الواقع وقوانينه وأسباب حركته وتطوره وتبدله, كل منهما يؤثر بالآخر ويتأثر به, ومع هذا التجادل والحوار تنمو حياة الإنسان والمجتمع, ليصبح الإنسان سيد نفسه وحاكم أمره في خيره وشره.
في الموقف القدري, تتجلى خلافة الإنسان للإله على هذه الأرض بكل حيويتها, كما تتجلى أيضا مسألة الدين الحقيقي والايمان بهذا الإله الذي أمر الإنسان أن يقرأ ويتعلم ويتفكر, كي يفهم ويكتشف سنن الكون, ويتعامل بعقلانيّة مع كل جديد يفرزه الواقع الذي ينشط فيه.
نعم في الموقف القدري, يكون الدين للواقع وليس العكس, وهذا ما أكده نزول القرآن منجماً. وبالتالي لم يعد النص الديني ثابتا في دلالاته أو معلقاً عند فهم فقهاء ومتكلمي العصور الوسطى له, وإنما تصبح دلالاته تاريخيّة ومفتوحة على المطلق, وليس لأحد الحق أن يغلق هذه الدلالات, أو يغلق حركة الواقع ويعتبر ما فهمه من النص صالح لكل زمان ومكان. فالنص هنا ليس ملكاً لفقيه أو متكلم أو حاكم بأمر الله.. النص الديني هنا ملك لكل الناس, ومن حقهم تفسيره أو حتى تأويله لمصالح الإنسان عموماً وفق مقاصد الدين الخيرة التي امرنا النص الديني ذاته بها, وليس لمصالح قوى اجتماعيّة محددة. فإن هناك من الناس من يعمل على تفسيره وبناء تشريعات عليه تقوم على العدالة والمساواة والمحبة واحترام الرأي الآخر والحريّة وكل ما هو نبيل.
وفي الموقف القدري, لا يعود الزمن دائرياً, وثابتاً, وإنما يصبح زمناً تاريخياً, مفتوحاً بشكل دائم نحو المستقبل. فالزمن هنا بكل دلالاته هو زمن الإنسان ذاته, زمن مشبع بنشاطه الفكري والعملي,
إذن في الموقف القدري, تتحقق كما أشرنا أعلاه خلافة الإنسان على هذه الأرض, من أجل إعمارها وخلق جنة ثانية عليها, فالمطلوب من الإنسان أن يعمل لدنياه كما يعمل لآخرته, وأن له نصيبه من الدنيا كما له نصيبه من الآخرة.
هكذا نجد في الموقف القدري أن الإنسان يعرف الله كما يعرف نفسه, ففي هذه المعرفة للذات تتجلى شخصيّة الإنسان المؤمن وتبرز قوته الحقيقيّة التي هي قوة الإنسان الجوهر, ممثلاً في سلوكياته وتفكيره العقلانيين … الإنسان الفاعل وليس المنفعل. الإنسان المؤمن بقيمة الحياة أكثر من قيمة الموت.
د.عدنان عويد كاتب وباحث من سورية.
(1) النصائح الكافية. محمد بن عقيل. ص 194
(2). الإمامة والسياسة، لابن قتيبة، ج 1، ص 167.