بمناسبة صدور كتاب» الشاهد القرآني عند عبد القاهر الجرجاني « للأستاذ مبارك السعداني. بإصداره لكتاب» الشاهد القرآني عند عبد القاهر الجرجاني «، يكون الأستاذ مبارك السعداني قد رسّخ قدمه في مجال قراءة التراث النقدي العربي. وباختياره لكتاب “أسرار البلاغة” بالذات يكون قد اقتحم أرضا خلاء، وموضوعا بكرا، لم تلتفت إليه الدراسات العربية كثيرا.
لقد دأبت أكثر الكتابات على الاهتمام بالشواهد الشعرية، والاحتكام إليها للحسم في ما يعترض الدارسين من قضايا نحوية ولغوية. فهذا ابن خلدون يرى أن الشعر كان شريفا عند العرب، “ولذلك جعلوه ديوان علومهم وأخبارهم، وشاهد صوابهم وخطئهم، وأصلا يرجعون إليه في الكثير من علومهم، وحكمهم.”(1) ولذلك فهو يتطلب من قائله دربة، واكتسابَ ملكةِ صناعته، حتى يصوغ البيت المنفرد في معناه التام، الذي به قد يصير شاهدا. كما يقرر أبو هلال العسكري، في السياق نفسه، أن “الشواهد تُنزَع من الشعر، ولولاه لم يكن على ما يَلتبس من ألفاظ القرآن وأخبار الرسول شاهد. (2) فله بذلك فضيلة ينماز بها، ويَفضُل بها غيره من الكلام، حتى غدا “ديوان العرب، وخزانة حكمتها، ومستنبَط آدابها، ومستودَع علومها.”(3)
وقد تنبه الكاتب بدوره إلى هذه الظاهرة، وهو يرصد الشواهد القرآنية في كتاب “أسرار البلاغة”، فجعل من بين أهداف كتابه تفسير قلة تلك الشواهد لدى عالم، كان مشغولا، مثل كثير من علماء عصره، بالبحث عن أسرار البلاغة العربية وإعجازها، مجسّدة في أرقى كتبها، وهو القرآن. ولذلك بنى عمله على فرضيتين، مفاد الأولى أن الجرجاني يستحضر في ذهنه الشواهد القرآنية، حتى وهو يوظف شواهد شعرية، بما هي وسيلة لإظهار بلاغة القرآن وإعجازه. والثانية أن مقصدية المؤلِّف هي المتحكمة في نوعية الشواهد وعددها.
وخصص الكاتب المدخل لتحديد مصطلح الشاهد، من خلال استعراض تعريفات بعض الدارسين، القدامى والمحدثين، مستنتجا أن الشاهد يكون جزءا من كلام العرب الموثوق بعربيتهم، للاحتجاج والاستدلال به على قول أو رأي. ثم أوضح، في سياق التمييز بين الشاهد والمثال، أن الأول يأتي لإثبات القاعدة، والثاني يكون لإيضاحها. وعند ترتيب مصادر الشاهد، حسب أهميتها ومصداقيتها، بدأ بالقرآن، فالشعر (حتى القرن الثاني الهجري)، فالحديث (على اختلاف بين النحاة خصوصا حول مشروعية الاحتجاج به)، وأخيرا أقوال العرب الموثوق بعربيتهم من أمثال سائرة وحكَم… إلخ. وختم الكاتب المدخل ببيان ما يتميز به الشاهد عند البلاغيين عن غيرهم. فإذا أجمعوا، كلهم، على الاستشهاد بالقرآن، فإنهم اختلفوا حول عصور الشعر التي ينبغي اعتمادها. فاللغويون، والنحاة على الخصوص، اعتبروا أن عصور الاحتجاج بالشعر تقف، على أقصى تقدير، عند القرن الثاني الهجري، بينما تجاوز البلاغيون ذلك إلى الاستشهاد بأشعار العباسيين، كالبحتري، وأبي تمام، والمتنبي، سيما في باب المعاني، الذي يُعتبَر قاسما مشتركا بين الأقوام والأمم كلها.
خصص الكاتب الفصل الأول للحديث عن الشاهد في “أسرار البلاغة”، وهو الكتاب الذي تناول فيه الجرجاني بتفصيل مباحث علم البيان. وبناء على جدول إحصائي تبيَّن أن نسبة عدد الشواهد القرآنية التي وُظِّفت فيه لقضايا بلاغية لا تكاد تبلغ 10 %، بينما استأثرت الشواهد الشعرية بالحصة الكبرى، فبلغت زهاء 80 % من مجموع الشواهد. ولعل مردّ ذلك إلى أن البلاغيين، عموما، لم يستطيعوا التخلص من تأثير من سبقوهم من النحاة واللغويين، فاستعانوا بشواهدهم، عوضًا عن التأصيل للقضايا البلاغية بالرجوع إليها في مظانها الأصلية. وهو إشكال كبير، حيث ورثت البلاغة من النحو الأسلوب المعياري للتقعيد، المبني على الاستشهاد، حتى أصبحت القاعدة هي الهدف، بينما نهضت البلاغة العربية، في أساسها، على خلفية فكرية، هي مسألة الإعجاز القرآني.
ولم يغفل الكاتب مناقشة موقف النحويين والبلاغيين من الاستشهاد بالأحاديث النبوية، وذلك اعتمادا على الجدول الإحصائي الذي أفرز نسبة 7 % فقط من الأحاديث المستشهَد بها في كتاب “أسرار البلاغة”. فقد لوحظ ندرة الشواهد الحديثية في كتب النحو القديمة، حتى أصبح ذلك قاعدة مطردة في غيرها من مؤلفات النحو والبلاغة التي جاءت بعدها. ولم يشذّ عنها إلا الشريف الرضي في كتابه “المجازات النبوية”.(4) واستنتج الباحث، في الختام، أن الجرجاني لم يستبعد كليا الشاهد الحديثي، بل تعامل معه، مثلما تعامل مع غيره من الشواهد، وإن كانت نسبة حضوره أقل منها. ويبقى المفهوم المضطرب للتخييل عند الجرجاني، والملتبس بالكذب، من العناصر المشوِّشة على هذه الاستشهادات لديه.
وفي الفصل الثاني من الكتاب، الذي خصصه الباحث للشاهد القرآني في “أسرار البلاغة”، حدّد الموضوعات التي تناولها الجرجاني في كتابه حسب ترتيبها، وهي الاستعارة، والتشبيه، والتمثيل، والمجاز. وبناء على طبيعة تلك الموضوعات، ونوعية الشواهد التي وظّفها الجرجاني فيها، ارتأى الباحث تقسيم كتاب “أسرار البلاغة” إلى قسمين: أحدهما طغت فيه الشواهد الشعرية، وهو الذي خصصه للاستعارة والتشبيه والتمثيل، والثاني أورد فيه شواهد قرآنية أكثر من شواهد الشعر، وهو الذي خصصه للمجاز.
لاحظ الكاتب أن الجرجاني وظف في هذا القسم الأول، واحدا وعشرين شاهدا قرآنيا (21)، على الرغم من كونه يتناول فيه عناصر الصورة الشعرية، وهو عدد قليل إذا ما قيس بالشواهد الشعرية التي بلغت ستة وأربعين وثلاثمائة شاهد (346). ويجد هذا تفسيره في سعي الجرجاني إلى تأصيل علم البيان، من خلال أبوابه الأساسية: الاستعارة، والتشبيه، والتمثيل، فاستشهد بما يناسب من أشعار تساعده على الاستنباط والتقعيد والاحتجاج. أما في القسم الثاني الخاص بالمجاز، فقد وظّف الجرجاني خمسة وثلاثين شاهدا قرآنيا (35)، في مقابل تسعة عشر شاهدا شعريا فقط (19). ويعود ذلك إلى كونه يدرس المجاز بدافع ديني محض، متخذا موقفا وسطا بين الرافضين له، والمغالين فيه، حدّ “الإغراب في التأويل.”(5)
وعند حديثه عن طرق توظيف الشاهد من قِبَل الجرجاني ربطها الكاتب بالقصد من تأليف “اسرار البلاغة”، وهو إدراك بلاغة القرآن وإعجازه. ولذلك فدراسته للشعر لا تعدو أن تكون وسيلة لغاية أسمى، هي فهم النص القرآني، وبيان وجوه بلاغته وإعجازه. ثم يسوق الكاتب أمثلة لبعض الشواهد القرآنية، ومنهج الجرجاني وطرق توظيفه لها وتحليلها؛ للوقوف على مظاهر الإعجاز البياني في القرآن. فهو يركز، أحيانا، على الجانب الدلالي في الشاهد، أو يولي الجانب التركيبي فيه أهمية أكبر، بناء على السياق الذي يأتي فيه الاستشهاد. بينما يكاد يغيب المستوى المعجمي في تحليلاته، بسبب اهتمامه، في ما يبدو، بنظم الكلام وتأليفه، وفهم المتلقي لمعناه، أو إدراكه لما قد يوحي به، وهو ما يسميه معنى المعنى.
أما الفصل الثالث والأخير من الكتاب فيمكن اعتباره فصل مقارنات بامتياز، إذ لم يكتف بالمقارنة بين الشاهدين القرآني والشعري في “أسرار البلاغة”، بل قارن أيضا بين الشواهد الشعرية المفردة (شطر أو بيت) والشواهد الشعرية التي قد تطول حتى تبلغ ستة عشر بيتا (16). فلئن كان الصنف الأول سائدا منذ القديم، فإن الجرجاني لم يُهمِل دور السياق الذي لا يكتمل فهم أبعاد البيت فيه، إلا من خلال تعالقه بالأبيات السابقة عليه، أو التالية له. كما عقد الكاتب مقارنة بين العصور التي تنتمي إليها الشواهد الشعرية التي وظفها الجرجاني، فتبيّن أن العصر العباسي استأثر بتسعة وستين ومائتي بيت (269). ويعزو الباحث احتفاء المؤلِّف بالشعر العباسي إلى ما أصبح عليه الشعر في عصره من انصراف الناس عنه، وزهدهم في حفظه وروايته، فسعى إلى دحض دعواهم، وبيان أن الشعر سبيل لمعرفة بلاغة القول، وتفسير الكتاب والسنة، والاهتداء إلى مواطن الفصاحة والبلاغة. فهو يؤمن بأن معرفة فصاحة القرآن وبلاغته لا يبلغها “إلا من عرف الشعر الذي هو ديوان العرب، وعنوان الأدب.”(6) وحتى في تفضيله للشعر العباسي فقد اختار المؤلِّف شعراء معيّنين، تميّز شعرهم بالصناعة، والاستجابة لمتطلبات البلاغة.
ولتوسيع مجال المقارنة وإغنائها استحضر الباحث عالما بلاغيا آخر، جاء بعد الجرجاني، هو أبو يعقوب يوسف السكاكي (ت. 626هـ)، الذي استدرك ما فات عبد القاهر، وتمّم ما بدأه، وجعل البلاغة علما قائما بذاته في كتابه “مفتاح العلوم”.(7) فإذا كان الجرجاني أوْلى الأهمية للشاهد الشعري، فإن السكاكي، على العكس منه جعل الشاهد القرآني هو عصب مؤلَّفه. ومردّ ذلك إلى اختلاف تصوّر الرجلين.
فالجرجاني يميل إلى تحليل الشواهد تحليلا أدبيا رصينا، يستقصي فيه عناصر الصورة الشعرية، وآليات اشتغالها في تركيب المعنى، وجماليتها، وتأثيرها في المتلقي، معتمدا على ذوق أدبي بالغ الشفافية، وقدرات نقدية عالية، بينما ينحو السكاكي منحى الدراسة الجدلية، المستندة إلى العقل في استنباط القواعد، بسبب غلبة علوم المنطق والفلسفة على تفكيره. ثم ختم الباحث هذا الفصل بنماذج تحليلية للجرجاني، من الشعر ومن القرآن، يظهر فيها الاهتمام الخاص الذي يوليه للتشبيه التمثيل خاصة، لأنه يجعل المتلقي “في حكم من يرى صورة واحدة، إلا أنه يراها تارة في المرآة، وتارة على ظاهر الأمر.”(واستنتج منها التكامل الحاصل بين الشاهدين القرآني والشعري.
وختم المؤلّف كتابه بجملة من النتائج والخلاصات التي توصّل إليها، مؤكدا أن الجرجاني قدم نظرية بلاغية ناضجة، استفادت من تراكم الدراسات السابقة، ومهّدت لما جاء بعدها من إضافات. ولئن كان الشاهد القرآني في كتاب “أسرار البلاغة” لم يحظ بالكم العددي الكبير، مقارنة مع الشاهد الشعري، فلأن رؤية الجرجاني الخاصة للشعر تعتبره وسيلة تدل على الإعجاز، وتكشف بلاغة النص القرآني، وهذا ما حدا به للإحالة إلى لغة العرب وديوانهم. إن قيمة هذا الكتاب تتجلى في المنهج العلمي الصارم الذي اعتمده الكاتب.
فقد قام بعملية إحصاء شاملة، واستقصاء دقيق للشواهد المتضمنة في كتاب “أسرار البلاغة”، ثم صنفها، بحسب طبيعتها، وسعى إلى تفسير الفروق بين نِسَبها، وبيان الخلفية المنهجية والفكرية التي جعلت المؤلِّف يُكثر من شواهد دون أخرى. كما اجتهد في المقارنة بين طريقة الجرجاني في تحليل الشاهد القرآني، وطريقته في تحليل الشاهد الشعري. ولم يغفل الإطلالة على كتاب “دلائل الإعجاز”، كلما احتاج إلى استكمال فكرة، أو حكم، أو ملاحظة. وفتح آفاقا أرحب أمام القارئ باستحضاره لبلاغيّ آخر هو السكاكي، أتاحت دراسته استنتاج الخصائص التي انفرد بها الجرجاني عن غيره من البلاغيين الآخرين. ولا يسعني، ختاما، إلا أن أهنئ الكاتب على مجهوده الكبير لتقريب كتاب “أسرار البلاغة” من القارئ العربي، وبسْطِ موضوعاته بين يديه. وهو كتاب ظل يحتفظ دوما بهالة من التوقير، جعلت الكثير من القراء يتهيّبون الدخول إلى رحابه، لما يتوسّمونه فيه من صعوبة، واستعصاء على فتح مغاليقه.
هوامش:(1) عبد الرحمن بن محمد بن خلدون ولي الدين – المقدمة – تحقيق: عبد لله محمد الدرويش – ط 1 – دار يعرب – 2004 – ج. 2 – ص. 396–(2) أبو هلال العسكري – كتاب الصناعتين – تحقيق: محمد علي البجاوي ومحمد أبو الفضل إبراهيم – دار إحياء الكتب العربية – ط 1 – 1952 – ص. 138 –(3) المرجع نفسه – ص. 138 –(4) الشريف الرضي (محمد بن حسين) – المجازات النبوية – تصحيح: مهدي هوشمند – دار الحديث – الطبعة الأولى – 1 – 2001 –(5) الجرجاني (أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن بن محمد) – أسرار البلاغة – تحقيق: محمود محمد شاكر – مطبعة المدني – دون تاريخ – ص. 393 –(6) الجرجاني (أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن بن محمد) – دلائل الإعجاز – تحقيق محمود محمد شاكر – مكتبة الخانجي – القاهرة – الطبعة الثانية – 1989 – ص. 8 – (7) السكاكي (أبويعقوب يوسف بن أبي بكر محمد بن علي) – ضبطه وكتب هوامشه وعلق عليه: نعيم زرزور – دار الكتب العلمية – بيروت – الطبعة الثانية – 1987 – ( أسرار البلاغة – مرجع سابق – ص. 236 –